نسر الزعامة السورية القومية ووحل تكمان وذبابها

 نسر الزعامة السورية القومية ووحل تكمان وذبابها (1)

آخر الملعونين الذين سقطوا من الحزب السوري القومي لانفضاح سوء طويتهم ومثالبهم هو: المدعو جبران مسوح. وهذا الشخص الذي بقي إلى اخر ساعة – ساعة طرده الزعيم من حضرته في المحل التجاري أمام شهود من الناس سوريين وأجانب – يتظاهر بالغيرة على النظام القومي الاجتماعي والتفاني في سبيل الزعيم وسلامته، لم يختلف عن الذين سقطو ا قبله في شيء. مثل كل واحد منهم صار ينادي بعد سقوطه أنّ الزعيم ناقص وضعيف الرأي وسخيف الفكر، الخ. ومثل كل واحد منهم لم يكن يرى للزعيم نقصاً أو ضعفاً إلا بعد أن أقصاه الزعيم لظهور خيانته أو غدره أو نفاقه أو خساسة غايته، أو جميع هذه المثالب متحدة!

يتذكر الذين تتبعوا حوادث الحزب السوري القومي في الأرجنتين كيف كان خالد اديب، قبل طرده، يقول “إن الزعيم لا يغلط”. وهو كان يقول ذلك عن اقتناع تام لما رآه من أعمال الزعيم الباهرة. ولكنه كان يظن أنّ مرض الزعيم في الأرجنتين سيرفع قيود الواجب والنظام عنه، وأنّ “دهاءه”، الذي كان مغترًّا به يخفي عن الزعيم أعماله المنكرة، حتى إذا كشف الزعيم عن حقيقته أمام جمهور القوميين وأثبت بالأدلة والوثائق التي بيده التي اعترف بصحتها خالد أديب أمام الجمهور المذكور وأمضى مرسوماً يطرده من الحزب، بعد أن أعياه إصلاحه، صار يقول إنّ الزعيم ضعيف السياسة أخرق الرأي وإنه (خالد أديب) “قد اختلف معه على مسألة تشكوسلوفاكية، الخ!”. ولكن مرت الأيام وكرّت الأعوام ولم يجد خالد أديب رجلاً آخر في العالم يتفق أو يختلف معه على قضية تشكوسلوفاكية أو يوغوسلافية أو الصين أو الهند.

هكذا جبران مسوح، بعد أن أزاح الزعيم قناع الرياء عن سحنته، صار يرى الزعيم “مكيافليًّا” على نسبة ما التقطه من مجلة الهلال أو غيرها عن مكيافلي وفلسفته السياسية وضعيف الرأي وسخيفه في المسائل التجارية على الأقل، وكثير الغرور ‎والأحلام إلى غير ذلك من النقائص الممتلئة بها نفسيته هو كما سنبيّن ذلك بالوثائق ‎ ‏ التي يلعن هو، جبران مسوح، وجودها لأنها ستطبع شخصه بطابعها الذي لا يمحى.

لم يأتِ جبران مسوح، بعد سقوطه، بشيء غير متوقع إلا عبارة واحدة هائلة جعلها في رأس الصحيفة التي أنشأها للدفاع عن خيانته وغدره وسمّاها الإخاء. هذه العبارة الهائلة التي أخافت الإنس والجن هي: “تصدر حسب اللزوم”!

سبق قولنا في العدد الماضي (ص 81 أعلاه) الذي أمطنا فيه اللثام عن وجه جبران مسوح الحقيقي أنه لا يوجد مجرم يحكم عليه القاضى بجريمته إلا ويرى حكم القاضي جائراً وجريمته هو مبررة بحجج وتأويلات تقنعه هو وتقنع من لهم مصلحة في ذلك. وكل مجرم تدفعه إلى الإجرام دوافع خسيسة، يفكر كثيراً في كيفية ستر

جريمته، ويتخذ ما أمكن من الاحتياطات للتنصل من تبعتها فيلجأ، من بادىء الأمر، إلى الإنكار وتحوير الوقائع لما يوافق مصلحته ويبعد الدليل ما أمكن، عن جريمته.

ومن هذه الناحية لم يشذ جبران مسوح عن غيره، بل إنّ إصداره صحيفة الإخاء لتشويه الحقائق وإبعاد الأدلة عن ارتكابه القبيح هو دليل ساطع على أنه كان متهيئاً، هو دليل للإنكار والتحوير والتحريف.

يوجد خطة لا بد أن يكون عرفها ومارسها جبران مسوح الذي روى للزعيم في توكومان كيف خدع صاحب الدار التى استأجرها إبنه في شارع مايفو لتجارته، وكيف خدع فلاناً وفلاناً، وكيف أنه يجوز للتاجر ادّعاء كذا وقول كذا حسب ما يوافق المصلحة. هذه للخطة يعرفها الأميركان بقولهم: أطلق رصاصك أولاً ثم جادل، ويمكن أن يكون جبران مسوح قد حوّلها بأسلوبه الشعبي العامي إلى القول: إختلس مال زعيمك أولاً ثم جادل، وارمه بكل تهمة دفاعاً عن جرمك(1)“.

ولكي لا يكون هذا التحليل لنفسية جبران مسوح ومثالبه بلا شاهد يستند إليه سنورد حوادث قليلة نأتي بمستند لها بخط جبران مسوح وإمضانه:

بعد أن تمّت الشركة بين سعاده ومسوح دخل شخص المحل التجاري يريد شراء دواة حبر من نوع جيد. وكان مسوح قد وضع في الواجهة نموذجاً من الدواة مع السعر المحدد للبيع. ولكن مسوح طلب ثمناً أعلى من السعر المحدد وباع بالثمن الذي طلبه، فانتقده الزعيم لهذه المعاملة وقال له: “إن هذا غلط فاحش”، وسأله: “ماذا كان يقول الزبون عن محلنا لو اتفق أن رأى النموذج المعروض في الواجهة؟” فقال مسوح: “نقول له إنّ ذاك سعر قديم بقي في الواجهة سهواً أو نقول له إن السعر هو لصنف آخر وضع للحبر غلطاً أو نقول أشياء كثيرة يجوز للتاجر أن يقولها!”.

وفي أصيل سنة 1943، وقد زاد عدد الداخلين في نطاق الحركة السورية القومية كتب جبران مسوح إلى الزعيم كتاباً أرّخه في 29 أكتوبر/تشرين الأول يقول فيه “اتفقنا هنا أن نذيع هذه الكلمة: إنّ الجمعية السورية الثقافية تقبل كل طبقات الشعب إلا طبقة الأغنياء”، ثم قال قبل ختامه: “ننتظر جميعاً أمر معاليكم بهذا الصدد حتى إذا

كانت الفكرة غير صائبة نسحبها حالاً وندّعي أن لا أصل لها وأنّ البعض أذاعوها لقلة خبرتهم او لحداثة عهدهم أو ما أشبه!” (هذا الكتاب موجود بين محفوظات مكتب الزعيم ويمكن أخذ صورة زنكغراف عنه “عند اللزوم” وهو من “الوثاثق الملعونة التي ما كان يجب أن يحتفظ بها الزعيم لتقيم الدليل على نوع سلوك جبران مسوح ومثالب نفسيته!”).

اختلس ثم ادّعِ أنه غرّ، جاهل، مبذّر، وقل فيه كل ما “يجوز” وما لا يجوز للتاجر قوله وكل كلمة شريرة دفاعاً عما ابتلعته وحولك وذهبت به أناملك وامتصه ذبابك.

وبعد كل هذه الفظائع التي تقشعر لها الأبالسة قل إنّ كبرياءك فقد قد انجرحت بالفضيحة التي نشرت خلاصتها الزوبعة وأظهرت مثالبك للناس! وحافظ على صفاقة وجهك وجاوز بالوقاحة والتهجم كل الحدود المعروفة وغير المعروفة من قبل في عالم الرذائل والدنايا، لأن شدة الوقاحة قد توهم الناس أنّ هنالك دفاعاً عن حق!

سيأتي في سرد حوادث جبران مسوح مع الزعيم والحزب وشرحها ما يزيد مخاتلة ذاك الشخص ورياءه وضوحاً.

إنّ خساسة تفكير جبران مسوح ونجاسة شعوره اللتين انكشفتا انكشافاً لا ستر له لم تكونا لتظهرا بكل قبحها لو لم يكن أظهر في دفاعه عن جرمه كل تعمده الدفاع بكل فرية وكل تأويل بعيد عن الحقيقة.

إننا نعدّ الدفاع حقًّا لكل إنسان، بريئاً كان أم مذنباً، ولذلك لا ننكر على جبران مسوح أن يحاول الدفاع عن نفسه بإظهار ما يوهم البراءة من الذنب، ولكن ليس في ذلك مانع من عدَّ دفاعه وطريقته في جملة الأدلة على ذنبه، لأن دفاعهم في نوعه وأسلوبه، هو دفاع المذنب الذي يحاول إخفاء الواقع وتضليل التحقيق بالكلام على مواضيع لا دخل لها في ما قد حكم عليه به، كقوله عن الزعيم انه “سياسي وكثير الأحلام وواسع الخيال” وغير ذلك. وهذا كلام القصد منه صرف الفكر عن الموضوع الأساسي الذي هو خيانة جبران مسوح عائلته تحت ستار الحزب السوري القومي ثم خيانة زعيمه تحت ستار التجارة.

ولما كان جبران مسوح قد أطلق الموضوع من النقطة المحصور فيها ليشمل القضية السورية القومية وأنطون سعاده وعلاقته بهما، ويصل إلى درجة الوقاحة التي ليس بعدها وقاحة بمحاولته وصف أنطون سعاده وترجمة نفسيته وأفكاره ونظرياته بما تمليه عليه ظلمات نفسه الشريرة، فلا بد من الإحاطة بجمع هذه المسالك حتى لا يتمكن ذو الذنب من مواراة إثمه في أي منعرج من منعرجاتها.

الهاربون من الحق والعدل كلهم لهم خطة واحدة وسلوك واحد هو: الابتعاد عن نقطة الجريمة في كل طريق يلوح للهارب أنها تساعده على إخفاء الموضوع والتواري عن نظر التحقيق وعين العدل.

والحق والعدل لهما خطة واحدة في تعقّب المجرمين هي: الإتيان بالدليل تلو الدليل وإظهار الحقيقة بنور الأدلة القاطعة التي لا تدفعها التأويلات الملتوية.

قلنا إنّ دفاع جبران مسوح عن نفسه يحمل كل أدلَّة دفاع المذنب عن نفسه، هو دفاع الذي تضطره حاجة الدفاع لتركيب تلفيقات اعتباطية لا يشعر، تحت إلحاح الحاجة، بالتباين الكبير في حقائقها. من ذلك قوله عن أنطون سعاده إنه “كثير الأحلام والخيالات ويقيم في الهواء بنايات تنطح السحاب”، وإنه “سياسي قبل كل شيء” وإنه “من تلامذة مكيافلي” وإن الزعيم أخذ عن الرجال الذين قاموا بنهضات في بلادهم باستخدامهم القوة لتنفيذ خططهم ناقلين مبادىء مكيافلي من حيّز الكلام إلى حيّز العمل، مثل هتلر وموسوليني وستالين ومصطفى كمال، إلى قوله: ولكني أقول بوجه الإجمال إنّ العالم باسره صار يئن من الويلات التي جلبتها تلك التعاليم” ثم قوله: “فأنطون سعاده مسيطر “ديكتاتور” ولكن هذه السيطرة هو يسميها تنظيم لا بد منه”. ومن ذلك قوله:

“أنطون سعاده هو ذلك الشاب الذي من يوم بدأ يفتكر، ما افتكر بغير بلاده وكيف تنهض وتتحرر من عبودياتها وتسترجع كرامتها كأمة حية وما هي أسباب تأخرها وكيف يمكن معالجتها. ودرس لذلك “أعظم لغات العالم” وطالع كل التاريخ البشري ليعرف سر تأخر الأمم وسر يقظتها ونهوضها ليطبق كل ذلك على النهضة التي بدأ يفتكر بها. ثم أنشأ الحزب وقاده وغدّاه في أصعب الظروف والأوقات حتى صارت الفكرة قضية لا يمكن أن تموت. ودخل السجون لأجل ذلك ونال اضطهادات كثيرة ولا يزال ينال إلى الآن. أنطون سعاده أوجد حركة

لم يوجدها أحد قبله، وهي الحركة الوحيدة التي يستطيع الشرق أن ينهض بها. ومهما عاند وكابر رجال السياسة وقادة الفكر فلن يجدوا غير مباديه لإيجاد الإصلاح الذي ينشدونه، وسوف يعودون إليها صاغرين”.

فأين مبادىء مكيافلي السياسية، كما يفهمها جبران مسوح وأمثاله من المفتقرين كثيراً إلى العلم الصحيح فى هذه الفلسفات والقضايا الكبيرة على عقولهم من مبادىء سعاده القومية الاصلاحية؟ وكيف يمكن أن يرفع أنطون سعاده تفكير جبران مسوح، حسب اعترافه بمبادىء مكيافلي؟

إنّ تلاميذ مكيافلي يمكنهم أن ينشئوا سياسات، و لكنهم لا يستطيعون ن أن ينشئوا نهضات قومية إصلاحية. وبين القولين اللذين قالهما جبران مسوح فى شخصية أنطون سعاده تناقض لا يمكن أن يكون صادراً عن تفكير نزيه في شخصية أنطون سعاده ومبادئه وتعاليمه، وفي قدوته التي كانت أعظم عامل روحي في الحركة السورية القومية.

إنّ محاولة جبران مسوح أن يقول في الزعيم، بعد أن طرده الزعيم، إنه من تلاميذ مكيافلي وعامل بتعاليمه “التي صار العالم بأسره يئن من الويلات التي جلبتها” تذكرنا بحكاية شعبية اقليمية يرويها الناس في لبنان خلاصتها: أنه كان المير بشير الشهابي طاهٍ يرغب في إرضاء ذوق المير. فسأله المير يوماً رأيه في الباذنجان، فاستشعر الطاهي ميلاً من الأمير بشير إلى تناول شيء منه، فأخذ يطنب في محاسن الباذنجان وفوائده ويزيد في الأوصاف المشوقة حتى زاد شهية المير، فقال له أطبخ لنا باذنجان. فصدع الطاهي بالأمر وأكل المير وأصابه على أثر ذلك انزعاج أو تخمة، فأظهر استياءه من الباذنجان، فأنكر عليه المير القول وذكّره مديحه السابق، فقال الطاهي: “أنا عبد المير مش عبد الباذنجان”!

وجبران مسوح الذي غمره الزعيم معلمه وفضله وتأييده ودروسه ظل، مع كل ما اكسبه واستفاده من تعاليم الزعيم عبد شهواته ومطامعه وميوله الدنيئة، فإذا رأى فائدة لشهواته في مدح الزعيم مدحه وإذا وجد فائدة لمطامعه في ذمّه ذمَّه.

وليس حادث طاهي المير بشير،حقيقيًّا كان أم خرافيًّا، السابقة الوحيدة لتصرّف جبران مسوح، فكل تلميذ قرأ شيئاً من الأدب العربي يعلم أنّ شعراء نظموا قصائد جميلة في وصف محاسن الدنانير حتى جعلوا كل قارىء أو سامع يحبها ويرى فضلها وجمالها، ثم عادوا فنظموا قصائد معاكسة للأولى يظهرون فيها أنّ الدنانير قبيحة، غرّارة، مجلبة للكدر والشقاء.

وجبران مسوح، معهم ما رأى من قدوة الزعيم التي كتب فيها مقالات كثيرة، وتعاليمه ودروسه التي رفعت أدبه وغذّت قلمه بكل ما له قيمة في التفكير القومي الجديد، لم يرتقِ في نفسيته وشعوره ونظرته الخصوصية إلى الحياة عن نفسية طاهي المير بشير وعبده، ونظرة شعراء المدح والقدح في الدنانير عبيد الغايات القريبة التي يسخرون لها منظوماتهم.

ليس هذا التناقض الوحيد في دفاع المذنب جبران مسوح، بل هنالك تناقض آخر يقول جبران مسوح إنّ الزعيم أضاع مال إبن حميه جورج المير بتبذيره وسوء تصرفه. ثم يقول إنّ الزعيم “ما كان يجب أن ينغمس في تجارة، وما وقوعه فيها إلا وقوع النسر في حومة من الوحل” وقال في مكان آخر إنّ مال الزعيم صار يحوم عليه النفعيون “كما يحوم الذباب على قطعة لحم مهملة”.

قد يعجب القارىء كيف أنّ من غلط الأمين الدكتور فخري معلوف بتسميته “مفكراً كبيراً” يعمى عن هذه المتناقضات الكبيرة. ولكن الذين يحبون تكليف أنفسهم عناء بحث الأسباب يجدون أنّ نقائص جبران مسوح النفسية. من فكرية وشعورية، هي مشابهة لنقائصه الفيزيائية. فكما أنّ جبران مسوح حصر تأتاء وأعمى اللون، أي انه لا يميّز بين ألوان وألوان كذلك هو حصر الفكر وأعمى المنطق من الوجهة النفسية. وهو قد ظن، لعماوة منطقه، أنّ هذا الكلام يتفق مع اللون والنتيجة مع ‏ذاك الكلام.‎

ويمكن أن كون جبران مسوح ظن أنه أتى بآية من آيات الخداع الذي تمرن طويلاً عليه، فقال في آخر دفاعه عن أنطون سعاده ما هو ضمن الحقيقة المشهورة عنه ليوهم الناس أنّ الذي يعترف هذا الاعتراف بحقيقة أنطون سعاده التي أنشأت أمة جديدة وعصراً جديداً لا يمكن أن يكون ذاك الثعبان الخبيث الذي حاول نهشه، والمنافق الكبير الذي بدّل الواقع وشوهه في ما جرى لنسر الزعامة في توكومان – في وحولها وذبابها!

وفي بلادنا يقولون: أقتل القتيل وامش في جنازته!

وجبران مسوح ولد وترعرع في أحضان تلك العقلية المنحطة ورأى في حماه بلده، أشخاصاً عرفهم بعينهم يقتلون القتيل ويقبضون الغنيمة مع الوالي ويسيرون في الجنازة ويحيّيهم الناس بخشية وتهيّب. أما تعاليم سعاده المنشئة حياة جديدة فقد أدركت جبران مسوح كبيراً، ودروس انطون سعاده قد أعطت قلم جبران مسوح كل المواد التي بنى بها مقالاته القومية وغيّرت كل أدبه الكتابي، ولكن داخلية قلب الشخص لم تتغير وبقيت في نفسه زوايا مظلمة ومقفلة لا يدخلها نور الحياة الجديدة.

كتاباته كانت صناعة حياكة اتخذ أفكار الزعيم وأقواله وأحاديثه خيوطاً لها، أما نفسه فكانت الحياة القديمة – حياة المثالب والانحطاط والمفاسد – قد مدَّت جذوراً عميقة فيها لم يعد من الممكن استئصالها.

إنّ نفسية أقتل القتيل وامش في جنازته لم تمت في جران مسوح، ولكنها كانت كامنة حتى ثارت ثورة شهوانية وبدت نواجذ شرهه ونهمه، فعادت تلك النفسية تسري في عروقه. وقد حذّر الزعيم من ثمة شخص قال فيه جبران مسوح إنه مجنون وآخرون قالوا في إنه ثرثار وإسم هذا الشخص بشارة عواد وهو يصدر مجلة اسمها الوداد.

من مدة نحو سنتين أصدر صاحب الوداد عدداً أثبت فيه مقالة بعنوان “الزوبعة وبقية الصحافيين” وإننا نرى أن نثبتها هنا لأنها أعلنت حقيقة جبران مسوح وكان كأنه نبوءة لما سيأتيه جبران مسوح ضد الزعيم. والمثل يقول “مجنون يتكلم وعاقل يفهم”.

إننا ننشر المقالة المذكورة آنفاً فيما يلي بحروفها وأغلاطها الصرفية والنحوية لتبقى بالصفة التي صدرت فيها وإليكها:

‎ ‏”الزوبعة وبقية الصحافيون”

“يسألوني الناس عن حضرة الأستاذ أنطون سعاده رئيس الحزب السوري.

“وهل نقدر ننكر مقدرة الزعيم وذكائه بفن الأدب.

“فنحن السوريين بحاجة ماسة إلى رجل قدير من أمثال الزعيم أنطونيو سعاده كى يعلمنا على الأدب ويرفع تلك الغباشة عن عيوننا لأن هؤلاء الصحافيون كتاباتهم لا تفيدنا شيئاً لكون أنهم عميان وهل أعمى يقدر أن يقود أعمى ويهديه على الطريق.

“نعم حضرة الزعيم أنطونيو سعاده رجل فطين عنده الفهم الكافي لم يو جد من أمثاله بين الأدباء لأنه عالم قدير على حسب المواضيع التي سمعناها منه والأبواب التي طرقها والبراهين التي جابها والتعبير الجميل عندما بدأ يشرح لنا عن الديانات في إمضاء هاني بعل.

“لا أظن عالم أو فيلسوف يقدر أن يضرب على ذلك الوتر الصافي ويخوض في بحور ديانه الإسلامية والمسيحية ويشرح لنا عن آيات المصحف حرفيًّا فهذه الأبواب لا يقدر عليها حتى ولا أبلغ الكتاب.

“إنما يجب على كل عاقل أن يحترم أفكار أنطونيو سعاده نظراً بما في دماغه من النورالساطع الذي يشع إلى كل الجهات.

“بل، إنما رأيت العجب كيف حضرة الزعيم يصحب رجل خائن بلا ضمير مثل جبران مسوح.

“ومن البلية دايماً يذكر إسمه على صفحات الزوبعة ويفتخر به.

“إعلم أنه لا يوافق ولا بوجه من الوجوه أن تجعل أول مسطرة من بضاعتك رجل خائن بلا ضمير مثل جبران مسوح حفظاً إلى وظيفتك التي أنت فيها لكون تضر نفسك ولا أحد يصدق بما تقول طالما تتكل على جبران مسوح وتصدق كلامه.

“إياك نعتقد في مديحه لك لأن مديحه سم قاتل.

“وإذا لم ترفضه من الحزب تضر نفسك.

“لأن هذا الرجل مثل الحية تماماً تغشك في نعومتها ولكن متى صار لها وقت لا

تقصر عن لسعك”.

لسنا ندري هل صاحب المقالة المتقدمة مجنون كما يقول جبران مسوح، ولكننا نعلم الآن أنه قال حقيقة تشبه الحقيقة التي قالها مجنون آخر عرف في الروايات التي كتبت في مقتل القائد الرومي يوليوس قيصر، إذ اعترض قيصر وهو في طريقه إلى الكابتول وأخذ يحذره من منتصف مارس/آذار فلم يعبأ قيصر بتحذيره ولكن الحقيقة كانت في ما قاله ذاك الأبله. ففي منتصف مارس/آذار غدر بوتوس وكاسيوس وكسكا واعوانهم بقيصر بروتوس يوليوس قيصر، الذي أحبه وأعزه وأكرمه، الطعنة القاضية.

وإذا كان يجوز أن نأتي بذكر المجنون الرومي الذي حذّر قيصر من يوم شؤم للمقارنة مع من يسميه جبران مسوح مجنوناً، فلا يجوز ذكر بروتوس للمقارنة مع جبران مسوح لأن ذاك كان ذا عقيدة، وعمل بدافع عقيدته في ما هو أفضل لرومة، أما جبران مسوح فقد عمل بدافع الطبع ومن أجل كمية مالية حقيرة، على ما لها من الأهمية فى المحل التجاري المنشأ حديثاً.

ويجب الالتفات إلى نعت الخيانة الذي يصف يه يشارة عواد جبران مسوح فالظاهر أنّ بشارة عواد كان يعلم أشياء عن مسوح ويعرف من زمان أنه كان في عاد المأجورين لتحبيذ احتلال فرنسة سورية كما سنبيّن ذلك. وقوله فيه إنه “بلا ضمير” يجد في فضيحة جبران مسوح أكبر مصداق له. وقوله أيضاً بعدم تصديق مديح مسوح وإنّ مديحه “سم قاتل”، وإذ هذا الشخص هو “مثل الحية تماماً تغشك في نعومتها ولكن متى صار لها وقت لا تقصر عن لسعك”، كل ذلك أقوال أصابت كبد الحقيقة. ولا ننسى أنّ بشارة عواد هو حموي، أي إبن بلد جبران مسوح، ولا بد أن يكون يعرف أموراً كثيرة لا يعرفها الذين عرفوا جبران مسوح في الأرجنتين.

أتى جبران مسوح في دفاعه التحاملي ببعض حقائق ثم دس بينها كل الافتراءات والأكاذيب التي خطر له أنها تفيده وتحوّل نظر التحقيق عنه. وبين الحقائق القليلة التي ذكرها جبران مسوح من غير أن يشعر بمقدار ما تشهد على كذبه وتأويلاته الملتوية اعترافه بأن “ذباب” توكومان أخذ يحوم حول مال الزعيم، وأنّ نزول الزعيم إلى ميدان التجارة لم يكن إلا وقوع في حومة من الوحل. فما هي هذه التجارة التي لم تكن إلا حومة من الوحل أُعدّت ليسقط فيها نسر الزعامة وما هو ذاك الذباب الذي أخذ يحوم حول مال الزعيم ليمتصه؟

إننا سنبين كل ذلك بتفصيل لا يدع مجالاً لشبهة او لالتباس، ولكننا سنبدأ من أول علاقة لجبران مسوح بالحركة السورية القومية الاجتماعية لأنه هو قد شاء ذلك:

جاء حبيب اسطفان الأرجنتين فالتحق به جبران مسوح محاولاً أن يرقى على شهرته وأنشأ الاثنان مجلة التمدن التي وقعت في يدنا بضعة أعداد منها، إذا صح أن تكون نموذجاً لها صح أن يقال فيها إنها كانت تملأ بأتفه المواضيع. ثم ماتت تلك المجلة وافترق الاثنان “على حب”.

وجاء الأرجنتين ميشال صباغ صاحب القاموس العربي الإسباني، فصحبه جبران مسوح ليقال عنه إنه يناصر الأدب والعلم، كما يقال عن جرجي باز في سورية إنه “نصير المرأة”، لأنه يزج نفسه في جميع المناسبات منتصراً للمرأة بشكل من الأشكال، وابتغاء أمور أخرى. وهذه الأمور متعددة، متنوعة وأهمها استغلال معرفة صباغ باللغة الإسبانية ليترجم بعض كتابات جبران مسوح “أديباً انترناسيونيًّا” وبالفعل ترجم صباغ كتاب مسوح “مقيد ولكنه يمشي” ثم عرض المؤلف والمترجم ذاك الكتاب على شركة طباعة أرجنتينية لعلها تشتري حقوق طبع السفر “النفيس”. ولكن الشركة قالت إنّ موضوعه قديم جدًّا لا يصح تقديمه للفكر العصري، فغضب جبران مسوح إلى الشركة ونكاية بها طبع الترجمة على نفقته وتعزى صباغ بما كتبه عن مسوح!

وأخيراً جاء الزعيم الأرجنتين وهو لم يكن يسمع قط باسم جبران مسوح. والزعيم، من حيث هو زعيم هو قائد حركة قد طرق الخافقين ذكر أفعاله ومآثره وهو، من حيث هو شخص قد أتى لمبادىء جديدة وبعث أمة دفينة فيمكن التقرب اليه بإحساس قوي بالغنم!

ولكن الزعيم كان مريضأ فاكتفى جبران مسوح بالاقتراب من أحد مرافقيه أولاً

ثم دخل صفوف الحزب السوري القومي وحظي فيما بعد بمقابلة الزعيم وكتب مقالته

“كيف عرفت الزعيم”.

‎ ‏ والحقيقة أنّ قبول أمثال جبران مسوح في الحزب السوري القومي جرى تساهل كثير، بل بتجاوز وإهمال للأصول، فى حالة ضعف شديد كان ملمًّا بالزعيم جعل خالد أديب شبه مطلق التصرف فى مسائل الإدخال، ومعفياً من مراجعة الزعيم في كل مسالة منها، وكانت الحالة تقضي السرعة، لأن خطة الزعيم كانت أن لا يبقى في الأرجنتين أكثر من ستة أشهر وكان خالد أديب قد انصرف إلى أنواع من اللهو والبطر أفسدت روحيته القومية، وجعلته يهمل واجباته ويغفل الأصول والتقاليد الحزبية، ‎ ‏إلى ان انتهى أمره بالسقوط بالكلية والطرد من الحزب كما طرد قبله غيره. ولكن الزعيم عندما علم ما أتمه خالد أديب، انتقد خطته انتقاداً شديداً ولامه لاتجاهه إلى الشيوخ الذين كان قانون الحزب يحظّر إدخالهم بتاتاً، ثم تعدّل القانون وسمح بإدخال بعضهم بشروط لم تراع في إدخال من طردوا. وكان الواجب يقضي بالاتجاه إلى الشباب أولاً، لأنهم المادة الأكثر نقاوة من أبناء الجيل الأقرب إلى اكتساب الروحية القومية الصحيحة. أما الشيوخ وخصوصاً الذين مارسوا الصحافة والأدب واشتغلوا في المسائل العمومية، أي الذين خسروا جميع أنواع المنافقة والمراءاة وعالجوا كل ضروب الغش والاحتيال في بيئة وزمن كان الغش والاحتيال يعدّان فيهما من فضائل الرجولة ومكارم البطولة، فكانت خطة الحزب تجنبهم ما أمكن، اتقاء لشرورهم وصيانة للشبان والأحدث من أن تتسرب إليهم مفاسدهم. ولكن خالد أديب لم يكن له وقت للبحث عن الشبان السوريين في بوينُس آيرس، فإن شرب الويسكي والبحث عن الملاح وارتياد دور الملاهي لم تترك له وقتاً لضرب المواعيد مع الشبان للبحث في القضية السورية القومية. فألقى حبل الأمور على غاربها. وهكذا صار جبران مسوح وأمثاله “رفقاء” في الحزب.

ما كاد يُذاع خبر دخول جبران مسوح نطاق الحزب السوري القومي حتى “أخذت تنهال عليه الانتقادات” وبلغ الأمر حد قول أحدهم إنّ جبران مسوح قد “خسر شخصيته”. وكان ذلك مدعاة لتشنج عنيف هز جميع دور الأدب والعلم وأوساطها. فكتب إليه “المجمع العلمي العربي”، ونقابة المحامين، وأساتدة الجامعة السورية، وأساتذة قسم التجهيز في دمشق، و”المجمع العلمي اللبناني”، ونقابة المحامين، وأساتذة الجامعة الاميركانية فى بيروت، واشترك جميع حملة الأقلام في سورية ومصر بالكتابة إليه يرجونه أن لا يضيّع شخصيته الرفيعة بالانقياد لزعامة “دكتاتور” إسمه أنطون سعاده ويقال إنّ الجمعية الدروينية في لندن و”الأكادمي” الفرنسية في باريس، وجمعية الدروس الآسيوية فى برلين، اشتركت بالكتابة والتضرع إليه أن لا ينزل هذه الكارثة بأندية الفكر الإنساني، وأن يحفظ شخصيته الحبيبة ‎للإنسانية. وكان “انهيال” الرسائل والانتقادات والتوسلات يتزايد يوماً بعد يوم وسرت‏‏ إشاعات أنّ طائفة كبيرة من تلك الانتقادات قد انهالت “من علماء المريخ وأدباء المجرة”. ويقول جبران مسوح نفسه في حادث هذه الانتقادات الهائلة إنه “اشترك بها ‏(لا فيها) كل أصدقائه وكل أقربائه وكل أافراد عانلته”! كل أولئك، يا للهول! فقد زلزلت الأرض زلزالها وحدث في العالم كله، كله، كله، خوف شديد. ولكن الله لطف ‎ بعباده ولم يسمح بحدوث طوفان تهلك فيه الخلائق بسبب قول واحد من الناس إنّ‎ ‏ ‏جبران مسوح قد “خسر شخصيته” بانضمامه إلى الحزب السوري القومي!

أما الزعيم فلم يضطرب لاضطراب الكون، لأنه اعتاد رؤية هذه الأحداث والزلازل، وهو موقن أنه لن يجري طوفان ما دام في الوجود قوس قزح. ولكنه تحقق أن أوساطاً كثيرة واسعة، وقد تكون أكثرية النزالة السورية في الأرجنتين، ناقمة على جبران مسرح الذي حاول انتحال أدب النهضة القومية الاجتماعية قبل ان يعي فلسفتها ويدرك شيئاً جوهرياً من نظرتها إلى الحياة والفن، فكتب كتابه المسيحي والمسلم وأورد فيه، عدا ما اقتبسه، أفكاراً خصوصية له أقل ما يقال فيها إنها من سقط المتاع، ولا تتعدى كلام كثير من الجهال في بلادنا الذين يتكلمون بلا شعور بالمسؤولية وبلا إدراك صحيح للأسباب والنتائج فقال، بكلام سوقي أو زقاقي، أن لا طريقة لإزالة الخلاف والشر وإيجاد تفاهم بين المسيحيين والمحمديين في بلادنا “أنا مسلم ولا أتغير ولن أتغير”.

هذه المسألة لم تكن مسألة “فقد شخصية” بالخضوع لنظام وطاعة “دكتاتور” ولا مسألة دعاوة ألمانية أو إيطالية، بل مسألة إهانة أكثرية الشعب، السوري في معتقده الديني. كل محمدي قرأ كتاب جبران مسوح أو بلغه خبره صار يكره جبران مسوح وإسم جبران مسوح. وجماعة كبيرة، مدركة من المسيحيين شاركت المحمديين بدفع الوطنية، في النقمة على جبران مسوح.

صار الزعيم أينما توجه وحيثما حل ودار الحديث على القضية القومية وانتشار الحزب في الأرجنتين يجد انتقادات كبيرة وحادة فى صدد قبول الحزب مثل جبران مسوح في عداده. وسار الزعيم يضطر لجعل أحاديثه محاضرات ليمحو الأثر السيّىء الذي نقشته كتابة جبران مسوح قي نفوس الناس، ولا بد من الإشارة في هذا الصدد، إلى أنّ جميع الذين كانوا يتشاءمون من دخول جبران مسوح الحزب السوري القومي، لم يكونوا من أقرباء الزعيم ولا من عائلته ولا من أصدقائه. كلهم كانوا سوريين لهم مثل ما لجبران مسوح، على الأقل، من الحق في إبداءآرائهم.

ولما أهدى ذاك المفكر العبقري، ذو الشخصية العظيمة التي اهتم الكون بأسره وأدركه الغم، لاحتمال خسارتها تحت قيادة “الدكتاتور” أنطون سعاده، كتابه العظيم إلى الزعيم نظر فيه الزعيم بهدوء ووجد أنَّ قسماً من تعابيره مجار للتفكير القومي الجديد إلى حد أنه يترجح أنه مقتبس من بعض منشوراته (هذا الترجيح صار فيما بعد أشبه باليقين لما بدر من جبران مسوح في بعص أحاديثه. أنه تسلم من رفيق قومي من عائلة الباوي في حماه منشورات قومية فيها مبادىء وشروح من النهضة) ورأى أنّ كاتب المسيحي والمسلم قد أدخل في ذلك تفكيراً، أو بالحري نزعة شعور هدام، مخرب، مجرّد من الإحساس بالمسؤولية بقدر ما هو متسربل بالجهل، فكتب إلى المبتدئ القومي جبران مسوح يبدي له، بكثير من اللطف، نظرته الجليلة في كتابه المسيحي والمسلم ثم انتهز فرصة زيارة قام بها مسوح فشرح له أخطاءه بإسهاب، ‏‏وعرّفه ضعف تفكيره وألقى عليه دروساً فى الاجتماع والتربية وعلم النفس، فهم منها‎ ‏‏مسوح المقدار الكافي ليجعله يعترف بغلطه في ما قاله بجهلٍ في صدد المحمديين و‏كتاب دينهم. وهكذا أنقذ الزعيم “شخصية” جبران مسوح، وأخذ يوجد له مركزاً يعترف ذاك الشخص بكتابات عديدة، إنّ الفضل في بلوغه يعود إلى الزعيم وعطفه عليه وعنايته بتثقيفه وتوجيه أدبه.

‏قلّما انضم أحد، يافعاً كان أو شابًّا أو رجلاً أو فتاة او امرأة، إلى الحزب السوري القومي وخلا من انتقاد من معارفه أو أصدقائه أو أهله أو أقربائه الجاهلين حقيقة الحزب وسمو غايته وعمق فلسفته. وكثير من الرفقاء، من أحداث وكبار، تعرضوا لاضطهادات كثيرة وتعذيب وتشريد من قِبَل أهلهم من أجل أنهم آمنوا بأنطون سعاده هادياً لشعبهم وبتعاليمه التي اتخذوها منهاجاً لحياتهم. ولكن. لا يوجد رفيق قومي حقيقي منهم يطاوعه عقله أو قلبه أن يذكر ممنناً، ما قاسى وتحمًّا من الصعاب، التي لا يبلغ ما “عاناه” جبران مسوح منها عشر معشارها، وأن يُبرز ذلك في معرض كلام كالمعرض الذي أنشأه جبران مسوح في “إخائه”. كل قومي حقيقي يعدّ ما تعرّض له في هذا السبيل مفخرة تسطع بها جبهته ووساماً يحافظ عليه بكل قوته ويذود عنه بيده ودمه. أصغر واحد منهم – أصغر أحداثهم – يستطيع أن يكون أستاذاً لأمثال جبران مسوح في معرفه الحقائق وفهم قيم الأمور. إنّ القومي الحقيقي ليذوب حياءٌ قبل أن يضطر إلى تزكية نفسه تجاه الحركة القومية هذه التزكية الباطلة. كل قومي صحيح ليس مثل جبران مسوح في نفسيته، ولا مثل الأعراب الذين نزلت فيهم الآية القرآنية: قالت ‏الأعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم” [سورة الحجرات رقم 49، الآية 14] يعلم أنّ شخصيته التي لا يريد شخصية غيرها هي التي اكتسبها في الحزب السوري القومي ومبادئه ونظامه، ولا يجد شيئاً آخر في العالم يوازي هذا الربح العظيم فيخجل كثيراً أن يفكر في “الانتقادات التي انهالت عليه” وفي “الصعوبات” التي واجهها. إنّ المؤمن بقضية يجعلها هي مقياساً ومحكاً له ولا يجعل نفسه مقياساً ومحكًّا له. ولكن ذاك كان شأن جميع الذين سقطوا من الحياة التي لم يقبلوا التعاليم القومية الإصلاحية إلا نطاقها، وبعد أن وزنوا هذه التعاليم بميزان تفكيرهم الخاص، ورأوا أنها تستحق أن يوافقوا عليها ويمنحوها نعمة رضاهم، ويتنازلوا عن “شخصياتهم” ليشملوها بتأييدهم مضحّين في هذا السبيل بانتقادات “كل أصدقائهم وكل أقربائهم وكل أفراد عائلاتهم”.

يا أيها المنافقون، المراؤون، المزكّون أنفسهم بأقوالكم، أنتم الفقراء إلى القضية التي جاءت تنظر في نفوسكم وأموركم وتبيّن لكم صحيح الحياة من فاسدها. إنّ تعاليمها ذات جوهر خاص يشع ويسطع في كل جهة، وكما أنه ليس لأحد فضل على النور أن يقول إني رأيته، وكذلك ليس لأحد فضل على الهداية القومية الاجتماعية أن يقول إني اهتديت بها!

إن قول جبران مسوح في “إخائه” “وكنت أقول دائماً: يجب أن نكون أمة ويجب أن يكون لنا وطن الخ”. هو قول خبيث مشوّهٌ للحقيقة، فجبران مسوح و”صار” بنعمة الهداية القومية الإصلاحية يقول، وليس صحيحاً، إنه كان دائماً” يقول إنه يجب أن نكون أمة ويجب أن يكون لنا وطن. وجبران مسوح قبل أن أسلم للنهضة السورية القومية لم يقل شيئاً في قوميتنا ووطنيتنا إلا ما كانت تدفع له الدعاوى الفرنسية من المال ليقوله في الإخاء التي عاد يستند إليها بعد سقوطه من الحياة القومية الصحيحة، وهو إننا شعب يأكل بعضنا البعض ولذلك يجب أن تأتي فرنسة وتحتل بلادنا لكي تمنعنا من ذلك وكان يقول أشياء مثل التي قالها في كتابه المسيحي والمسلم وإليك نموذجاً منها “وسوف تمر ألف سنة أخرى ولا يتغير المسلم ولا جزء من مليون من ناحية عقيدته الدينية”…. “أنا مسلم لا أتغير ولن أتغير. أانا الآن كما كنت في الماضي، وسوف أبقى كذلك إلى الأبد فأعمل أنت ما تشاء”…. “يقولون إنّ فرنسة‎ اغتصبت البلاد من أهاليها. وهذا كذب. والحقيقة أنها أخذتها بالسيف من يد الأتراك، أي على ذات الطريقة التي دخل فيها خالد بن الوليد وأبو عبيده الجراح وغيرهما. فلماذا نقول عن هؤلاء شجعاناً بواسل يجاهدون في سبيل الله، ونقول عن الفرنساويين كل كلمة شريرة.”…. “ونحن النصارى مديونون لهم بأكثر من ذلك بكثير – مديونون بحياتنا – ولولاهم لما وجد منا أحد الآن.”…. “وما أصغر الإنسان الذي يريد أن يطرح لبنان بهذا الأتون (أتون الانضمام إلى سورية) لبنان بجباله وجماله ومياهه وشعرائه وأدبائه وعلمائه وأذكيائه، يريد أن يطرحه بهذا (لا في هذا) الأتون ليربح كلمة وطني حر.”… “الشخصيات العظيمة في لبنان… هؤلاء يريدون أن يضموهم إلى سورية لتكون قيمتهم قيمة رجال البادية الذين يعيشون بين الحيوانات والزوجات والعبيد والقمل” (صارت سورية العريقة الحضارة صحراء في علم الأستاذ جبران مسوح) “إنه صار مستحيلاً علينا أن نتفاهم. لقد صار مستحيلاً أن يقف المسيحي مع المسلم في إنشاء وطن واحد وقومية واحدة.”…. “إنّ التفاهم أصبح غير ممكن فليسر كل واحد في سبيله كما هو يريد. ويجب أن ندرك هذه الحقيقة لكي لا نضيّع الوقت بلا جدوى”.

هذه الأفكار المسوّحية العظيمة التي مزجها صاحبها باستعجا كبير مع ما وصل إليه من طلائع التفكير القومي الذي ابتدأ ينتشر في سورية بواسطة الحزب السوري القومي وأثبتها في كتابه المسيحي والمسلم كان يراها أسمى ما يمكن أن يصل إليه الفكر فأعلن إعجابه بها بصورة دنكيوخوطية مضحكة. فعرّف كتابه بأنه “كتاب لم ينسج على منواله في اللغة العربية في جميع الأجيال”. ورشّح نفسه في ختام كتابه لزعامة “مفكري العرب” في كل مكان! وإليك قوله بالحرف:

“هذا أول كتاب أقدمه إليك يا بلادي. ولا أريد فيه (لا به) تحريرك من السلطات الأجنبية. كلا. فهذا موضوع لا يستحق اهتمامي ويستطيع أن يقوم به غيري (كذا)، وإذا لم يتم في هذا الجيل فسيتم في الجيل الذي بعده. ولكني أريد تحرير الفكر العربي. ذلك الفكر الذي أعطى أنواراً صحيحة في أوقات مختلفة من التاريخ ثم طاردته المظالم واضطهدته وقيدته حتى لم يعد الناس يسمعون له صوتاً. أيها المفكر العربي إياك أخاطب. ها قد نبشتك من قبرك فانهض وقِفْ على قدميك. إنّ القيود التي كنت مكبلاً بها وضعتها تحت قدمي. وسوف تبقى هذه القيود الملعونةتحت قدمي إلى الأبد. سوف أحطمها تحطيماً يصل دويه إلى كل مشارق الأرض ومغاربها… أيتها البشرية سوف تسمعين صوت الفكر العربي من جديد. ها هو يمشي إليك بالعظمة التي تعهدين. وسيتلو عليك ما لم تسمعه أذنك في كل العصور. يا مفكري العرب في كل مكان: هو ذا الفكر العربي (فكر جبران مسوح) ينهض أمامكم من جديد مكسّراً كل قيوده. فغذّوه بأدمغتكم وعقولكم وسيروا به إلى الأمام غير خائفين. ها أنا أسير أمامكم إذا شئتم، أو سيروا أنتم أمامي، وأنا أحمي صفوفكم من وراء، ولنقل جميعاً صارخين: أيتها القيود الملعونة، لن تصلي إلى الفكر العربي فيما بعد. أيها الفكر العربي: سر أينما شئت ولا تخف. إنّ طلائعك لا تعود إلا ظافرة. بعد الآن (أي بعد كتاب مسسوح) ستجد وراءك جيوشاً جرارة يعمل كل فرد منها ما يستطيعه وعليّ الباقي (أي أنّ كل ما لا تقدر الجيوش الجرارة على فعله يفعله جبران مسوح) سوف أكتب لأجلك كل ما لا يستطيع أن يكتبه سواي”.

بتلك الأفكار السخيفة بلغ جبران مسوح هذه الدرجة من الغرور والدعوى الباطلة، فنعت نفسه بمحرر الفكر العربي، وزعيم مفكري العرب، وحامي صفوفهم، والكاتب للفكر العربي كل ما لا يستطيع أن يكتبه سواه!

هنا يصح أن يقال أكثر مما يقال في أي مكان آخر: على نسبة الجهل تكون الدعوى.

وفي المسيحي والمسلم غير هذه السخافات سخافات أخرى تُظهر كم كان يجهل مسوح من أوليات الاجتماع والعمران كقوله: “والسياسة لوحدها شيء لازم للبشر، هي توجد الوطنية الحقة وتسنّ الشرائع بحسب مقتضى الحال، الخ”. فتعريف السياسة بأنها “توجد الوطنية الصحيحة وتسّن الشرائع” يمكن أن يسخر منه تلامذة المدارس الابتدائية. فضلاً عن تلامذة المدارس الثانوية ومن فوقهم.

أما شرحه، في دفاعه عن فرنسة، كيف استولت تلك الدولة على سورية مغتصبة إياها بالسيف من يد الأتراك، فدرسٌ عال في التاريخ القومي يعجز عنه أكبر مؤرخي العالم. جميع التواريخ التي تقول إن الجيش البريطاني هو الذي افتتح سورية بمساعدة الجيش العربي وشرذمات قليلة لا أهمية حربية لها من الجيش الفرنسي هي تواريخ كاذبة، ومثلها التواريخ التي تقول إنه أعلن استقلال الشام وتوّج الأمير فيصل الحسيني ملكاً عليها، واعترفت بعض الدول بهذا الاستقلال. وإنّ الجيش الفرنسي زحف بقيادة الجنرال غورو من لبنان لاحتلال الشام واغتصاب القسم الحر من سورية من أهاليها، وإنّ معركة دامية نشبت في ميسلون بين الجيش السوري المدافع عن سيادة أمته بقيادة الخالد الذكر الشهيد يوسف العظيم والجيش الفرنسي المعتدي. “هذا كله كذب” هكذا يقول المؤرخ العظيم جبران مسوح ويضيف: “والحقيقة أنها أخذتها من يد الأتراك بالسيف”.

وبهذا العمى الفكري يريد جبران مسوح أن يقول إنه نظر في دعوة الحزب السوري القومي وفي ما تحتاج إليه الأمة والوطن ومنح تلك الدعوة موافقته العليا وقبل برحابة صدره وسعة دماغه، التي أرادت أن تضم جميع “مفكري العرب‎ وجيوش الفكر العربي” تحت حمايتها. أن يكون جنديًّا للقضية القومية “مع كل ما في الأمر من الصعوبة”!

مع ذلك فلجبران مسوح أسلوب شعبي، عامر في الكتابة مستحب، وقد لاحظ ذلك الزعيم من أول كتابة قرأها له. ولم يكن بين الذين دخلوا الحزب في الأرجنتين من هو أجرأ قلماً وأحسن تعبيراً منه. الرفيق نعمان ضو كان مقلاًّ، والرفيق يعقوب ناصيف والرفيق جواد نادر انضما إلى الصفوف متأخرين. فجعل الزعيم مهمته تثقيف كتابة جبران مسوح، ورفع مستواها وتغذيتها بما أمكن من العلوم والمعارف والنظريات والتوجهات. فصار يقرّب جبران مسوح إليه ويجيب على رسائله بإسهاب و‏يتحدث إليه ويدعوه إلى بويُنس آيرس. وبديهي أنّ ذلك لم يحدث فجأة إذ كان اتصال الزعيم بالأشخاص بواسطة المرافقين فلما سافر أحدهما وسقط الثاني صار الزعيم فى حاجة إلى الاتصال بالأشخاص بنفسه. وقد رغب في تقوية روحية جبران مسوح وفهمه القضية حتى إذا قضت الظروف بسفر الزعيم يكون في الأرجتنين كاتب يمكن الاعتماد عليه في التبشير بالعقيدة والدفاع عن القضية.

وقد أصغى جبران مسوح إلى مئات أحاديث الزعيم وعشرات خطبه ومحاضراته ومئات مقالاته ورسائله، وحضر اجتماعات قومية عديدة جرت بحضور الزعيم، ورأى إدارته وتوجيهاته، وحضر قضاءه وفصله في عدة دعاوى ومشاكل، وشهد بعدله وحكمه بالحق وعدم تساهله في إقامة الحق وسحق الباطل وأظهر إعجابه

بمقدرة الزعيم.

وكلّفه الزعيم نسخ محاضر ومراسيم وكتباً في مكتبه وأملى عليه عدة رسائل في قضايا ومسائل شخصية وإدارية.

وحيث كان يلقي الزعيم محاضرات ويتفق وجود جبران مسوح كان يكلفه تدوين المحاضرة أو تلخيصها كما سمعها من الزعيم وكان جبران مسوح ضعيفاً جدًّا ‏في إدراك أهمية نقاط كثيرة اجتماعية أو سياسية أو مبدئية ترد في كلام الزعيم، فكان‏‎ ‏يدله على ما غاب عنه وعيه ويشرح له ما أشكل عليه فهمه.

وسافر الزعيم برفقة مسوح إلى توكومان واكتسب للقضية عشرات الشبان، وتحبيذ عشرات الاشخاص ذوي المنزلة الاجتماعية واحترامهم، ونظّم الذين انضموا إلى الحزب تنظيماً حسناً وأوكل إلى جبران مسوح وظيفة المشارفة على أعمال ‎‏مديريتي توكومان وسانتياغو دل أستيرو، فلم يقدر، لضعف شخصيته او لانعدامها، من اكتساب احترام عام لآرائه وكلمته فكان من الوجهة الإدارية صفراً إلى اليسار، ومن الوجهة السياسية الشخصية عبئاً على الإدارة. فكثرت الشكاوى عليه وأكثر من شكوى الآخرين، وأثار بينه وبين أصدقائه القدماء نفور!اً سببه عدم وزن كلامه في المواضيع التي لها مساس بالأشخاص وشعورهم، فكان الزعيم يحمل ذلك على محمل ضعف‎ تفكيره وتقديره للنتائج والعواقب، ولم يكن للزعيم متسع من الوقت للتحقيق في نفسية جبران مسوح وعواملها، ولم يخطر له أنّ محبة التهديم والتشفي والشماتة بالآخرين هي عامل هام من عوامل نفسية ذاك الشخص الموجودة دائماً وأبداً فى تلك الحالة ‎ الشبه مرضية التي يعبّر عنها علماء النفس بما يمكن أو يحسن أن يترجم “بغرور ‎ العجز”. وهي حالة نفسية معقده يحاول أصحابها دائماً القيام بأعمال والتفوّه بأقوال القصد منها إظهار عجزهم أو ضعفهم بمظهر القوة. وهذا كان شأن جبران مسوح دائماً. كلّفه الزعيم مرة انتقاد بذل السوريين المغتربين للقضايا الغريبة عن قوميتهم بسخاء، وشحّهم في مسائل قوميتهم فكتب مقالة بعنوان “خالهم الحصان” لم يكن معالجة للموضوع لإفهام الأغنياء ما يحسن أن يفهموه وينتظر منهم، بل كان فيها وخز ولسع، أثار مشكلاً بينه وبين أحد الرفقاء في البرازيل من أهل اليسار، واقتضى الأمر أن يتدخل الزعيم ويكتب إلى الرفيق الغني في البرازيل عدة رسائل ويكتب إلى جبران مسوح مثلها لإزالة أسباب التناظر والتنافر. وفي توكومان اكتسب عداوة أصدقاء له ليس بسبب انضمامه إلى الحزب ولا بسبب “الدكتاتور” يل بسبب كتاباته اللاذعة الهدامة الحاملة كل تشفّي العجز وانتقام الضعف. وهذه الكتابات هي من طبيعة جبران مسوح لا من تعاليم الحزب ولا من خطته.

الصغير الذي يرى صغره ويشعر به يصير له لذّة خاصة في اللذع واللسع والانتقام والتشفّي وفي طلب المظاهر المعوضة عن الضعف، واستعمال العبارات الضخمة كحماية الجيوش وتحطيم القيود، والاتيان بالمعجزات مما ليس في مقدور الأفراد ولا الجماعات كقول مسوح في كتاب المسيحي والمسلم “عليّ الباقي” الذي لم تقدر الجيوش الجرارة من رجال الفكر على فعله وقوله:. “إن القيود التي كنت مكبلاً بها وضعتها تحت قدمي وسوف تبقى هذه القيود الملعونة تحت قدمي إلى الأبد. سوف أحطمها تحطيماً يصل دويه إلى كل مشارق الأرض ومغاربها”. وهذه كلها مبالغات القصد منها ا لتعويض على ضعف حقيقة الشخص. وهذه المواقف التحطيمية هي أشبه بشيء بمواقف فروسية دنكيوخوطه الذي صار يتصور دواليب المطاحن الهوائية وأعمدتها كأنها جبابرة فيحمل عليها بسنانه، ويثخن فيها طعناً وهو يتوهم أنه يقاتل عمالقة ويصارع جبابرة.

ومع ذلك فإن الزعيم لم يفتأ يعلمه ويدربه ويرشده ويدافع عنه بين الناس، ويجد له عذراً عند أصدقائه وعائلته. وتمكّن الزعيم بصبره من تحسين كتابات جبران مسوح وتهذيب أسلوبه. ونظراً لما كان يظهر من مظاهر الإخلاص والطواعية صار يعززه ويرفع شأنه في نظر القوميين، ويوليه ثقة كبيرة ليؤيد ثقة ذاك الشخص بنفسه. وبالنظر إلى المقالات الشعبية الحسنة الأسلوب التي نسجها جبران مسوح من مبادئ النهضة وتعاليمها وشروحها النظرية والعلمية (والعملية) نعته الزعيم “بالكاتب القومي الكبير” وامتدت بسبب ذلك شهرة جبران مسوح إلى جميع الأوساط والمجاميع السورية التي انتشرت فيها الأفكار القومية، فكان بذلك تحقيق المصلحة الأولى التي رمى إليها جبران مسوح وبلغ بواسطة أنطون سعاده وتعاليمه وعنايته ما لم يبلغ عشر معشاره باشتراكه مع حبيب اسطفان أو بصحبته لميشال صباغ صاحب القاموس العربي الإسباني. فلا عجب إذا كانت غيرة جبران مسوح على الحزب والزوبعة قد زادت مع الأيام على نسبة زيادة [ما] اكتسب من علم وتدريب وشهرة ومنزلة.

للبحث استئناف

نسر الزعامة السورية القومية

ووحل تكمان وذبابها (2)

لم يكن تهذيب تفكير جبران مسوح ورفع مستواه أمراً هيناً. فهذا الشخص لم يكن له استعداد عقلي للدخول في أية قضية كلية، ونوع تفكيره لا يصلح إلا للمسائل الجزئية، كما يظهر، من غير معاناة تنقيب، وبحث، من كتاباته.

وقد تحقق الزعيم عجزه عن إدراك النقاط الجوهرية في القضايا الاجتماعية – السياسية الكبرى من عدّة امتحانات: في سنة 1940 زار الزعيم مدينة سانتياغو دل أستيرو لدعوة المواطنين إلى النهضة القومية، وصحبه في هذه الرحلة جبران مسوح. فألقى الزعيم محاضرة اشتملت على نظرية من أروع النظريات الاجتماعية – السياسية ويصح أن تسمى هذه النظرية “نظرية الديموقراطية التعبيرية”، خلافاً “للديموقراطية التمثيلية” الشائعة في العالم. وكلّف جبران مسروح، تدوين ما سيقوله وتلخيص المحاضرة لترسل إلى سورية الجديدة ففعل هذا كما أشار الزعيم. ولما عرض تلخيصه عليه وجد الزعيم أنه أغفل بالكلية شأن النظرية الخطيرة التي أعلنها، والتي هي أهم ما في تلك المحاضرة، لأنه لم يفقه لها معنى ولم يعرف لها قيمة. فاضطر الزعيم إلى تعديل التلخيص وإكماله بنفسه. ولما ظهرت نظرية الزعيم في سورية الجديدة ووصلت إلى الدارس والمفكر القومي الكبير الأمين الدكتور فخري معلوف، وهو بعد طالب فلسفة في جامعة ميشغن، في أميركانية، أدرك حالاً خطورتها ورأى أنها تصح مستند ثقة لرأي خاص كان قد توصل إليه بتفكيره الخاص في معالجة القضايا الاجتماعية – السياسية في أساسها الفلسفي من وجهة نظر عقديتنا ومبادئنا، فكتب ونشر في جريدة السمير مقالتين في الديموقراطية الجديدة ذكر فيهما نظرية الزعيم (وإن تكن السمير حذفت إسم صاحب النظرية لسبب من خصوصياتها) فكانت تانك المقالتان من أنفس الكتابات في هذه الموضوعات الجليلة التي يعجز تفكير جبران مسوح عن إدراكها وتناولها بكتاباتهم.

كان ما لخصه جبران مسوح من محاضرة الزعيم المذكورة مقتصراً على حدود تفكير الملخص، وهي حدود البسائط كالقول إنّ المحاضرة كانت عظيمة، وإنّ الناس أصغوا إليها بإعجاب، وإنّ الزعيم ذكر فيها فضل سورية في الشرائع وغيرها، وما هو من هذا النوع البسيط المحدود الذي لم يتجاوز جبران مسوح حدوده قط، لا حين كتب للعامة ولا حين كتب للخاصة. والحقيقة أنه ليس في كتاباته كلها ما هو صالح لأن يتناوله تفكير الخاصة.

كان عجز جبران مسوح عن إدراك خطورة نظرية الزعيم المذكورة آنفاً دالاًّ، ليس فقط على نقص قوته الفكرية، بل على فقره العلمي أيضاً. فأخذ الزعيم يعالج ذهن جبران مسوح بالشروح المسهبة، وصار يكرر عليه وجوب قراءة كتابه نشوء الأمم ليكتسب منه أساساً علميًّا – فلسفيًّا يمكّنه من فهم اأبحاث الاجتماعية والسياسية الهامة للمجتمع الانساني ومصيره. ولكن المصيبة كان أنّ جبران مسوح كان يحتاج إلى علوم استعدادية سابقة تساعده على فهم المسائل التي يعرض لها كتاب الزعيم نشوء الأمم وإلى مقدرة عقلية لإدراك هذه المسائل وخطورتها. فحاول أن يقرأ في كتاب الزعيم ولكنه توقف في الصفحات الأولى. وبعد جهد جهيد قرأ شيئاً في ذلك الكتاب ولكنه لم يتمكن من أن يقول فيه غير إنه “كتاب عظيم”.

إذاً لم يكن جبران مسوح مؤهلاً للاستفادة في القضايا والمسائل الكلية ذات الطبيعة الفلسفية، ولذلك لم يتمكن من إنشاء بحث واحد في قضية أو مسألة كلية، فإن له استعداداً جيداً لإدراك الجزئيات المتعلقة ببسائط الاحتياجات العمومية. ولما كانت القضية السورية القومية الإصلاحية، ككل قضية شاملة أخرى، ذات شعب جزئية عديدة وكل قاعدة عامة من قواعدها لها فروعها العملية والتطبيقية، فقد غرف جبران مسروح من سيل هذه الجزئيات كل المعاني والتعابير والآراء التي أكسبته، أو أكسبت كتاباته، تلك المنزلة التي تمتّع بها في الأوساط القومية الاجتماعية حيناً من غير أن يعرف قيمتها الصحيحة.

الحقيقة أنه إذا كان قد صار لجبران مسوح شخصية، فهي شخصية كتابية وكلها مكونة من تعاليم سعاده وإرشاداته وعباراته وأقواله. ولذلك كان قولنا في ما سبق إنّ الزعيم أنقذ شخصية جبران مسوح من باب التساهل الكبير في مجاراة غرور هذا الشخص. فالواقع أنه لم تكن لجبران مسوح، قبل اعتناقه المبادئ السورية القومية، شخصية واضحه، اللهم إلا إذا كان ما كتبه بالأجرة لمصلحة فرنسا في وطننا، أجهد دماغه في إثباته بالسفسطة من عدم إمكان اتحادنا القومي من مزايا تلك”الشخصية” الباهرة التي تستفيق الآن عوامل نفسه المريضة للندم على فقدها.

ما هي تلك الشخصية التي اراد جبران مسوح نبشها الآن ليوهم الناس أنها كانت شيئاً خطيراً؟ ومن هو “أحد حملة الأقلام في هذه البلاد” الذي يقول جبران مسوح في‎ نشرة دفاعه إنه قال عنه إنه خسر “شخصيته” بانضمامه إلى الحزب السوري القومي؟

الشخصية هي التي يضعها جبران مسوح نفسه! هي شخصية الكاتب المسلّي الذي يجتهد في صف كلمات وعبارات جميلة تسلّي الناس وتعجبهم وتلهيهم كما يقول في مقالة أخيرة له صدرت منذ بضعة أشهر في هذه الجريدة. وهي الشخصية عينها. التي، مع اعتراف جبران مسوح بها، كان، لغروره وولعه بالعظمة، يكره من ينعته بها ويحقد عليه. ولذلك حقد هو على الكاتب عينه الذي نعى له “شخصيته” لأنه وصفها بحقيقتها وحمل عليه حملة اندلعت من نيرانها ألسنة الحقد اندلاعاً ذاك “الحامل القلم” الذي عناه جبران مسوح هو عبد المسيح حداد صاحب جريدة السائح التي تصدر في أميركانية، وهو الذي قال عن جبران مسوح إنه “خسر شخصيته” وهو الذي نعت جبران مسوح “بالكاتب الظريف” واغتاظ جبران مسوح لأنه لم يطلق عليه من قاموس اللغة نعتاً غير هذا النعت!

تلك هي “الشخصية” العظيمة التي “خسرها” جبران مسوح وذاك هو “حامل القلم في البلاد” الذي نعاها إلى الأكوان!

تلك هي “الشخصية” المنكوبة في صورتها الأقل قبحاً، اما في صورتها الأكثر قبحاً فهي شخصية المأجور للاستعمار الفرنسي. شخصيه صاحب المسيحي والمسلم الذي حاول أن يدّعي لنفسه بعض تعاليم النهضة القومية، ولما لم يكن إبن بجدتها مسخها ووصل بها إلى ضدها، فقال باستحالة اتحاد السوريين من مسيحيين ومحمديين، وطعن في زعيم الحزب السوري القومي طعناً خفيًّا لأنه قال بالوحدة السورية، وحارب في المسحي والمسلم هذه الفكرة بكل قوتّه خدمه للمصالح الاستعمارية في بلادنا.

تلك هي “الشخصية” الملعونة التي يقول جبران مسوح الآن في “إخائه”، بلهجة من يشعر بتضحية عظيمة إنّ واحداً من الناس يحمل قلماً في أميركانية، وليس “في هذه البلاد” قال إنه خسرها بانضمامه إلى الحزب السوري القومي!! فما أعظم تواضع جبران مسوح ويا لفداحة ما تحمّل من الخسائر، وما أعظم الصعوبات التي قاسى آلامها ليصير “جنديًّا” في القضية” حسب تعبيره، وليس جنديًّا لها كما كان يجب أن يكون!!

إذا لم يكن جبران مسوح قادراً، أصلاً، على فهم عمق فلسفة النهضة السورية القومية وتعاليمها، فقد كان قادراً على إدراك الشرف والشهرة وعلو المنزلة التي تصب‏‏ من الاتصال بمؤسسها و”الاغتراف من فيض علمه وغزارة شروحه، ومن نسج الكثير من تلك الشروع التي كان الزعيم يلقيها في الاجتماعات العامة والخاصة، مقالات يرتّبها جبران مسوح بأسلوبه العامي ويضع في ختامها إسمه، كما كانت تفعل بعض شركات التجارة بأقراص الغرامفون، التي كانت تكتفي بطبع إسم المغني على القرص وتغفل إسم صاحب اللحن الموسيقي وإسم الشاعر الذي ابتدع الأنشودة ونظمها! ومع ان جبران مسوح رأى ان الحرص على منزلة اكتسبها من إذاعة تعاليم سعاده ودروسه بقلمه وأسلوبه، يوجب الإقرار بالحقيقة بطريقة من الطرق فإنه لم يتمكن من ترك عادة الاحتيال على أفكار الغير التي كان يمارسها، والتي اعترف للزعيم أنه كان من أهلها بقوله، جواباً على نقد الزعيم عادة كتّاب كثيرين في سورية ومصر يظنون النبوغ والمهارة في أخذ أفكار غيرهم وسكبها من جديد بأساليبهم إيهاماً للناس أنّ ما يكتبونه هو بنات أفكارهم “يا معالي الزعيم” كلنا كنا هكذا وأنا كنت ممن يظنون أن إتيان هذا الفعل هو عمل عظيم يرفع الكاتب”! فكان يقرّ بالحقيقة إقراراً إجماليًّا ناقصاً تضيع فيه حقوق كثيرة، كقوله إنّ الزعيم “رفع تفكيري” وإنّ النهضة “مديونة لأنطون سعاده” بتعاليمه وبما غذاها من دماغه. وهذا الإقرار هو من باب الاحتيال اللطيف، الدقيق الذي لا يلاحظه إلا من كان كثير الروية والمعرفة، حاد النظر واسع الإدارك.

إن الأمانة الصحيحة لحقوق الفكر والمفكرين توجب الاعتراف بأكثر من هذه الإجماليات التي يضيع فيها حق الفكر في أسلوب الكاتب المحتال. إنّ الأمانة توجب أن يشير الكاتب إلى كل فكر وكل قول وكل تعبير ليس له وإلى صاحبه. والزعيم يقدم أعظم مثال على هذه الأمانة في كتاباته وأبحاثه العلمية والأدبية. فمن يقرأ نشوء الأمم يرَ أنّ الزعيم لم يكتفِ بإيراد عبارات إجمالية تفيد أنّ بعض خطط التفكير التي يوافق عليها هي لعلماء آخرين من غير الدلالة على أية خطة من تلك الخطط هي لغيره وأي من المفكرين هو صاحبها أو صاحب قول كذا ونظرية كيت، بل إنه وقف عند كل قول أو فكر أو تعبير ليس له ووضع عنده علامة وأشار في الهامش إلى صاحبه وفي أي كتاب من كتبه ورد. وفي مقالات الزعيم وأبحاثه كلها نراه لا يمره بفكر أو قول جليل لسواه إلا ويشير إلى صاحبه.

من الدروس الكثيرة التي ألقاها الزعيم على جبران مسوح صار هذا الشخص يرى أنّ المصلحة، على الأقل، تقضي بالتظاهر بالأمانة. كان، كما في كتابه المسيحي والمسلم وكتاباته السابقة. يأخذ أفكار غيره ويدّعيها لنفسه ويمزجها بتفكيره السخيف ويخرج منها تلك الأخلاط الكتابية الغربية، المتنافرة التي تظهر جيداً في كتابه المسيحي والمسلم الذي أنشأه وطبعه نحو أواخر سنة 1936، أو في أثناء سنة 1937 أو بعدها (إنّ الكتاب لا يحمل تاريخ صدوره ولكنه يذكر حوادث كحوادث بيروت التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 1939، ويذكر انتخابات المجلس النيابي الشامي، فنقدّر أنّ الكتاب أنشىء بعد هذه الحوادث وبعد مرور الوقت الكافي لورود بريد الوطن الحامل أخبارها)، إذ انتحل فيه دعوة الحزب السوري القومي إلى فصل الدين عن السياسة والإدارة. وتجاهل وجود هذا الحزب ودعوته، ثم أثبت فيه من مناقضات هذه الدعوة، كقوله باستحالة التفاهم بين أبناء الوطن، واستحالة تطور نفسية المحمديين، وفساد الدعوة إلى الوحدة السورية. ما يجعل اجتهاده في انتحال بعض الدعوة التي أعلنها سعاده باطلاً ولغواً!.

بعد دخول جبران مسوح في الحزب السوري القومي الاجتماعي وسيره فيه مدة وجد أنه يستحيل عليه إخفاء انتحالاته الفكرية كلها. فرأى أن يفكر في إقرار يجمع بين مظهر الأمانة لحقوق الفكر، والاستمرار في انتحال ما يحتاج إليه من أفكار غيره ليبني به منزلة كتابية تكسبه الشهرة. فاعترف اعترافاته الإجمالية المشار إليها، ولكنه أبقى لنفسه انتحال طائفة كبيرة من المعاني، والشروح التفصيلية تحت ستار أنها تفكير خاص له تولّد بفضل المبادىء القومية وتوجيهات سعاده الفكرية. والواقع أنّ معظم التفاصيل الفكرية الهامّة التى شحن بها جبران مسوح مقالاته القومية، هي أفكار وشروح اقتبسها من أحاديث الزعيم ومحاضراته غير المنشورة والمنشورة من غير إشارة إلى المصدر الذي اقتبس عنه. فكان في حين يتظاهر أنه من تلاميذ سعاده يهضم حق الأمانة للتلمذة التي لا بد منها لإقامة البناء الفكري على أساس متين. فلولا أمانة تلامذة المسيح لكل قول من أقواله وكل فكر من أفكاره، لكانت تضعضعت المسيحية بين ما ينتحله متّى ويوحنا وبطرس وبولس ومرقس ولوقا. تحت ستار القول “إنّ سعاده رفع تفكيري” وإنّ سعاده هو “مصدر التعاليم القومية كلها” صار يجيز لنفسه إنشاء مقالات كثيرة ينسجها بأفكار الزعيم وأقواله، ويظهرها كأنها من تفكيره الخاص بعد أن رماه الزعيم!

لا متسع لنا من الوقت لمراجعة جميع ما كتبه جبران مسوح وتعيين كل فكر وكل قول من الأفكار والأقوال التي هي للزعيم او لغيره، واستعملها من غير أن يشير إلى صاحبها، ولكننا نضرب أمثلة قليلة تكفي للدلالة على غيرها:

كان الزعيم أول من أشار إلى فساد مبدأ الوطنين، وهو مبدأ تمسك به عدد من الصحافيين والأدباء السوريين المهاجرين، لأنهم وجدوا فيه مبرراً لانفلاتهم من قضية أمتهم ووطنهم الحقيقيين وتخلّيهم عن المواقف الجهادية التي لا وطنية ولا قومية بدونها، وعلم الزعيم أنه لا يمكن أن يكون للإنسان إلا وطن واحد يشغل قلبه وقومية واحدة تملأ نفسيته. وألقى على جبران مسوح من الدروس والشروح في هذا المعنى شيئاً كثيراً. فكتب جبران مسوح مقالات في انتقاد فكرة “الوطنين” وأصحابها كأن الفكر له. ويترجح عندنا أنه سبق الزعيم إلى الكتابة في هذا الموضوعة ولكنه أغفل شروط أمانة التلمذة التي توجب إسناد التعليم إلى المعلم، فلم يقل “كنت عند الزعيم يوماً وكان يقرأ بعض أعداد جريدة السمير وغيرها ويستاء جدًّا مما يقرأ. فالتفت إليَّ وقال.. ما أسوأ هذه الكتابة القاتلة للروح القومية والشعور الوطني، وما أشد ما تحمل من الاثم بإنزالها معنى الوطنية إلى حضيض فكرة السكنى. وما أغرب أمر هؤلاء الكتّاب الذين يطالبون الشعب بنهضة قومية وأعمال وطنية، بينما هم يعلّمونه أنّ الإنسان يقدر أن يجد وطناً آخر يستعيض به عن وطنه وقومية أخرى ينتسب إليها ويستغني بها عن قوميته! ما أشد خطأهم! إنّ الوطني الحقيقي يقدر أن يرى جمال وطن مضيف وخيره ولكنه لا يقدر أن يجعله في مقام وطنه هو وأن يساوى بين الوطنين في المنزلة من قلبه وهي المعنى الوجودي والارتباط المعنوي والفيزيائي. ولا يقدر القومي‎ الحقيقي على قبول مبدأ القوميتين الذي يجيز له الانشغال بالثانية عن الأولى مرة، وبالأولى عن الثانية مرة أخرى”. كلا، لم يقل جبران مسوح شيئاً من ذلك بل أخذ يحمل على دعاة فكرة الوطنين والقوميين كأن ذلك كل واجبه.

‎ ليس تعليم الزعيم بفساد مبدأ الوطنيين والقوميتين للإنسان الواحد أمراً شكليًّا يختص بظاهر الأمور، بل من التعاليم القومية الأساسية، ولذلك يجب على التلامذة إثباته في صلب تعاليم الزعيم التي لم يتمكن من تدوينها بنفسه. أما جبران مسوح، الذي اعترف للزعيم على حدة أنه كان يجد استعمال أفكار الآخرين بلباقة تخفي ‏ ‏المصدر الحقيقي فنًّا عالياً في الأدب، لم يكن يرى شيئاً أهم من مقاتلة من كان هو في صفوفهم بسلاح الفكر القومي المنبثق من دماغ سعاده، فتختلط كتاباته بكتابات الزعيم ويجاري قلمه ويسير “فكره” هو إلى جنب فكر الزعيم فيظهر أمام الناس‎ ليس بمظهر من يأخذ أفكار الزعيم التي يعلنها له في صحباته، بل بمظهر من رقّي

‏الزعيم تفكيره فصار يستنبط من تلقاء نفسه تعاليم ومعاني هي في منزلة تعاليم الزعيم‎ ومعاني ومعانيه. وهذه هي الروحية اللاقومية الممقوتة عينها التي تفتك بمعنويات الأمة وتلغي‎ القيم الحقيقية التي يجب أن تتمسك بها نفوس الشعب الحي.‎

‏ وقبل أن يصل الزعيم إلى الموقف الفاصل مع جبران مسوح كان يوم أحد في المحل التجاري ينظر في بعض الأمور. وبعد الفراغ من المسائل التجارية سأله جبران‎ ‏مسوح رأيه في بعض القضايا الإنترناسيونية ومرامي ألمانية وغيرها فأجابه الزعيم على‎ ‏عادته، وأخذ يشرح له وجوه المسائل السياسية الإنترناسيونية ويحلِّل موقف بعض‎ ‏الأمم البارزة في هذه الحرب، فأظهر نظرة الألمان في قضايا العالم من وجهة نظر‎ ‏ألمانية، ونظرة الإنكليز في هذه القضايا من وجهة نظر إنكلترة، وتطرّق إلى تحليل‎ ‏نفسية الإنكليز وأساليب عملهم بنظرتهم والأمور التي يرمون إليها وهي متسترة بستار‎ ‏تقواهم. فأخذ جبران مسوح أفكار الزعيم ونسج بها مقالته الاخيرة التي نشرتها له‎‏ الزوبعة التي عنوانها “صلاة إنكليزي”. ولما أكملها عرضها في صباح اليوم التالي على‎ ‏ الزعيم ليمرّ عليها نظره قائلاً: “إنّ التفكير في هذه المقالة هو كله لمعاليكم فليس لي ‏فيها إلا الأسلوب”. فمدح الزعيم أسلوبه الحسن في إظهار الفكرة، وأشار بإرسالالمقالة إلى الزوبعة. وقد ظن جبران مسوح، على جاري عادته، أنه قد نجح هذه المرة أيضاً بستر غايته، بإعلان الحقيقة حيث لا يجب إعلانها وإخفائها حيث يجب إظهارها!

‏إنّ الزعيم يقدر أن يعرف أفكاره من غير أن يقدّمها إليه مقدم معرّف. أما الذين لا يقدرون على معرفة ذلك دائماً فهم عامة الناس غير المطلعين. هؤلاء يجب أن تقال لهم الحقيقة كلها كما هي تماماً لا نصفها ولا ثلاثة أرباعها. ولكن المصلحة الخاصة لم تكن ترى وجوباً لذلك!

حوالي الوقت الذي كتب فيه جبران مسوح مقالته “صلاة إنكليزي” مرّ بالمحل التجاري الرفيق عباس المجاور ومعه أحد الأعضاء غير المحمودي السيرة القومية إسمه إدوار نمر، فشاهدا الزعيم في الشارع فحيياه ثم عطفاً ودخلا المحل ليسلّما عليه. فبدأ إدوار نمر بتحية سورية ومد يده ليصافح الزعيم من غير أن يتروى في ما يصح أن يفعله أو لا يصح بعدما ظهر من تخاذله ومن تصرفاته الأخرى غير اللائقة بالقومي. فاستنكر الزعيم مدّه يده بكل جرأة، ولم يمد يده بل قال له “ماذا تقصد بقولك لي تحيا سورية! ولماذا لا نقول تحيا الفوضى ويحيا الخلط؟” فاندهش ذاك الشخص من صراحة الزعيم وارتبك وسأل عما أتاه متجاهلاً أو غافلاً فأظهر الزعيم عدم انطباق أعماله على الروحية القومية والواجب المناقبي والنظامي. فلم يكن من ذاك الرجل إلا أن أخذ يبرر موقفه بحجج وأعذار متنوعة. فسأله الزعيم هل يرى موقفه الأخير جيداً وأعماله صالحة، فأجاب بالإيجاب. حينئذ خاطبه الزعيم قائلاً: “اذا كنت أنت تعيّن صلاحك بنفسك فما حاجتك إليّ وإلى الحزب السوري القومي؟ إنّ هذا الحزب هو حزب من يطلبون الهداية والإصلاح، فشأنك هو غير شأننا فدعنا وشأننا، وسر في طريقك فهي غير طريقنا. إنّ طريقينا مختلفتان فإذا كانت طريقك إلى السماء فطريقنا إلى جهنم، وإذا كانت طريقنا إلى السماء فطريقك إلى جهنم”. وكان جبران مسوح واقفاً يسمع فقال لنمر: “إن كلام الزعيم هو الحق، ونحن كلنا كنا لئاماً في حادث الكردي” ولكن التصرف الأشد لؤماً هو أن يأخذ جبران مسوح عبارة الزعيم بعينها، ويختم بها دفاعه الأثيم موجهاً إياها إلى الزعيم نفسه كأنه هو صاحب هذا القول الذي تتمثل فيه عزيمة الزعيم النافذة وليس عزيمة جبران مسوح المطاوعة. فالزعيم هو الذي أطلق جبران مسوح فانطلق وليس جبران مسوح هو الذي أطلق الزعيم. وجبران مسوح نفسه يشهد بذلك في دفاعه كما يشهد الذين حضروا طرد الزعيم اياه من حضرته. فالعبارة ليست له بل للزعيم، ولكنه انتهز فرصة عدم نشرها فأسرع إلى إعلانها كما لو كانت له، ولم يكن له حياء او خجل يردعه عن انتحالها!

هذه كانت دائماً طريقة جبران مسوح في “اكتساب الفكر” وفي بادىء أمر استعماله المعاني والتعابير القومية الاجتماعية كان ينتحل الفكر انتحالاً من غير إشارة على الإطلاق إلى مصدره، إلى أن أخذ الزعيم يضع له الملاحظات على مقالاته، ويوجب الإشارة إلى مصادر بعض الفكر، فحينئذٍ رأى مسروح أنه لا مناص من الاعتراف ببعض الحقيقة فجعل يشير تلك الإشارات الإجمالية، التعميمية التي كانت شيئاً وسطاً بين إظهار مصدر الفكر وانتحاله.

مع ذلك كان الزعيم يرفق به ويجد له بعض العذر في ما اكتسبه من الأساليب اللاقومية التي جرى عليها عدد غير قليل من كتّاب الصحف في سورية ومصر. وكان الزعيم يتوقع أن يتدرج مسوح في الروحية القومية ومناقبها ويكتسب ثقة بالحق وبالنفس، تجعله يرى أعلان الحقيقة وإعطاء كل ذي حق حقه منقبة تشهد لصاحبها بسمو النفس ومتانة الأخلاق فيكتسب، بهذه الطريقة. منزلة هيهات أن يكتسبها بالانتحالات والمواربات وضروب الرياء. فاخد يضع له طي مقالاته بعص الإشارات الواجب وضعها، ثم جعل يشجعه بإبراز أقواله وتعابيره كلما سنحت الفرصة، بل إنّ الزعيم ذهب إلى أبعد من ذلك فعزا إلى جبران مسوح ما ليس له في الأصل، كما فعل

حين ذكر في كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري جبران مسوح ونسب إليه القول: “لم نكن نعلم أي درك من الانحطاط الأخلاقي وضعف المناقب بلغ شعبنا، إلى ان دخلنا فى الحزب السوري القومي الاجتماعي. الآن أصبحنا ندرك الفساد المتفشي في أمتنا وخطره على حياتها”. فكل متأمل في هذه العبارة يجد فيها انتظام تعابير الزعيم نفسه. والحقيقة أنّ جبران مسوح صار يردد شيئاً من هذا القول، ولكن ذلك كان على أثر حديث للزعيم معه أظهر فيه سعاده كم كشفت مبادىء النهضة القومية الاجتماعية ومناقبها من تدهور المناقب والأخلاق في شعبنا، فقال مسوح: صحيح، يا معالي الزعيم، فالحقيقة أننا لم نكن نعرف إلى أية حالة من الانحطاط وصلنا إلى ان دخلنا في الحزب” ثم رأى مسوح أن يستعمل هذا التعبير فاستعمله ورأى الزعيم لن ينشطه ويزيد له ليدرك أنه إذا كان يُعطى أكثر مما له، فكم يجب عليه أن يكون أميناً على ما لغيره. ولكن جبران مسوح، على ما ظهر أخيراً، لم يقدر أن يتجاوز حد الاعتراف الإجمالي المبهم. وهو ظن أنه أظهر من المهارة في بلوغ الشهرة غير المستحقة ما لم يبلغه غيره وكان سعيداً بهذه النتيجة الباهرة!

من جهة أخرى صار جبران مسوح يهتم بالكتابة عن الزعيم أكبر كثيراً مما يهتم بالكتابة عن النظام، والسبب واضح: إنه فهم الزعيم وأدرك من عمله ومقاصده أكثر مما فهم نظام الحركة السورية القومية الاجتماعية وأدرك مما عملها وفلسفتها. ومقالاته كلها تشهد بذلك وهذه الشهادة تكذّب ما ادعاه في “إخائه” أنه لم يقبل بزعامة سعاده من أجل النظام وحاجة الأمة إليه. وأول مقالة كتبها بعد تعرّفه إلى لزعيم بعنوان “كيف عرفت الزعيم” كانت شهادة في الزعيم لا في نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو كتبها باختياره الشخصي لا بأمر النظام ولا عملاً بواجب النظام. فالنظام السوري القومي الاجتماعي لا يكلف أحداً أن يقول في أنطون سعاده ما لا يعتقد ويراه فيه.

أما في ما يختص بالنظام الذي يحاول جبران مسوح الآن أن يتمسك بفكرته ويبرر رياءه القومي فلم يكن أبعد من جبران مسوح عن فهمه والتقيد به:

عندما أنشأ الزعيم أول مديرية للحزب السوري القومي الاجتماعي في توكومان عيّن جبران مسوح أحد أعضاء لجنة الإدخال فيها، وكان ذلك قبل تعيينه مشارفاً على مديريتي توكومان وسانتياغو دل إستيرو، وشرح للجنة المذكورة صلاحياتها المنحصرة في إدخال وتسجيل طالبي الانضمام بعد أن توافق هيئة المديرية على إدخالهم. فلم يمضِ وقت قصير حتى كثرت شكاوى المدير من خروج مسوح على النظام وإدخاله أشخاصاً بطرق غير قانونية. والمشاكل النظامية والإدارية التي أوجدها جبران مسوح كثيرة جدًّا ولكنه كان ينقذ نفسه في أكثر الحالات بالتعلق بسعاده والمبالغة فى إظهار الأمانة له!

في توكومان تعرف الزعيم إلى عائلة جبران مسوح. وما كان أشد دهشته عندما رأى الشعور الوطني السوري مفقوداً بالكلية منها. لم يكن مسوح يقول لعائلته شيئاً عن سورية إلا ما كان يقوله في كتاباته السابقة مثل المسيحي والمسلم. وأول قول فاهت به زوجته في حضرة الزعيم كان إنها لا تفكر بسورية ولا تريد العودة إلى تلك البلاد، وإنها لا تشعر أنّ سورية وطنها، لأنها لم تذق فيها غير العذاب، وكان جبران حاضراً فقال: “إنّ ما تقوله بلوميا هو صحيح فنحن لم نكن نشعر أنّ لنا وطناً”. وبهذا الشعور نما جميع أولاد جبران مسوح جاهلين لغة ابائهم واجدادهم حتى المولودون منهم في سورية. السعيد السعيد فيهم من يقدر أن يرد ببضع عبارات عامية. ولعل الوحيد فيهم الذي له قدرة على شيء من ذلك ابنته الكبرى المتزوجة. أما بقية أولاده فقد يفهمون بعض جمل ولكنهم لا يقدرون على الكلام والتحدث بالعربية.

ولكن الزعيم تمكن، من أول حديث فاه به لفئة من الشبان أبناء المواطنين في توكومان، من إضرام شعلة القومية والوطنية في صدورهم. وكان بين الذين اتقدت نفوسهم بهذه النار المقدسة إبن جبران مسوح أمين. وأخذت أحاديث الزعيم توضّح القضية السورية القومية الاجتماعية ومراميها وكان من وراء ذلك التفاف كتلة من الشبان كان يمكن أن يرجى منها خير للقضية.

أصاب عائلة جبران مسوح نصيب كبير من أحاديث الزعيم التي تناولت كل ناحية من نواحي الفكر والشعور والأدب. فتلكم على الأمة السورية والوطن السوري وماضيهما وحاضرهما، وتكلم على المسيح وجبران خليل جبران ومحمد. وتكلم على التعصبات الدينية وعلى وحده العائلة. وفي هذا الموضوع الأخير وعظ الزعيم ‏‏عائلة جبران مسوح وعظات خصوصية لأنه رآها متفسخة الروحية تفسيخاً كبيراً.

‏إذا كان جبران مسوح قد حسّن كتاباته في صدد المسيح ومحمد والأديان ‏الراقية جميعها، فالفضل في ذلك لأحاديث الزعيم ومواعظه. فقد كان جبران مسوح ‏يحارب الدِّين كله حرباً عمياء جاهلة، وكانت أحاديثه وكتاباته في هذ ا الصدد فوضوية ‏مهدّمة. فأخذ يصلح له تفكيره ويبيّن له ما كان للدين من فضل. فصار مسوح أخيراً ايرى المسيح ومحمداً جديرين بالاعتبار وكتب لعيد أول مارس/آذار سنة 1943 مقالته “سعاده والمسيح ومحمد” التي قال فيها إن سعاده جمع بين المسيح ومحمد لخير الإنسانية، الخ.

وصار جبران مسوح، كلما رأى كتاباته ترتقي ومركزه يتحسن ونطاق قرائه‎ يتسع بفضل إرشادات انطون سعاده ومبادىء النهضة السورية، ويزداد تحمساً للزعيم وتأييداً له. وكانت حدّته في هذا السبيل بارزة. ولكنَّ الزعيم كان يظن ويقدّر‎انها ناتجة، بالأكثر، عن إيمانه الجديد واهتدائه بعد أن كان ضالاًّ بلا ‏ قومية ولا وطن‎

‏ولا أدب صحيح ولا عقيدة دينية أو أجتماعية. ولذلك كان الزعيم يدافع عن حدّته ‏الظاهرة في كتاباته السياسية والاجتماعية التي أوجدت نفرة منه عند كثيرين وأثارت‎ ‏عداوات في أوساط المواطنين لا حاجة إليها ولا مبرر لها.‎

قلنا إنّ عائلة جبران مسوح كانت مفسخة تفسخاً روحيًّا عظيماً. وعدا عن ذلك‎ كان هناك انقسام اجتماعي واضح: كانت زوجته تشكو كثيراً للزعيم من تصرفات‎ ‏جبران وشذوذه وعدم شعوره بالمسؤولية نحو عائلته. وكانت تلك السيدة تقول إنه‎ ‏لولا ابنها أمين لما كان قام للعائلة قائم. وكانت هذه الشكاوى تشمل حياة جبران‎ مسوح قبل دخوله الحزب السوري القومي. كان جبران مسوح مهملاً وعديم‎ ‏التدبير ومبذراً. هذه خلاصة الشكوى. فأخذ الزعيم يهوّن على زوجته ويوجد لها‎ ‏أعذاراً متعددة لسلوك جبران، أكثرها يستند إلى تعليل الحالة باشتغال جبران في الأدب.

‏إن جبران مسوح لكاذب في قوله في الإخاء إنه سلّم ابنه أميناً مصير العائلة‎ ‏والمال الذي أصابه من الشركة التي كانت معقودة بينه وبين أخيه أديب والتي كان لإبنه أمين ضلع صغيرة فيها “بسبب مرضه”. والحقيقة هي أنّ عائلته لم تقبل بتسلمه هو ذاك المصير لأنها عرفت من الاختبارات السابقة أنه يكون إلى الخراب. فلما تسلّم أمين المال والتجارة ودخل أبوه جبران في محله مستخدماً تجاريًّا بأجرة معينه. وصار يعمل ‏لمحل ‎ابنه بهذه الصفة، فلم يكن قاعدً لمرض، كما يدعي بهتاناً لستر عجزه. والذي لا يقدر أن يقوم بعمل تجاري وهو سيد محله بسبب مرضه، كيف يقدر أن يعمل العمل التجاري على الرغم من مرضه، وهو مستخدم بالأجرة؟ وسفرات جبران مسوح المتواصلة إلى بوينُس آيرس ووجوده في محل ابنه يوميًّا، إلا حين يصاب بلألم أو حالة مرضية مقعدة، لا تدل على أنه كان عاجزاً عن العمل أو متقاعداً. ولكنه كان يعمل على ‎ مسؤولية إبنه وليس على مسؤوليته هو. وكان عليه أن يعمل بأوامر ابنه وتوصياته. فلم يكن له من الأمر شيء. فالأدلة متوفرة على كذبه في القول إنه سلّم إبنه رأسماله لأن مرضه أوجب عليه ترك العسل التجاري.

وكان بين جبران مسوح وعائلته خلاف آخر خفي بقي مستوراً إلى أن انكشف بفضيحته الأخيرة في اشتراكه التجاري مع الزعيم وخيانته له.

للبحث استئناف

(1) في رسالة إلى إبراهيم أفيوني بتاريخ 20/12/1944 يطلب سعاده أخذ جميع الاحتياطات لإخراج المقال مضبوطاً. ويلفت النظر إلى بعض العبارات” فيجب الانتباه إلى وجود جملة “وقد يكون” أو “يمكن أن يكون” ثم بعد هذه الفقرة يوجد أخرى نتبدئ هكذا: “إختلس ثم ادّع أن الزعيم مبذّر، إلخ…” فهذه الجملة يجب أن تكون هكذا: “إحتل واغدر وافسق ثم ادّع أن الزعيم، الخ”.

الزوبعة، يوينُس آيرس،
العدد 83، 22/1/1945
والعدد 48، 26/3/1945

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى