ناحية من الحرب السياسية بعد الحرب

نعتقد أنّ أبلغ وصف لأسباب هذه الحرب العالمية الثانية ومراميها هو الوصف الذي أبداه زعيم الحزب السوري القومي في نبوءاته السابقة عن هذه الحرب وبعد حدوثها. قال الزعيم إنّ هذه الحرب هي حرب مصالح لا حرب مبادىء كما يحاول المتحاربون إيهام الشعوب. إنها نزاع على الموارد الاقتصادية والمواد الأولية في العالم بين دول تحاول نيل غنيمة جديدة من هذه الموارد والمواد تخولها رفع مستوى حياتها وزيادة قوّتها، ودول تريد الاحتفاظ بكل ما في أيديها من هذه الأسباب والاستزادة منها.

ضمن دائرة هذه الحقيقة تتصارع النظريات والمبادىء والعقائد ليس فقط فيما بين الأمم المتحاربة، بل بين الأمم المتحالفة أيضاً التي لا تجد في تحالفها ضد عدو مشترك ما يوجب عليها التنازل عن مطامح ومرامي سياسية واقتصادية تتعلق بالتصفية السياسية – الاقتصادية لهذه الحرب الطاحنة.

ضمن هذه الدائرة جرت محادثات برلين ورومة قبيل هذه الحرب وفي أوائلها، حين كان النصر يلوح ويبسم في أوروبة لهاتين الدولتين. وضمنها جرت محادثات موسكو وطهران بين روسية وأميركانية وبريطانية ومحادثات لندن الأخيرة بين الوزير الثاني لوزارة خارجية أميركانية ورجال حكومة بريطانية، أولاً، وبين رؤساء وزارات بريطانية والأمم التابعة للتاج البريطاني.

إن محادثات موسكو وطهران التي قالت فيها الحركة السورية القومية الاجتماعية رأيها الأولي كانت هامة جدًّا لأنها تناولت، بلا ريب، الخطوط الكبرى لسياسات الدول الكبرى الثلاث التي اشتركت فيها والتي ستكون أقطاب السياسة الإنترناسيونية بعد هذه الحرب إذا كان النصر الأخير فيها لها.

مع أنّ بريطانية وأميركانية تفاهمتا على الموقف السياسي قبل مؤتمر موسكو فإن تفاهمهما لم يشمل سوى المسائل السياسية والاقتصادية المتعلقة بشرق أوروبة وشمالها وجنوبها وبعض عرب آسية، إلى المناطق التي تريد السياسة الروسية أن يكون لها دخل مباشر فيها.

لم يعنِ تفاهم بريطانية وأميركانية في صدد الموقف السياسي تجاه مطاليب روسية أنهما متفاهمتان على جميع المسائل والقضايا السياسية والاقتصادية الإنترناسيونية التي لكل منهما مصالح هامة فيها. وقد ظهر الاحتكاك والتضارب بين مصالح هاتين الدولتين في قضايا استغلال آبار النفط في سورية وخليج العجم والعُربة وإيران. وظهر ذلك أيضاً في مسائل متعلقة بشؤون بعض أمم الثروة أو “الفيء، المشترك” (هو تعبير إنكليزي يطلق على مجموعة الأمم البريطانية التابعة للتاج) فإن عجز بريطانية الأم عن حماية أسترالية وزيلندة الجديدة في المحيط الهادىء، وقيام أميركانية بإمدادها بالعتاد الحربية والرجال للوقوف في وجه الهجوم الياباني. ووجود كندا في الفضاء الأميركي الذي تهيمن فيه السياسة الأميركانية وجدت مسائل اضطرت السياسيين البريطانيين إلى عرضها في خطب عمومية، أهمها، فى هذا الصدد، خطب وزير خارجية بريطانية، أنطوني إيدن في أميركانية وكندا بمناسبة زيارته الأخيرة لهما.

ثم ظهر تصادم آخر بين مصالح بريطانية وأميركانية في قضايا المسالك الجوية ومحطات الطيران المدني أو التجاري.

يهمنا من هذه الشؤون، في الدرجة الأولى، ما له علاقة بمصير أمتنا ووطننا. وبعد محادثات موسكو وطهران تأتي في الدرجة الأولى من الأهمية محادثات لندن استتينيوس. وتهمنا هذه المحادثات بصورة خاصة لمجرّد أنّ مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى وأفريقية في وزارة خارجية الولايات المتحدة، السيد ولسن موراي، كان من جملة أفراد تلك البعثة.

فما لا شك فيه أنّ عزم أميركانية على مد أنابيب نفط من خليج العجم إلى سورية، عبر العُربة، يجعل لمصالح الولايات المتحدة تدخلاً فعليًّا، مباشراً في شؤون الشرق الأدنى السياسية. وفي ذلك من الاحتكاك أو التصادم بين سياسة بريطانية وسياسة أميركانية ما لا يمكن إخفاؤه.

ولا مشاحة في أنّ سورية نظراً لغناها في المواد الكيماوية الصناعية والنفط وبعض المعادن. ونظراً لأهمية موقعها في خطوط المواصلات البحرية والجوية والبرية ستكون بعد هذه الحرب الطاحنة، من أهم ميادين العراك السياسي – الاقتصادي في العالم. لا يمكن دولة طامحة إلى لعب دور سياسي – اقتصادي أولي في شؤون العالم إغفال سورية في تخطيطها السياسي او إهمالها.

كانت سورية بعد الحرب الماضية. المركز الذي اشتد فيه التصادم والتنازع السياسي والاقتصادي بين بريطانية وفرنسة. وستكون سورية بعد هذه الحرب العالمية الثانية. الموقع الذي سيشتد فيه التزاحم والتنازع بين بريطانية وأميركانية وروسية – هذا في حالة حصول النصر النهائي في هذه الحرب لهذه الدول الكبيرة. وكلما تقدمت هذه الدول نحو النصر الأخير ازدادت وضوحاً وقوة المشاكل السياسية التي ستنشأ لها لكل منها – في سورية وفي مراكز أخرى في العالم. وبقدر خسارة بريطانية وأميركانية من السلطة والمصالح الاقتصادية في الصين وجزر الهادىء الكبرى، سيشتد اهتمامها بالتعويض عن هذه الخسارة في أنحاء أخرى، أهمها سورية المجزأة والشرق الأدنى.

لم تكن نصائح وندل ولكي وتعيين أميركانية معتمداً سياسيًّا لدى حكومتي الشام ولبنان سوى الخطوات الأولى لترقية أهمية سورية والشرق الأدنى في نظر السياسة الأميركانية.

ويمكن أن نلخّص تنبؤنا بالقضايا السياسة المقبلة في سورية على هذه الصورة:

تستند السياسة الأميركانية في سورية على تأييدها مشروع الدولة اليهودية في فلسطين، وعلى حماية المخاوف المسيحية في لبنان.

وتستند السياسة البريطانية على تفاهمها الجديد مع حزب الوفد المصري والحكومة العراقية لإيجاد أي شكل من أشكال التحالف، أو الاتفاق العربي الظاهري لجذب أكثرية سورية المحمدية إلى هذا التيار السياسي البريطاني بينما نحافظ، ما أمكن، على التعاون اليهودي.

وتستند روسية إلى مشاكل الجماعات العرقية في سوريه، فضلاً عن الدعاوة الشيوعية، ليكون لها دخل مباشر أو شبه مباشر في حالة سورية السياسية. ويجب أن لا نغفل أهمية الحدث الروسي الجديد الذي أعلنته الأنباء البرقية منذ أسابيع، ألا وهو عزم روسية على توثيق علاقاتها السياسية بمناطق الشرق الأدنى بإنشائها تمثيلاً سياسيًّا للجمهورية السوفييتية الأرمنية تجاه حكومتي لبنان والشام.

‎ ‎ ‏هذه باختصار هي وجوه القضايا السياسية التي ستواجهها سورية القومية الاجتماعية بعد انتهاء هذه الحرب.

ولسنا ندري كم عدّلت منها محادثات إستتينيوس في لندن ولا كم ستعدّل منها المحادثات التي ستأتي بمناسبة مؤتمر الصلح المقبل وقبله وبعده.

وإذا حدثت مفاجآت حربية ليست في الحسبان، وتمكنت من تغيير مجرى الحرب المتجه الآن لمصلحة بريطانية وأميركانية وروسية فيكون لذلك حديث آخر

 الزوبعة، بوينُس آيرس،
العدد 77، 15/5/1944

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى