نشوء الدّولة وتطوّرها


الثقافتان الماديّة والنّفسية
رأينا في ما تقدّم من فصول هذا الكتاب الأسس والخطط العامّة لتطوّر البشريّة وارتقائها في ثّقافاتها الماديّة الناتجة عن تفاعل الإنسان والطّبيعة بقصد تأمين سدّ الحاجة وبقاء الذّرّيّة. ورأينا أيضاً كيف أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها، إذ الحياة العقليّة لا يمكن أن تأخذ مجراها إلا حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات. ولذلك نجد التّطوّر الثّقافيّ بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى ممّا في سواه.
ولقد تكلّمنا عن الاجتماع البشريّ، وأشرنا إلى أنّه عريق في القدم وأنّه صفة بشريّة عامّة، حتّى إنّ ما قلناه بهذا الصّدد ليحمل على الاعتقاد أنّ اجتماعيّة الإنسان شيوعيّة بلا حدود أو قيود، والواقع غير ذلك. فالمجتمع الإنسانيّ ليس الإنسانيّة مجتمعةً، ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور؟ وإذا كانت المجتمعات البشريّة الثّقافيّة تتقارب بعضها من بعض بعوامل ثقافاتها فلا يزال لنا في حالات بعض المجتمعات وشؤونها الاجتماعيّة بقية تدلّ على أنّ «البشريّة» والاجتماع البشريّ ليسا مدلولين شائعين بين جميع البشر. فالأسكيمو يسمّون أنفسهم فقط «أنويت» (الناس) وكذلك هنود الينويز ينعتون أنفسهم بالينويز Ilinois : بشر) ومن حكايات الأسكيمو أنّ الأوروبيّ (الغريب) نشأ من زواج امرأة منهم وذئب قطبيّ(1) .
تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.

نشوء الدّولة
وبديهيّ أنّ الدولة شأن ثقافيّ بحت، لأنّ وظيفتها، من وجهة النّظر العصّريّة، العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات إمّا بالعرف والعادة ــــ في الأصل ــــ وإمّا بالغلبة والاستبداد. فهي إذن شأن من شؤون المجتمع المركّب، لا وجود لها إلا فيه، وهي لذلك شأن سياسيّ بحت، ومع ذلك فهي ليست شأناً لا اجتماعيّاً، فكما أنّ الدّولة لا وجود لها إلا في المجتمع كذلك السّياسة لا وجود لها بدون الاجتماع.
وقد اختُـلف في بداءة الدّولة هل هي في بداءة الاجتماع البشريّ (بدء البشريّة) أو في طور معين من أطوار ارتقاء هذا الاجتماع. فقالت نظريّة بأنّ الدّولة نشأت مع بدء الإنسانيّة وقالت نظرّية أخرى بأنّها نشأت حيثما ظهرت الفوارق الاجتماعيّة(2). وقد قال أرسطو في الدّولة إنّها تنشأ بعامل الحياة، ولكنّا تبقى في الحقيقة لتحقيق حياة حسنة الانتظام(3). ومع أنّ البحث المنطقيّ العقليّ يرغّبنا في تتبّع أسباب نشوء الدّولة وردّها إلى الخاصة الإنسانيّة النّفسيّة المعيّنة بالتّمييز بين أنانيّة المرء (نسبةً إلى أنا لا اسماً لحبّ الذّات) الظّاهرة في استعمال «أنا» وبين الظّاهرة الّتي توجد «أنت» ماثلاً أمام «أنا»، فإنّنا نخشى أن يقودنا مثل هذا البحث إلى الابتعاد كثيراً عن النّطاق المحدّد لهذا الموضوع. ولذلك فكلامنا على الدّولة، اجتماعيّاً، يجب أن يتّخذ نقطة الابتداء في واقع الدّولة أي في المجتمع المركّب ولو تركيباً بسيطاً. وفي كلّ حال يجب إلا يبرح ذهننا أنّ هذه النّقطة وهميّة، فأطوار الاجتماع البشريّ ليست مقاطع مستقلاً الواحد منها عن الآخر كلّ الاستقلال.

الدولة في عالم الحيوان
ولا بدّ لنا، قبل ولوج قلب الموضوع، من الاحتياط هنا لما احتطنا له في موضوع الاجتماع البشريّ، نعني اتّخاذ أمثلة للدّولة من عالم الحيوان. فمع ما في هذا العالم من أشكال التّجمع المرتّبة، كوجود نوع من الزّعامة في بعض أنواع الحيوان وجماعات النّمل(4) ووجود صنف معيّن للقتال في جماعات النّمل الأبيض(5) ، فإنّ الفرق بين حقيقة هذه الظّواهر وحقيقة التّرتيب المنطقيّ العقليّ في تصنيف المجتمع الإنسانيّ كبير جدّاً. فالكلام على «دولة النّمل» و«دولة النّحل» يجب إلا يحملنا على التّفكير بوجود دول منشأة في هذه الحشرات والهوام. إنّ الدّولة شكل من أشدّ أشكال الكيان الاجتماعيّ تعلّقاً بالعقل والمجاز(6) فلا يجوز مطلقاً أنّ ننقل هذا الاصطلاح الإنسانيّ المحض إلى عالم الحشرات، لأنّ مثل هذا النّقل يجعل قياساً واحداً وقيمةً واحدةً لما هو ثقافيّ وما هو طبيعيّ غريزيّ. ومع أنّ العالم أرخ وسمن (أنظر بحثه المذكور في الهامش) يشير بوضوح، في بداءة بحثه «الدّيمقراطيّة في دول النّمل والنّمل الأبيض» إلى الفوارق بين خصائص الإنسان وخصائص الحيوان النّفسيّة، فهو لا يتورّع، في مكان آخر من بحثه(7) عن أن يجد في صغر عقل عمّال النّمل الأبيض، بالنّسبة إلى كبر رأسها، التّعليل المنطقيّ للنّظام «الشّيوعيّ» في «دول» هذا النّمل!

الحقوق الأوّلية
ليست الدّولة في ذاتها مقياساً للثقافة العقليّة بل بما تنطوي عليه من حقوق. فلا بدّ لنا من إلقاء نظرة على بداءة الحقوق لكي نتمكّن من فهم نشوء الدّولة وتطوّرها في ظروفهما. يجب أنّ ننظر إلى الحقوق إذا كنّا نريد أن نحصل على تحديد حقيقيّ للدّولة(8) .
الجماعة والفرد
في أحطّ درجات الاجتماع البشريّ وأبسطها نجد الجماعة أو العشيرة وعبثاً نحاول أن نجد الفرد، فهو لا وجود له اقتصاديّاً ولا حقوقيّاً ولذلك فهو ليس بداءة الاجتماع ولا شأن له في تعيين الاجتماع وكيفيّته. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ النّظرة الفرديّة للاجتماع الّتي يجدها الدّارس في «التّعاقد الاجتماعيّ» [Contrat Sociale] لروسو [J.J. Roussau, 1712-1778] هي مستمدّة من حالة المجتمع بعد ظهور الفرد عاملاً فيه، وقبل ذلك لا اختيار للفرد في الاجتماع والمجموع. فوجوده الأنانيّ في تلك الحالة الأوّلية لا يظهر إلا في التّمييز بينه وبين غيره في بعض العلاقات النّفسيّة (الذّهنيّة). إن هو إلا نقطة في موجة صغيرة لا يمكنك تعيينها، كيفيّةً وكميّةً، إلا إذا فصلتها عن جسمها.
الموجة، الجماعة، هي كلّ شيء في بداءة البشريّة. والجماعة في الطّور الأوّليّ الّذي نحن بصدده خاضعة لجميع أنواع الرؤى والأوهام، وهذه الرؤى وهذه الأوهام هي كلّ حياّتها النّفسيّة. لذلك نرى الحقّ والدّين شيئاً واحداً في البدء.

الطوطمية [Totemism] والتناسخ
إنّ قرابة عرض الإنسان من عرض الحيوان في هذه الدّرجة جعل الإنسان يحسّ من نفسه في نفس الحيوان. فكثرت تخيلات انتقال النّفس بعد الموت إلى حيوان أو إلى إنسان آخر. ومن ثمّ نشأ تشخيص نفس العائلة في كائن حيوانيّ أو نباتيّ وهو الطّوطميّة Totemismus فاختصّت كلّ عشيرة أو فخذ نفسها بحيوان ــــ وهو الأكثر ــــ أو نبات أو جبل معين تعرف به(9). وفي المثال الأخير نجد اتّجاهاً نحو الإقامة. ومن نزول عدّة عشائر لطواطم مختلفة في بقعة واحدة ينشأ الطّوطم المكانيّ الّذي يجمعهم جميعاً ويخضع له كلّ واحد منهم(10).

الزّواج الخارجيّ
أدّى الاعتقاد بتوافق الطّواطم أو بعضها إلى استحسان التّواصل الجنسيّ بين رجال طوطم معيّن ونساء طوطم آخر. وهكذا نشأ الزّواج الخارجيّ المحتّم الّذي اتّخذ أشكإلا عدّةً وحرّم الامتزاج الدّمويّ الدّاخليّ تحريماً يستحقّ من ينتقض عليه الموت(11).
وقد ظلّ الزّواج الخارجيّ أحقاباً طويلةً زواج جماعات لا زواج أفراد. وطريقته أن تعتبر نساء الجماعة الواحدة مخصوصةً لرجال الجماعة الأخرى النسيبة. فليس هنالك عقود زواج، بل إباحة الاختلاط بين رجال الجماعة الواحدة ونساء الجماعة الأخرى بدون حدود(12). وهنا نرى المظهر التّام لشيوعيّة العمل والنّتاج (ص 91 و92 أعلاه) مكمّلاً شيوعيّة العلاقات الجنسيّة ولكنّ هذه الشيّوعيّة الأخيرة محدّدة بالطّرق والأساليب المذكورة فوق.

الحقوق الأموميّة
يظهر أنّ الزّواج الخارجيّ كان مصحوباً بالحقوق الأموميّة، في الأصل. وهذه الحقوق تعني أنّ الأولاد يبقون في عهدة الأمّ ويكونون من نصيب جماعتها، إذ إنّ الجماعة، لا الفرد، هي صاحبة الحقّ وليس للأفراد حقوق غير حقوقها. فإذا فرضنا نّ رجال جماعة معيّنة تزوّجوا نساء جماعة أخرى فإنّ الأولاد يكونون حصّة جماعة الأمّهات لا حصّة جماعة الآباء. ولعلّ هذه الحقوق ناشئة عن الحالة الطّبيعيّة الّتي توجب على الأمّ العناية بالأولاد بينما الرّجل يخرج إلى الصّيد والتّوغل. ويرجّح أنّ هذه الحقوق هي الأقدم وإن كان ظهر أنّ الحقوق الأبويّة أيضاً وجدت في حالات قديمة جدّاً، وأحياناً إلى جانب الحقوق الأموميّة.
يكون الطّفل في حالة الحقوق الأموميّة متعلّقاً بالأمّ وعائلتها، عشيرتها، والرّجال الّذين يكونون إلى جانبها هم إخوتها، أخواله(13) الّذين تنشأ بينه وبينهم روابط متينة جدّاً.


الحقوق الأبويّة
هي نقيض الحقوق الأموميّة، فالولد للرّجل، لا للأمّ، حتى في إبانّ الزّواج الخارجيّ. ولكنّها في ذلك العهد ليست القاعدة بل الشذوذ عن القاعدة إلى قاعدة جديدة. وتعني هذه الحقوق في الزّواج الخارجيّ أنّ الأطفال المولودين من فريق رجال جماعة ونساء جمعة أخرى يخصّون جماعة الآباء وطوطمها، لا جماعة الأمّهات وطوطمها.
إنّ جميع الشّعوب المتمشّية على قاعدة حقوق الأبّوة قد خرجت إليها عن طريق حقوق الأمومة الّتي درجت عليها. وهذا التّحول حدث في أزمنة ليس لنا بها صلة تاريخيّة مطلقاً كالّذي حدث للساميّين والهندجرمانيين(14) من الشّعوب التّاريخيّة بحيث لم يعد ممكناً تقصّي ذلك تاريخياً لا في أقدم الشّرائع الساميّة الّتي هي أقدم الشّرائع طرّاً، كشريعة حمورابي، ولا في أقدم التّقاليد الهندجرمانية الممثّلة في «الفيدا Veda ».
ومن أهمّ مظاهر هذا الزّواج الخارجيّ الاجتماعيّة كون التّزاوج حاصلاً بين الأقرباء، أي بين أبناء الأخوال.
وبعد الانتقالن من الشّيوعيّة والإباحيّة إلى الفرديّة لم تضمحلّ الإباحيّة بالمرّة بل تركت بقايا في الطّقوس الدّينيّة والعبادات ومن هذه البقايا الّتي عرفت في العالم السّاميّ كلّه وفي الهند وأماكن أخرى «بنات الهياكل» أو «بنات الآلهة» أو «بنات الشّعب» اللّواتي ينذرن ويكنّ مباحات(15). وقد رجعت مظاهرها في الشّيوعيّة الحديثة. وفي كلّ مجتمع حديث نوع من الإباحيّة المقيّدة أو السّريّة، يشكّل صمّاماً للحصر الّذي تولّده أعباء عقود الزّواج.

الزواج الفردي والعقد
تطوّر الزّواج الخارجيّ نحو الفرديّة واختصاص الزّوجين وفي هذه الحالة كان لا بدّ من إجراء عقد للزّواج. وقد يكون ما أدّى إلى إنشاء هذه المؤسّسة اضطرار بعض العشائر المتقاربة إلى الانقسام أو الارتحال، مضافاً إليه تولّد عوامل نفسيّة فرديّة.
وقد نشأ من الزّواج المجموعيّ نوع عرف بتعدّد الأزواج، كما نعرف عن الصّابئة في بلاد العرب(16). وسببه كثرة وأد البنات وقتلهنّ. وهذا النّوع أيضاً لم يلبث أن تطوّر نحو الزّواج الفرديّ وقد يكون من أهمّ عوامل هذا التّطوّر إقدام الرّجل على اختطاف المرأة الّتي يريدها. ومنذ السّاعة الّتي ابتدأ فيها الرّجل يشعر بقوّته وبرغباته الخاصّة حين كان يغزو ويعود ظافراً بالأسلاب والسبي، أخذ يخضع المرأة لإرادته ورغباته وهكذا أصبح الرّجال قوّامين على النّساء ووجدت هذه الحالة الّتي لا تزال سائدةً في بلاد العرب طريقاً إلى الإسلام وثبتت فيه كما ثبت فيه الأخذ بقرابة الرّضاع الّتي هي من مصاحبات القرابة الدّمويّة في الشّعوب الّتي لا يزال اجتماعها أوّليّاً. والفضل في نشر هذه القرابة في العالم يعود إلى الإسلام بعد أن كانت منحصرةً في القبائل العربيّة وفي القوقاس(17).

الزّواج بالشّراء
أدّى اختطاف المرأة في الشّعوب الأوّليّة وفي الحالات الأوّليّة للشّعوب المرتقية إلى شراء الرّجل المرأة. ومع ضياع حقوق المرأة في حالة الاختطاف وحالة الشّراء تمكنت سيادة الرّجل وحقوقه الّتي أخذت تفعل في تطوير العائلة وما تنطوي عليه من حقوق وراثة وغيرها.
ومن هذا الشّراء الأوّليّ تطوّر الزّواج، مع ارتقاء المجاميع البشريّة، نحو الهديّة والعربون وما شاكل، ممّا أعاد إلى المرأة مركزها الشخصيّ وأزال عنها صفة السّلعة. وفي المجاميع المتمدّنة تحوّل معنى أنّ “الرّجال قوّامون على النّساء” [سورة النساء رقم 4 الآية 34] إلى قصد العطف على المرأة والأخذ بناصرها، لا التّصرّف بها.

الاستعباد
يظهر أنّ الاستعباد نشأ من الغزو والسبي. ولعلّ المرأة المسبيّة كانت أوّل من استُعبد من البشر. والاستعباد عموماً ليس قديماً جدّاً في العالم فهو غير ممكن وغير مفيد إلا في طور ثقافيّ مرتق نوعاً. إنّه نشأ مع تحوّل الجماعة إلى الزّراعة والإقامة اللّتين يمكن فيهما الاستعباد ويفيد. ونحن نرى أنّ العبيد يؤلّفون عنصراً هامّاً من عناصر الثّقافة الزّراعيّة الأولى، فهم الصّناع الأول الّذين تميّز بينهم العمل حرفاً خاصّةً، فأقامهم سادتهم في منازلهم وفي حقولهم كما أشرنا إلى ذلك في الفصل المتقدّم.
وقد كثر الاستعباد في الأزمنة التّاريخيّة فاتخذ الفينيقيون عبيداً يكلون إليهم العمل في صناعاتهم وتجاراتهم وزراعاتهم. ولعلّ الاستعباد عندهم كان أرحمه لأنّهم كانوا أهل تجارة واسعة، واستخدام العبيد في الشّؤون التّجاريّة أخفّ وطأةً منه في الشّؤون الزّراعيّة. واستعبد الإغريق واقتبس الرّومان عن الفينقيّين في إفريقية فوائد استخدام العبيد في الزّراعة وقلّدوهم في هذا المضمار(18) وتضخّم الاستعباد في رومة حتى انفجر عن ثورات أروعها ثورة نشبت في صقلية على أثر الحرب الفينيقيّة Punic الثّالثة [149-146 ق. م.] وبطلها رجل سوريّ اسمه بالإغريقية يونس استوحى آلهةً سوريّةً لإثارة العبيد زاعماً أنّ الآلهة السّوريّة جميعها دعته ليتولّى ملكاً. وبالفعل أنشأ يونس مملكته فجرّد جيشه على الجيوش والمدن وأثخن فيها ودوّخ البلاد ونادى بنفسه ملكاً باسم أنطيوخس تيّمناً بالامبراطور السّوريّ السّلوقيّ الكبير، وسمّي أتباعه سوريّين(19) ولكنّ ملكه كان قصير الأجل ولم تنجح حركته التّحريريّة إلا فترةً قصيرةً.

الثــأر
نرى في حياة الجماعات الأوّليّة منذ العهد الطوطميّ، أنّ الحقوق الجزائيّة تناولت شكلي العلاقات الاجتماعيّة الخارجيّ والدّاخليّ، الأوّل لما يحدث من قبل جماعة أو بعضها لجماعة أخرى والثّاني لم يحدث من قبل أفراد في الجماعة نفسها. وكثيراً ما تؤدّي هذه العوارض إلى حروب بين العشائر والقبائل المتجاورة طلباً للثّأر. وسببه الأصليّ طلب التّعويض عن الخسارة الّتي منيت بها عشيرة المصاب فأضعفتها في عددها تجاه العشيرة الأخرى. ولا يبحث في مثل هذه الأحوال عن الحقّ والذنب والاعتداء كيف وقع بل تطلب العشيرة أو القبيلة إلحاق خسارة مثل خسارتها بالعشيرة أو القبيلة الّتي خرج منها الاعتداء أو القتل. وكلّ مقتول هو للعشيرة اعتداء عليها هي.
والثّأر يؤلّف وجهة الحقوق الجزائيّة الوحيدة في الشّعوب الأوّليّة أو المنحطّة. وهو يدخل التّقاليد ويرتقي فيها كما نجد عند العرب الّذين ملأ الثأر تقاليدهم وحكاياتهم وقصائدهم حتّى أصبح واحدهم يكاد لا يعيش لشيء إلا «ليدرك ثأراً أو ليدرك مغنماً».
ويظهر جليّاً سبب الثّأر المذكور آنفاً في شعر لحسان بن ثابت وهو:
وشريف لشريف ماجد لا نباليه لدى وقع الأسل!
فالثّأر ليس للقصاص من أجل العدل الاجتماعيّ بل للتعويض عن الخسارة. وأصبح تقدير هذه الخسارة مضماراً للمسابقة الشّعريّة والتّفاخر بين القبائل:
نحن قتلن سيّديهم بشيخنا سويد، فما كانا وفاءً به دما(20)
وقول الآخر:
أصبنا به من خيرة القوم سبعةً كراماً ولم نأكل به حشف النّخل(21)

أمّا في قبائل غينيا الجديدة فالثّأر يجب أن يتّصل بالواتر ولو بعد قتل عدّة من أهله قبله(22).
وقد أدّى تأصّل عادة الثّأر والمغالاة به إلى حروب كثيرة لم يوقفها إلا نشوء عادة التّعويض الماديّ عن الخسارة أي الدّيّة(23) أو «تعفية الكلوم» كما في قول زهير بن أبي سلمى:
تُعفى الكلوم بالمئين فأصبحت ينجّمها من ليس فيها بمجرم
أمّا الحقوق الجزائيّة الدّاخليّة أيّ الّتي تتعلّق بما يرتكبه الرّجل في عشيرته وقبيلته، فشأنها يختلف عن حقوق الجزاء الخارجيّ. والسّبب عامل حفظ النّوع المصغّر في العشيرة أو القبيلة. فالإنسانيّة والاجتماع الإنسانيّ لرجل العشيرة أو القبيلة هما عشيرته أو قبيلته. وهذا العامل يهمّ الجماعة في مصيرها ولذلك لا يكون ضمن العشيرة حرب وقتال في سبيل الثّأر. والقبيلة تحتاط لنفسها ضدّ أهل الشّقاوة الدّاخليّين بطردهم أو برفع حمايتها عنهم.
وقد وجدت الجماعات الأوليّة مخرجاً ممّا يجرّ إليه الثّأر في حقوق الإجارة، خصوصاً في المجاميع الّتي أخذ فيها نظام العشيرة ينحلّ في القرية إلى نظام العائلة الفرديّة والثّأر الفرديّ.

في الدّولة
واقع الدّولة
أثبتنا فيما تقدّم صورةً للحقوق الأهليّة الّتي هي نتيجة القوى المناقبيّة الّتي تعمل في المجتمع لتأمين سلامته. وفي هذه الحقوق لا نجد الدّولة بل المجتمع وأوهامه (دينه) وعاداته. ولسنا نجد واقع الدّولة إلا حيث نجد في المجتمع قوّةً فيزيائيّةً تخضع أو ترهب(24).
ولكن لا بدّ لنا هنا من العودة إلى ما قلناه في أوائل هذا الفصل من أنّه لا يمكن تعيين حدود حقيقيّة فاصلة بين طور من أطوار الثّقافة الاجتماعيّة وغيره. ففي رجوعنا إلى أوائل عهد الدّولة نظلّ نتوغّل في الماضي أو ننحدر مراقي الثّقافة حتى نبلغ نقطةً تلتقي عندها السّياسة بالاجتماع فكأنّهما شيء واحد. ففي الشّعوب الّتي لا تزال قيد الفطرة، بالنّسبة إلى الشّعوب الثّقافيّة، نجد نقطة الاتّصال بين الدّولة والمجتمع في الطّوطميّة (ص 109) ففي تقارب الطّواطم بعضا من بعض واتّحاد عشائرها في الزّواج وإنشاء الطّواطم المكانيّ الّذي يجمع الكلّ في متّحد اجتماعيّ ينقسم إلى طواطم فرعيّة، نجد نظم الدّولة العشائريّة أو القبيليّة الّتي لا يكون جزءاً منها إلا من هو ابن العشيرة الدّاخلة في هذا النّظام(25).
بيد أنّ هذا الاتّحاد لا يكفي للدّلالة على واقع الدّولة. فقد تجتمع العشائر وليس لها في تنظيم أحوالها من الوسائل سوى المناقبيّة منها(26). وهي العادة والعرف والتّسليم للأوهام. ويندر الخروج على هذه القوى بين الأفراد لتساوي النّظر في الحياة ونقص الاستقلال النّفسانيّ في الجماعات الأوليّة(27). ورويداً رويداً نبتدىء نلاحط ظواهر اجتماعيّةً جديدةً نشأت مع الاستئثار بالمرأة والبطولة في المعارك والإقدام في الصّيد، وهذه الظاهرة هي: قيام الرّأس، أو الشيّخ، على العشيرة. فإنّ الشيوخ قضوا على ما كان باقياً من دستور الطّوطم وأنشأوا المملكة الخاصّة أو بالحريّ الإمارة، وأسسّوا سلطتهم عليها(28) ، وفركنط(29) يزعم أنّ الرؤوس يظهرون في تركيب دوليّ أعلى من الدّرجة الأولى تتفرّع منه وحدات أصغر منه. وممّا لا شكّ فيه أنّ الدّرجة الّتي يظهر عليها الشيخ هي فوق درجة الطّوطميّة، إذ تكون المشيخة قد قضت على الطّوطميّة. ولكنّنا هنا فقط نجد صورة الدّولة في ما يمكن أنّ نسميه سلطةً، أو أداةً تنفيذيّةً، أو قوّةً فيزيائيّةً.

فوارق السّلطة
كلّ دولة مهما كانت بسيطةً تتألّف من ثلاث وظائف: تشريعيّة وتنفيذيّة وقضائيّة، تقوم على ثلاثة أصناف «سياسيّة» لكلّ مجتمع له ابتداء دولة هي: الجنس والسّن والشّخصيّة، يضاف إليها، مع تقدّم العمران، صنف العبيد. وكان طبيعيّاً أن يعيّن الجنس الدّولة، إذ لمّا كان أهمّ عناصر الدّولة القوّة الّتي بها تتمّ السّلطة كان بديهيّاً أن يقوم الجنس القويّ ــــ الرّجال ــــ بأمر الدّولة. أمّا المرأة فمع أنّه كان لها حريّة في تصرّفها في عهد الزّواج الشيّوعيّ الإجماعيّ فهي لم تكن تشترك في الحياة السّياسيّة إلا نادراً وأندر منه أن يكون لها نفوذ راجح فيها. والعبيد أيضاً لم يكن لهم شأن قطّ في الحياة السياسيّة، اللّهم إلا المشاكل العديدة الناشئة عن وجودهم وكثرتهم.
إنّ الصنف الهامّ الّذي كان له التّأثير الأرجح هو السّنّ. فحيث الحياة تجري بالاختبار المباشر يكون للسّنّ أهمية فاصلة في البتّ في شؤون المجتمع السياسيّة، وكلمّا ارتقت الشّعوب في حياة الاختبار مداورةً وتشعبّت العلوم وتراكمت موادّها بفضل الأبجديّة، هبطت أهميّة السّنّ من حياة المجتمع السياسيّة.
يأتي بعد السّنّ، وفي درجة أعلى منه، الشّخصيّة. ومع أنّنا نعلم أنّ شخصيّة الفرد من وجهة نفسيّة (عقليّة) عصريّة لا وجود لها في الأقوام الآخذة بالفطرة فإنّ الفوارق الشّخصيّة فيها ليست معدومةً بالمرّة ذلك لأنّ المواهب الطّبيعيّة ليست عقليّةً فقط، بل فيزيائيّةً أيضاً. فتفوّق بعض أفراد العشيرة أو القبيلة في حروبه وغزواته يكسبه شخصيّةً بالنّسبة إلى حالة عشيرته أو قبيلته الاجتماعيّة. وهكذا نجد وظائف الدّولة تقابل بتشكيل الدّولة من الشّيخ أو الأمير وشيوخ القبيلة أو العشيرة واجتماع الشّعب. وحيث يتّسع نطاق الدّولة يسقط اجتماع الشّعب ويبقى الأمير والشّيوخ. ولا يعني هذا التّقسيم مطلقاً أنّ هنالك توزيعاً لوظائف الدّولة يجعل السّلطة التّشريعيّة أو التّنفيذيّة في الأمير أو مجلس الشيّوخ على أن يكون كلّ منهما مرجعاً خاصّاً لإحداهما وكذلك القضاء.

الاتّصال بعالم الأرواح والتّشريع والقضاء
يصعب كثيراً على السوريّ العريق في المدنيّة والفلسفة العقليّة أن يتصوّر اليوم حالة الأوهام الّتي كانت للإنسان الأوّل والّتي لا يزال عليها بعض الشّعوب الابتدائيّة الملازمة للفطرة. فإنّ الرّعب والوهم وهواجس الخوف والحياء تجاه الطّبيعة الفائقة القوّة ولّدت في الإنسان الفطريّ تصوّر قوًى مغيّبةً تسيطر على الطّبيعة والرّوح الإنسانيّة. وقاده هذا التّصوّر إلى محاولة اتقاء شرّ هذه القوى الخفيّة بتخطيط قواعد لحياته. وهذا هو أصل العقائد الرّوحيّة التي أخذ الإنسان المرتقي يعالجها حتّى بلغ بها فكرة الله، ثمّ هو أخذ الآن في معالجة هذه الفكرة نفسها ليجعل من الدّين مثإلا أعلى جميلاً، خالياً من صور الرّهبة والتّهويل مجرّداً من المشوقات المذهبيّة.
أدّى تصوّر القوى الخفيّة المخيفة إلى عقائد غريبة منها عبادة الأجداد وتصوّر عالم أرواح تأتي منه الرّوح وتعود إليه. ولم يطل الوقت حتّى نشأ سلك السّحرة والعرّافين، أسلاف الكهنة والقسس والأنبياء. فكان لهم تأثير كبير على المجموع بإعلان إرادة عالم الأرواح الّذي كانوا يدّعون الاتّصال به وهكذا تمكّنوا من إنشاء عادات جديدة واتّخذوا لأنفسهم صلاحيّةً إصدار الأحكام باسم الأرواح المحجوبة، باسم الآلهة.
وليس قليلاً تأثير الاعتقاد بالأرواح وبالاتّصال بأرواح الجدود على الحقوق الأوّليّة وممارستها خصوصاً فيما يتعلّق بالثّأر ومنه الأثر الآخذ في الزّوال من الأدب في سورية الظّاهر في المجاز: «عظام الجدود تنتفض في قبورها». ومن مثل هذه المعتقدات أنشئت مؤسّسة الطّابو Tabu السّحريّة الّتي صار لها تأثير كبير على الحقوق «المدنيّة» والإدارة العامّة كما سيجيء.
وهكذا نجد أنّ التّشريع كان يستند في البدء إلى السّحر والعرّافة (الدّين)، فضلاً عن العادة التي هي أولّ القوانين. فيكفي، لدى الشّعوب الفطريّة، أن تعلن سابقة أو وحي من عالم الأرواح تعزى إلى بعض الجدود المشهورين(30) لسنّ قانون جديد. وإنّ من أهمّ قوانين الجماعات الأوليّة: ما مشى عليه الأجداد، فالأجداد مقدّسون، بل هم آلهة، وكلّ ما كان جيّداً لهم يجب أن يكون جيّداً للأبناء.
ولكنّ هذه الجماعات، أو المتقدّمة منها، لا تعدم سنّ القوانين بالاستنباط، الفرديّ، كما يجري في بعض قبائل شرقيّ أستراليا، حيث تجتمع عشائر القبيلة في وقت معيّن من السّنة فيقترح أحد الشّيوخ رأياً قد يكون بحثه مع هيئة شيوخ عشيرته، فإذا لاقى اقتراحه الاستحسان صار قانوناً(31) وفي الجنوب الشّرقيّ من أستراليا يقوم مقام الرأس في طرح الاقتراح السّاحر أو العرّاف الّذي يدّعي أنّه قد رأى في نومه أو أنّه قد أوحي إليه.

الشّكل الديمقراطيّ
للدّولة ثلاثة أشكال رئيسيّة هي الدّيمقراطيّة [Democracy] والأوطقراطيّة [Autocracy] والأرستوقراطيّة [Aristocracy]، أو هي حكم الشّعب وحكم الفرد المطلق وحكم الأقليّة المفضّلة. وفي أبسط وأولى حالات الدّولة الّتي هي أبسط حالات التّطوّر الاجتماعيّ نجد الشّكل الدّيمقراطيّ للدّولة في العشيرة أو القرية، حيث يمكن اجتماع الشّعب كلّه. وحيث الدّولة أوسع من القرية أو العشيرة فالعشيرة أو القرية تتمتّع باستقلال إداريّ تامّ، فالطّوطميّة تزول ولكنّ الأساس الّذي قامت عليه يبقى.
يتألّف شكل هذه الدّولة الدّيمقراطيّ من الرّأس ومجلس الشّيوخ أو مجموع الشّعب. ومجلس الشّيوخ يتألّف من رؤساء البيوت أو العائلات أو العشائر الّتي هي من صلب القبيلة. وفي هذه الحالة يكون الرأس مقيّداً برأي المجلس أو الجماعة. وفي الدّولة القبيلة أو الأرضيّة المتّسعة لا سبيل لاجتماع الشّعب فيكون الشأن دائماً للشّيوخ. وهذا الطابع هو من خصائص دول الشّعوب الفطريّة الّتي لا قياس لها في المجتمعات المرتقية العمرانيّة. وهو شكل يجمع بين شكلين: أرستوقراطيّة السّنّ والتّمثيل الشّعبيّ. فإنّ امتياز الشيوخ يكاد يكّون طبقةً أرستقراطيّةً في حين أنّ علاقتهم بالشّعب متينة إلى حدّ يكتسبون عنده صفة التمثيل والنّيابة(32) وعلى هذا أكثر الشّعوب الصّيادة وجامعة القوت في أستراليا والأسكيمو وهنود أميركة والشّعوب المتبديّة في آسيا وإفريقيا(33) وظهور هذا السّكل في أقلّ الشّعوب ثقافةً يعطينا الدّليل الأثنولوجيّ على أسبقيّة الدّيمقراطيّة وإذا كانت الشّيوعيّة قد سبقتها، كما رأيت فيما تقدّم من هذا الفصل ومن الفصل السّابق، فتلك حالة اجتماعيّة بحت لا نظام سياسيّ.


الشّكل الأوطقراطيّ
إنّ الشّكل الدّيمقراطيّ المتقدّم وصفه هو من خصائص الجماعات الأوّليّة والشّعوب الّتي لا قابليّة لها لإنشاء الدّولة الأرضيّة المنظّمة (Territorial) أو التّي لا تمكّنها أحوالها من ذلك. وهو فوق ذلك يدلّ على انصراف إلى نوع من الحياة بعيد عن الحرب والفتح و التّوسّع. ولعلّ الحرب ادعى الأمور إلى نشوء الشّكل الأوطقراطيّ ولعلّ الملكيّة الصّغيرة نشأت على يد البطل الحربيّ الظّافر(34). وليس أوهى من النّظام السّابق في الحالات الحربيّة الّتي تقتضي دفاعاً شديداً ضدّ عدو قويّ أو إعداد حملة منظّمة على بلاد. ولذلك نرى في بعض القبائل تنظيماً ثنائيّاً يقابل حالتي السّلم والحرب فلحالة السّلم رأس ضعيف القوّة وللحرب رأس واسع السّلطة(35). ومن تحوّل سلطة هذا الأخير إلى الثّبات والاستمرار ينشأ الشّكل الأوطقراطيّ. وبعد نشوئه لا تبقى له حاجة إلى شرط بقاء الحرب، فيصبح الرّأس أميراً مطاعاً في الأمر والنّهي وفي يده الحياة والموت. ويصبح المبرّر لوجوده نسبه أو حسبه أو ثروته أو ظهور سلطة له على القوى الخفيّة من عالم الأرواح. وأبرز صورة لهذا الشّكل تبدو في دول الزّنوج الاستبداديّة. فالرّأس أو الأمير سرٌّ دينيّ (سحريّ) وفي بعض القبائل يحتجب شخصه عن النّاس ويشدّد في ذلك حتّى ليجازى، من رآه يأكل بالموت(36).
ولكنّ الشّكل الأوطقراطيّ لا يكون دائماً بهذه الفظاعة. ففيه أيضاً مجال للاجتماع الشّعبيّ العامّ وللشّورى. وتضعفه بعض العادات الرّاسخة في التّقليد كعادة إقصاء المراهق عن المجتمع إلى البرّيّة ليتعوّد الاحتمال والخشونة فيتكونّ من مجموع المراهقين نوع من جمعيّة تضمّهم في أحوالهم الخاصّة، ثم لا تلبث أن يصير لها شأن في المجتمع(37). ولا يستطيع الرأس الحاكم بأمره التّخّلص من وظائف الشّيوخ الشّوريّة. والموظّفون في دائرة الجباية والنّظر في بعض المصالح، يمتزج في خدمتهم الأمير ــــ تمثيل المصالح القائمين عليها ويكونون الواسطة لإبلاغ رغائب التابعين إلى الأمير.


الإقطــاع
في الدّول الأوطقراطيّة الّتي تتغلّب على ما جاورها يظهر الإقطاع بشكل ولاية لرجل من أهل الأمير يتصرّف بالمقاطعة الموكلة إليه بمطلق إرادته(38) ، يأمر وينهى ويجبي كيفما شاء. ويكون طابع هذه الدّولة استبداديّاً لكن هنا أيضاً تدخل عوامل تضعف الاستبداد، منها اجتماع الأشراف وجود مجال لاجتماع الشّعب أيضاً. وأحياناً ضعف الأمير وعجزه عن القبض على أزّمة الأمور بقوّة. وهكذا نجد عنصر الدّيمقراطيّة حتّى في الدّولة الاستبداديّة إلا أنّ هذا العنصر يكون من حظّ الفاتحين فقط، أمّا المغلوبون فعليم الطّاعة والخضوع. وطريقة اجتماع الشّعب الدّيمقراطيّة تكون بالاجتماعات المعقودة في القرى برئاسة شيخ القرية للبحث في شؤون القرية الدّاخليّة. ويكون فوق هذه الاجتماعات اجتماعات أكبر لكلّ منطقة الدّولة لحلّ الاختلافات الّتي لا يمكن حلّها في الاجتماعات القرويّة(39).


الشّكل الأرستوقراطيّ
نرتقي من الشّكلين المتقدّمين إلى الشّكل الأرستقراطيّ عن طريق الإقطاع. وينشأ هذا الشّكل في أرقى الشّعوب الفطريّة ثقافة كالبولنسيّين الّذين لهم زراعة وإقامة، وفيهم تنشأ البيوتات الكبيرة الجامعة العبيد والأرقّاء والقائمة بأود أهلما منفردةً. فهنا نجد للدّولة ملكاً أو أميراً وإلى جانبه طبقة النّبلاء الّتي تفصل بينها وبين العامّة شقّة بعيدة. والشّعب يرى في الأمير سرّ قوّة إلهيّة فلا يتقدّم إليه الأتباع إلا ركّعاً. وله سلطة على الحياة والموت. إلا أنّ سلطته تخفّ جدّاً تجاه الأشراف الّذين يهمّه أمرهم والّذين كثيراً ما يؤلّفون مجلس شورى يقيم بعض الحدود للسّلطة المطلقة الّتي يتمتّع بها الأمير.


إدارة الدولة
هكذا الدّولة الأوّليّة في أشكالها السّياسيّة. ولا بدّ لنا لاكتمال نظرتنا فيها، من لمحة تتناول إدارتها، وهي ضئيلة جدّاً، لأنّ الإدارة ظلّت متأخّرةً حدّاً عن النّظام الدّستوريّ للدّولة، ولذلك لا يصحّ مطلقاً أن نطلق على الدّولة الأوّليّة اسم منظّمة فهذا الاسم تحتفظ به الدّولة التّاريخيّة الّتي شكّلت الإدارات وسجّلت الحقوق القانونيّة.
ولا شكّ في أنّ العادة وما مشى عليه الجدود شكّلا قسماً كبيراً من الإدارة وعاقا نشوء الإدارة الفعليّة. ومن هذه الجهة تبدو لنا أهميّة الرّأس أو الأمير حيث الوظائف والمكاتب الإداريّة معدومة. فحين يكون الأمير قويّاً طموحاً تمتدّ الدّولة، وحين يكون خامل الهمّة تضعف الدّولة وتتقلّص.
والعقائد والأوهام الدّينيّة (السّحريّة والخرافيّة) تلعب دوراً هامّاً في عرقلة تقدّم الإدارة، فنفوذ السّحرة كبير وتسلّطهم على العامّة عظيم حتّى إنّ رأس الدّولة في المرتبة الدّيمقراطيّة يتّخذ لنفسه وظيفة السّاحر ويستمدّ من هذه الوظيفة نفوذاً إداريّاً لا يستهان به. ولكن ليس كلّ الرّؤوس مؤهلين للأعمال السّحريّة ولذلك تظلّ الكّهانة قائمةً وتتّخذ لنفسها وظائف دوليّةً كالقيام بنصيب من التّشريع.
وإنّنا نرى سياسة الدّولة الاقتصاديّة تستند على الدّين فتتّخذ من الطّابو وسيلةً لحفظ حقوق الامتلاك فاستخدمته أقوى الطّبقات الاجتماعيّة لمنع النّاس من استعمال أو استثمار بعض المناطق والممتلكات. والطّابو مستمّد من الاعتقاد بالاتّصال بعالم الأرواح الّذي هو من خصائص السحرة. فتطّوب الممتلكات وتصبح محرّمةً، فكلّ من اعتدى عليها يخرق حرمة الطّابو ويعرّض نفسه لغضب عالم الأرواح، ثمّ ارتقى هذا التّعريض إلى إنزال العقاب الدّنيويّ بكلّ من تسوّل له نفسه انتهاك قداسة الطّابو(40).
وتتناول الإدارة عدا ما تقدّم «دخوليّة» السوق فيعيّن الرّأس أو الأمير حرّاساً ليتحققّوا من نزع سلاح القادمين إلى السّوق، وقضاةً لحلّ المسائل الحادثة أثناء السّوق ويفرض الرّأس ضريبة «الدّخوليّة» وضرائب أخرى ينزلها بالقوم المغلوبين. وفي الدّول الاستبداديّة تتّخذ الضرائب شكلاً من السّلب لا يقتصر على مؤدّي الجزية بل كثيراً ما يتناول أتباع الأمير أنفسهم.

في الدّولة التاريخيّة
يظهر لنا في ما تقدّم صورة جلّة لكيفيّة نشوء الدّولة بعامل الحياة الإنسانيّة، ومنذ نشأت الدّولة أصبحت هي شخصيّة المجتمع وصورته، يعظم بعظمتها ويصغر بصغرها وإنّنا نرى ابن خلدون في مقدّمته قصر اجتهاده على تعريف شكل واحد للمتّحد الاجتماعيّ هو الدّولة [المقدمة. الفصل الثالث من الكتال الأول. “في الدول عامة”]. فالدّولة هي الّتي صهرت جماعات متباينةً في بوتقة واحدة وكوّنت من المزيج وحدةً نظاميّةً حيثما مكنّت من ذلك البيئة ووجهة الحياة. والحقيقة أنّ الدّولة ما كادت تشعر بوجودها وكونها سلطةً في المجتمع حتّى أخذت تسيطر على المجتمع وتصرفه في أغراضها. الدّولة هي الّتي تشكّل المجتمع وتعيّن مداه وتكيّف شؤون حياته وتمثّل شخصيّته هكذا نجد الدّولة المنبثقة مع فجر التّاريخ، وهكذا تنشىء الدّول التّاريخ.
يبتدىء عهد الدّولة التّاريخيّة، في الأقوام الثّقافيّة الخارجة من العصر الحجريّ إلى العصر المعدنيّ، وهي الأقوام الساميّة والحاميّة في بابل وأرض كنعان ومصر، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً (ص 61 أعلاه)، بالانتقال من التنظيم العشائريّ إلى دولة الأرض، وبتحوّل الأمير ذي القوّة السّحريّة الخرافيّة إلى ملك هو الإله أو كاهنه الأعلى، هو بهاء الشّمس المشرقة. ففي الأساطير المصريّة أنّ الآلهة أنشأت الدّولة المصريّة، كما أنشأت العالم وأنظمته(41) ، وفي المملكة المصريّة الجنوبيّة، قبل ميناس بزمان، نجد هورس، أقدم إله مصريّ قوميّ، متجسّداً في الملك(42) ويذهب ماير(43) إلى أنّ الحالة في المملكة الشماليّة لم تكن تختلف عن هذ الشّكل.

الدّولة الاستبداديّة وعهد الأمير الامبراطوريّات الأولى
الحقيقة أنّنا لا ننتقل دفعةً واحدةً من مرتبة الدّولة الأوليّة إلى مرتبة الدولة التّاريخيّة النّاشئة في بابل وآسور وسورية وفي مصر، بل هنالك مرتبة وسطى لا بدّ لنا من الإلماع إليها هي مرتبة دول الشّعوب المتوسطة بين الشّعوب الأوليّة والشّعوب الثّقافية.
على هذه المرتبة المتوسّطة نجد امبراطوريّة الأزتك المكسيكيّة الدّالة على طور ثقافيّ عال نوعاً. فإنّ شعب الأزتك كان قد اخترع كتابةً خاصّةً لا علاقة لها بكتابة الشّعوب الأسيويّة لها مزيّة قابليّة التّطوّر نحو الكتابة الصّوتيّة المقطعيّة، وأنشأ دولةً واسعة الأطراف بقي لنا منها قسم من كتاب في الحقوق الجزائيّة لعهد الملك «نزاهو الكويتل» الّذي ملك من 1431 إلى 1472 (44). وكان لهذا الشّعب عادات تشابه عادات العالم القديم كعادة الختان والمعموديّة بالماء.
وفي هذه الدّرجة أيضاً امبراطوريّة الأنكا البيروانيّة وهي امبراطوريّة قامت على الحرب والفتح وملوكها آلهة متحدّرون من الإله الشّمس، ومن تقاليد ملوكهم تزاوج الأخ والأخت وفاقاً للتّقاليد الدّينيّة. والملك هو في الوقت نفسه رئيس كهنة الشّمس والرّوح الكونية. ويجيء بعده سلك من الكهنوت لا بأس بترتيبه. ولكنّ الأنكا، إجمإلا أحطّ ثقافةً من الأزتك فليس لهم كتابة(45).
ومن الشّعوب الشّقيقة للشّعوب الثّقافيّة ولم تتمكّن، لظروفها الخاصّة، من بلوغ مرتبة الدّولة الثّقافيّة التّاريخيّة: العرب والمغول. ففي بلاد العرب أوجد محمد الدّولة الدّينيّة الّتي ما لبثت أن انتقلت إلى خارج بلاد العرب حيث دخلت في حوزة الشّعوب الثّقافيّة المنشئة الدّولّ. وفي بلاد المغول المشهورين بفروسيّتهم وقوّة سياسيّيهم نشأت بعض الدّول الّتي دخلت التّاريخ وقامت بفتوحات واسعة، خصوصاً في الصّين، الّتي دخلها أتباع حنكيزخان، والهند. ولكنّ شعوب المغول الباقية، كالقملوق، فإنّ دولتهم تشبه الدّولة في بلاد العرب من حيث إنّها دولة قبائل يؤلّف العرف نصوص حقوقها والأوامر والنّواهي الدّينيّة شرعها. وقد عرض ابن خلدون، في مقدّمته، للأسباب الّتي تحول دون نشوء الدّولة في العرب ومن في حكمهم إلا على أساس دعوة دينيّة ولكنّه لم يستوف هذه الأسباب [ابن خلدون. المقدمة. الفصل السابع والعشرون “في أنّ العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من دين على الجملة”].
وإنّنا نجد الدّولة التّاريخيّة نفسها مستندةً في بدئها إلى أساس دينيّ حتّى إنّنا نجد شبهاً عظيماً بين ملوك مصر قبل ميناس وملوك الأنكا في أميركة الجنوبيّة، ولكنّ الدّولة التاريخيّة استمرت وتطوّرت مع تطوّر الشّعوب.
طُبعت الدّولة التاريخيّة في بدء نشوئها بطابع الاستبداد، لأنّ الدّولة بطبيعتها قوّة والقوّة تطلب دائماً السّيطرّة. وطرليف شيلدرب ــــ إبه(46) يقول إنّ الاستبداد هو المبدأ الأساسيّ للاجتماع الإنسانيّ والحيوانيّ والنّباتيّ، بل وللجماد أيضاً. ويزيد أنّ الاستبداد هو الفكر الأساسيّ للعالم. وما نريد أن نتوغّل هنا في مثل هذه المذاهب الفلسفيّة في طبيعة الدّولة والاجتماع. ولكنّنا نقول إنّ الدّولة الشّاعرة بقوّتها في عهد لا إرادة ظاهرةً فيه سوى إرادتها، لم يكن لها مندوحة عن الاستبداد. فهي كانت شيئاً فوق المتّحد الاجتماعيّ وكانت تدّعي سلطةً من عالم فوق هذا العالم. أمّا الإرادة العامّة الّتي هي من خصائص كلّ متّحد فكانت شيئاً إمّا باطناً وإما كامناً. ولم تكن الدّولة فقد تدّعي سلطة الله، بل كان النّاس يعبدون الملوك عبادةً. ففي الدّولة المصريّة الوسطى أوصى أب أولاده: مجّدوا الملك في قلوبكم، فهو إله الحكمة الّتي تبصر عيناه ما في القلوب، هو رع الّذي نبصر لمعانه، هو يضيء مصر أكثر من الشّمس ويجعل الأرض أخصب ممّا يجعلها النّيل الكبير، هو يطعم عابري سبيله. الملك روح خالق وبارىء النّاس إلخ(47). وكما أوجدت الآلهة المملكة المصريّة كذلك أسّست الآلهة مملكة حمورابي وأسلافه فهي لا تزول حتّى تزول السماء والأرض، كما يقول الملك نفسه(48) .
لا مجال، في هذا البدء التّاريخيّ للدّولة، في هذه الدّولة الّتي أسّستها الآلهة، لتعريف القوّة السّائدة بأنّها «من صفات الإرادة العامّة الّتي عمّمها الاتحاد في القصد»(49). فالقصد هو قصد الدّولة، قصد القوّة السّائدة المسيطرة، قصد الملك الّذي استأصل شأفة الثّأر وجعل الحقوق الجزائيّة من شأنه(50) وأنشأ الجيش وسيّره للفتح والسّلب. وتصريف شؤون الدّولة أمر متّفق عليه بين الملك والإله المتجسّد فيه.
لمّا كانت هذه الدّولة القائمة بإرادتها قد نشأت في مهد الثّقافة، في الشّرق الأدنى، خلط المؤرّخون والدّارسون القدماء بين طبيعة الدّولة وطبيعة الشّرق، بين طور من أطوار الثّقافة والشّعوب المنشئة الثّقافة. ولا يزال هذا الخلط يردّد حتّى الآن.
سارت الدّولة التّاريخيّة نحو الامبراطوريّة بعامل مبدأ القوّة. والدّولة المتّسعة كانت تمثّل انتصار فكرة القوّة في السّياسة على فكرة العدل فيها(51) ، فقد تخلّت الدّولة عنّ تلك الدّيمقراطيّة الأوّلية الملازمة لحالة كلّ أشكالها وقواها رهن القوت الضّروريّ، واتّخذت من أسباب الثّقافة المرتقية في أعمال الإنتاج والخزن وسيلةً لتنفيذ إرادتها. وهكذا تمّت لها السّيطرة الّتي أصبحت محور المزاحمة بين طبقة الملاكين الأرستقراطيّة والملك. ولكنّ سياسة الامبراطوريّة كانت في جانب الملك لما تقتضيه من التّمركز خصوصاً حيثما كانت الخطط خطط الملك كما في بابل ومصر.
وبديهيّ أنّ تمركز القوّة تمركزاً نظاميّاً لا يمكن أنّ ينشأ في حالة البداوة وبين الرعاة. وهو عند أهل الزّراعة و الفلح أضعف منه عند أهل المدن ولذلك نجد القّوة في المناطق الحضريّة متمركزةً في أهل المدينة. وإنّ قو بابل العظيمة تعزى إلى المدن الّتي نشأت في شنعار أكثر مما تعزى إلى غنى الأرض. ومتى علمنا أنّ عدداً من المدن الصغيرة في منطقة تكاد لا تتجاوز الخمسين ميلاً طولاً والعشرة أميال عرضاً(52) هي الأساس الّذي بنت عليه بابل عظمتها وقوّتها الامبراطوريّة أدركنا أهميّة المدينة للدّولة الرّامية إلى الاتّساع.
في بابل وممفيس تمركزت القوّة والإدارة حتّى أصبحت إرادة الفرد الملك هي كلّ شيء في الدّولة. ولكنّنا نجد فرقاً ظاهراً في تفرّد النّظامين الشّنعاري والمصريّ. فمع أنّ حمورابي لبّى دعوة الآلهة ليقيم القسطاس في النّاس فإن شريعته الشّهيرة الّتي خلّدت ذكره كلّها أحكام زمنيّة دنيويّة. وليس في بابل لسلك الكهنة الشأن الّذي كان له في مصر في الدّولة الجديدة حيث شغل الكهنة وظائف الدّولة. هنا نشب نزاع شديد بين قوّة الدّولة الزمنيّة وسلطة الكهنة لعهد أخنتون(53). ولكنّ المحاولة الإصلاحيّة القائلة بوحدة الإله الّتي نادت بها الملكيّة خابت ودلّت عودة العبادة القديمة على أنّ قوّة السّلك الكهنوتيّ كانت أشدّ من قوّة الملك الّذي أصبح لا يحمل من الحكم سوى اسمه بينما الفصل في أهمّ الشّؤون يلقيه أمون إلى رئيس الكهنة. ولكنّننا مع ذلك لا نرى في مصر ولا في أيّة دولة أخرى ما نراه في الهند من قوّة الكهنة الّذين شكّلوا طبقةً احتكرت السّلطة، فهنالك تنصّ القوانين على خضوع الملك الحاكم بمفرده للكهنة. وقد قوي سلك هؤلاء وبلغ من استفحال أمر أنّ أصبح من واجبات الملك المتوّج أداء يمين الإخلاص للكهنة البرهمانييّن الّذين لهم الكلمة النّافذة في إعلان الحرب ووضع السّلم، وفي السّياسة والقضاء والتّنفيذ والتّشريع(54). والأرجح أنّ هذا هو السّبب في بقاء الهند بلا امبراطوريّة ولا ديمقراطيّة إلى العصر الحاضر.
كان للتّفرّد في السّلطة في بابل ومصر، خصوصاً في الأولى، الشّأن الأعظم في تنظيم الدّولة وترتيب الامبراطوريّة. فإنّ المسؤوليّة تجاه الملك وإمكان مراجعة الرّعية الملك في أيّ أمر كبير أو صغير، منع تولّد سيطرة النّبلاء وذهاب السّلطة إلى أيديهم، وأغلق باب التّلاعب بالمقدّرات لهم. والحقيقة أنّنا نجد جذور الدّيمقراطيّة الحديثة في سلطة الفرد الّتي أنقذت السّيادة من مطامح الأقليّة الممتازة أو كما يقول مكيور(55) ، على هذه الطّريقة أعدّت الملكيّة طريق الدّيمقراطيّة.
نظّمت الدّولة المركزيّة ذات السّلطة الفرديّة الإدارة العامّة والجيش. ففي بابل نظّمت المكتبيّة بكلّ دقّة وكانت العناية بموظّفي الحكومة كبيرةً. وكانت الدّولة تأخذ على نفسها تحرير الأسرى الّذين يقعون في أيدي العدوّ حين لا يكون لهم ما يفكّهم(56). وكان نظام توزيع الثّروة والاشتراك في الدّولة يقوم على استثمار المشاع بحيث تحدّد للمرء أرض يعمل فيها ويعطي الزّائد عن حاجته للدّولة لقاء استعداده للانخراط في الجيش والاشتراك في الحملات الحربيّة. وقد كان الجيش في بابل ومصر من أبناء الدّولة شعبيّاً. وكانت الدّولة السّوريّة في عهد حمورابي تمتاز على الدّولة المصريّة بتنظيم الجيش في أيام السّلم والحرب. ففي شريعة حمورابي كان استئجار الجند يعاقب بالإعدام(57) وقد ارتفع لذلك الفنّ الحربيّ عند البابليّين فعنهم نقل المكدونيّون فنّ الحصار، ومن فنونههم محطّات النّار الّتي عرفت فيما بعد بالنّار الإغريقيّة(58). أمّا في مصر فلم يكن للجيش مكانة ممتازة في الامبراطوريّة المتوسّطة، وإن كانت هذه الدّولة قد سجّلت لنفسها بعض الانتصارات الهزيلة. والفضل في رفع الجيش المصريّ في الامبراطوريّة الجديدة إلى مستوًى مشرّف يعود إلى الملوك السّوريّين، الهكسوس(59) الّذين أعادوا تنظيم الجيش. ولكنّ الامبراطوريّة الجديدة استندت في تقوية الجيش إلى استئجار الجند فكان ذلك من أكبر العيوب الّتي أدّت إلى عواقب وخيمة كالعواقب الّتي نزلت بالامبراطوريّة القرطاضيّة، كما سيجيء، إذ إنّ ما يبقي الجيش المأجور قائماً هو رنين النّقد لا صوت الملك. والجيش الّذي ساعد بزمتيخ (Psammetich) على إنشاء دولته أخذ يتناول أجرته من فارس بعد نكبة بلوسيوم.
أمّا الإدارة العامّة فقد أشرنا إلى أنّها كانت متمركزةً. وصحيح أنّ الفرد المتسلّط بصفة ملك كان له مجلس يستشيره في أمور الدّولة، ولكنّ هذا المجلس لم يكن له شأن المجلس الوزاريّ الّذي نعرفه. وأخبار حمورابي تدلّ على كثرة ما كان يمرّ على يدي الملك من الشّؤون. فهو الّذي كان يهتمّ بالأعمال الزّراعيّة كالرّيّ وبناء المخازن لأيام الجدب وما شاكل وهو مرجع كلّ أمر كبير أو صغير.
ممّا تقدّم لنا في هذا الاستعراض نرى أنّ الدّولة الامبراطوريّة عرفت السّيادة بمعنى التّملّك وحوّلت الثّروة العامّة إلى ملك خاصّ ولكنّ السّلطة الفرديّة أنقذت الشّعب من استبداد الطّبقة، حيث وجدت، إلا في الهند حيث برهنت الطّبقات على أنّها أشدّ ارتكازاً من سلطة الملك الفرد.
جرت الدّولة على خطّة الاتساع الأرضيّ فسيطرت على شعوب متعدّدة وبقاع واسعة فقد قامت بابل ثمّ سقطت وقامت أشّور الّتي جرت على الأسلوب نفسه ثم عادت الدّولة البابليّة الجديدة على سواعد الكلدان الّذين هم فرع من الآراميّين فكسرت شوكة الأشّوريّين وبسطت سلطانها عليهم. وحمورابي نفسه كان أموريّاً سوري الأصل(60). ونشأت في سورية دولة قويّة بسطت سلطانها على مصر ونقلت مركزها إليها. كما عادت مصر فوسّعت سلطانها وكما انحدر الفرس على امبراطوريّة الكلدان وبسطوا سيطرتهم على بقاع مترامية الأطراف.
في كلّ هذا التّاريخ الطّويل نعرف المجتمع في الدّولة السّائدة، فالشّعب تابع لها، فلا كيان للأقوام غير كيان الدّولة، وإنْ احتفظت بعباداتها وطقوسها، بل إنّنا نجد الدّولة آخذةً في جبل المجتمع فهي قد جبلت السّاميين والشّمريّين في «باب الله» (بابل) وهي جبلت الشّماليّين بالجنوبيّين في سوريّة.


الدّولة المدنيّة والامبراطوريّة «البحريّة»

ولكنّ الدّولة لم تسر دائماً على الأسلوب المتقدّم وصفه فهو من خصائص أسباب معيّنة في ظروف موافقة. ففي سورية نجد الدّولة تحتاج إلى درس خاصّ سنتوسّع فيه في الكتاب الثّاني من هذا المؤلّف. ولكن لا بدّ لنا هنا من ذكر ما له علاقة بالتّطور العامّ للدّولة في هذه البلاد.
إنّ سورية أيضاً ساهمت في الدّولة البرّيّة حيث ساعدت الظّروف كما في الشمال حيث نشأت الامبراطوريّة والحثّيّة. وإنّنا نعلم أنّه على أثر انتهاء الامبراطوريّة الوسطى في مصر قامت من سورية حركة إمبراطوريّة واسعة اكتسحت مصر وثبّتت نفسها هناك وأنشأت لأسرة المعروفة بأسرة الهكسوس الّذين عرفوا، بإحدى التّرجمات، بالملوك الرّعاة(61). ولكنّ اتجاهاً خاصّاً في الدّولة نشأ في سورية كان له شأن غير الشّأن العامّ الّذي كان للدّول في مصر والصيّن. ونرجّح أنّ السّبب الأقوى في نشوء هذا الاتّجاه هو البيئة السّوريّة المتنوّعة، خصوصاً الشاطىء السوريّ. فإنّ البحر لم يكن للسّوريّين ما كانه لأقوام البلدان الأخرى، حدّاً يجب الوقوف عنده. ومن هذا الواقع ندرك أنّ التّاريخ غير مكتوب على الأديم. فهو غير حتميّ، كما تظهره أقوال وكتابات كثير من السّوريّين في أعصر الخمول القوميّ وأوضحها العبارة: «إنّ سورية جسر بين الشّرق والغرب، أي إنّ تاريخها مقرّر في موقعها. والحقيقة أنّ الأرض تقدّم الممكنات لا الاضطراريّات أو الحتميّات وهذا يعني أنّ الأرض هي الجهة الإيجابيّة من التّاريخ لا الجهة السّلبيّة. فكون سورية، مجازاً، صلة وصل بين الشّرق والغرب لا يحتّم مطلقاً أن يكون تاريخها تاريخ «جسر» ولدينا أكثر من برهان واحد على صحّة ما نقول.
الحقيقة أنّ ما تألّمتك منه سورية منذ أقدم عصورها إلى اليوم هو كونها موازيةً من الجنوب للصّخراء الهاجمة على أرضها وأنّها معرّضة دائماً لتسلّط تيارات من هجرة القبائل المتبديّة عليها. أمّا شكل الأرض الدّاخليّ فقد نوّع الممكنات للشّعوب السّوريّة، بمقدار ما حدّدها في العصور القديمة. فإنّ سلسلة جبل لبنان أوجدت صعوبةً كبيرةً لأعمال توسيع الدّولة وتثبيتها. ولكن ليس هذا كلّ شيء، بل إنّنا نرى من الوجهة الشّعبيّة اتّجاهاً خاصّاً. فإنّ الكنعانيّين انصرفوا إلى أعمال الزّرع والغرس والتّجارة كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، فلم يوجّهوا عنايتهم إلى الحرب والغزو إلا نادراً ولذلك لم يقو فيهم الميل إلى إنشاء الامبراطوريّات الاستبداديّة الرّامية إلى التّوسع في الأرض وهم محاطون من الصّحراء والجبال والبحر. أمّا في الشّمال فإنّ الأرض تتّسع مع مجرى الفرات والخابور والدّجلة. وفيما سوى الدّول الأرضيّة الواسعة الّتي نشأت في الشّمال ودولة الأمّوريّين في لبنان وما وراءه، نجد دول سورية تتّخذ صبغةً جديدةً هي صبغة المدينة، خصوصاً في الغرب، على الشاطىء أمام لبنان حيث نزل الفرع الفينقيّ من الكنعانيّين. هنا أنشئت المدن صيدا وبيروت وجبيل وطرابلس وأرواد وعكّا وصارت كلّ مدينة دولة مستقلّةً، كما نشأت في الدّاخلية دول مدنّية امتازت بينها دولة دمشق.
على الشاطىء السّوريّ نشأت المدينة البحريّة الّتي أوجدت اتّجاهاً جديداً في الدّولة وأنشأت الامبراطوريّة البحريّة. فحتّى نشوء هذه المدن كان البحر حدّاً تقف الدّولة عنده لا مجإلا تتوسّع فيه. ولمّا أخذت مراكب الفينيقيّين تسبح في البحر وتتّصل بجزر وشواطىء أخرى صالحة للاستعمار وجّه هؤلاء الكنعانيّون همّهم إلى هذه الإمكانيّة الجديدة الّتي كانت لغيرهم حدّاً للإمكانيّات وتركوا أعباء البرّ بالمرّة، وانصرفوا إلى أعباء البحر بالكليّة. وهكذا نجد قوّةً من نوع جديد تنشأ على الشاطىء السّوريّ وتمتدّ إلى أماكن قصيّة وتقبض عى مواردها، فقد جمع الفينيقيّون بين عنصرين يأتلفان كلّ الائتلاف: التّجارة وسلك البحار، القّوة السّياسيّة والقوّة الاقتصاديّة.
كان من وراء هذا الاتجاه الجديد نشوء مبدأ الاستعاضة عن حشد الجيوش خطوطا طويلةً وفي حملات عديدة لإخضاع المتمرّدين أو لتأمين السّيطرة وأعمال الجباية بإنشاء النّقاط المركزيّة المسيطرة، وهي المستعمرات المنشأة في نقاط معيّنة لتأمين المواصلات والحركات التّجاريّة. أسلوب جديد للتوّسع بوسائل جديدة. وقد برهن هذا الأسلوب عن فاعليّة قويّة ونتائج عظيمة.
ولا بدّ لنا هنا من الإلماع إلى أنّ المزايا الثّقافيّة الّتي كانت للكنعانيّين كانت عظيمةً وقد رأينا إبداعها في اختراع الأحرف الهجائيّة [الأبجدية]. والشّعوب الأخرى الآريّة كالحثيين والمتنيّ وغيرهم والساميّة كالأمّوريّين والأراميّين كانت أيضاً ذات مزايا ثقافيّة عالية وسندرس هذه العناصر السّوريّة في الكتاب الثّاني ونقتصر هنا على هذه اللّمحة، لكي نتمكّن من درس الاتجاه الدّوليّ الّذي أوجد شكلاً جديداً من أشكال الدّولة ومرتبةً جديدةً من مراتب الثّقافة السّياسيّة. فالثّقافة الكنعانيّة العريقة لم تقتصر على ما هو اجتماعيّ اقتصاديّ كالّذي ذكر في الفصل السّابق بل تناولت ما هو سياسيّ أيضاً. فالشّريعة الكنعانيّة الّتي أخذ عنها العبرانيّون شريعتهم الموسويّة(62) لم تكن تقلّ عن شرعية حمورابي وهي تدلّ على الارتقاء السياسيّ العالي في جنوب سورية.
في هذه الأرض الّتي «تفيض لبناً وعسلاً» لم يتشبّث الكنعانيّون بمبدأ المحافظة المغرقة، الّذي كثيراً ما يصبح من مزاج الفلاح العاكف على الأرض، بل تنّبهوا إلى الممكنات الجديدة. ويمكننا أن نقول إنّ شعوب سورية كلّها لم تكن شديدة المحافظة من هذه الجهة، لأخذها بأسباب التّجارة واتّصالها المستمرّ بالعالم الخارجيّ بواسطة الحرب والتّجارة والاستعمار.
أدّى إدراك الفينيقيّين ممكنات البحر إلى إنشاء الامبراطوريّة البحريّة. فالامبراطوريّة البحريّة السّوريّة كانت أوّل امبراطوريّة بحريّة في العالم. وقد ابتدأت هذه الامبراطوريّة بمدينة صيدا الّتي كانت لها الزّعامة الأولى على فينيقية وبلغت أوجها في صور وقرطاضة. والحقيقة أنّ صيدا كانت المثال الأوّل للدّولة البحريّة المسيطرة. فالصّيدونيّون هم أولّ من اكتشف النّجم القطبيّ وأولّ من أبحر في اللّيل(63). ولمّا كنت الامبراطوريّة البحريّة تقوم على التّجارة والمواصلات أكثر ممّا تقوم على الاستيلاء على أراض برّيّة واسعة تتطلّب الحاميات الكبيرة، وتكون معرّضةً للتّفسّخ بطبيعة تقسيمها إلى ولايات وأعمال، فقد أدرك هؤلاء السّوريّون البحريّون بثاقب فكرهم أسرار ثبات الامبراطوريّة البحريّة وكان نقل صور البريّة إلى الصّخر البحريّ (صور معناها «صخر»(64)) الواقع على مرمى مقلاع من الشاطىء، عمل نبوغ عظيم جعل الامبراطوريّة الصخريّة في مأمن من غزوات جيوش بابل وأشور، الّتي أصبحنا نراها تتجمّع على الشاطىء وتهدّد المدينة الصّخريّة، عاصمة الامبراطوريّة الواسعة، بقبضات الأيدي، ويا همّ الصخر في قبضات أيدي الأعادي!
بهذه الطّريقة البديعة أمّنت صور سلامة امبراطوريّتها من كيد الأعادي حتّى مجيء الإسكندر. ولو أنّ هذه الجزيرة الصّخريّة كانت تبعد كيلومتراً فوق بعدها الأصليّ عن الشاطىء لكان الأرجح أنّ يرتدّ عنها الإسكندر خائباً وقد كاد. إذ قد تبيّن من سقوط صور وقرطاضة أنّ الامبراطوريّة البحريّة تقوم على عاصمتها فإذا ذهبت العاصمة ذهبت الامبراطوريّة البحريّة. فهي من هذا القبيل تختلف عن الامبراطوريّة البريّة الّتي قد تذهب عاصمتها، ولكنّ القضاء عليها لا يكون مبرماً.
شيء واحد لم تدركه الامبراطوريّة البحريّة القديمة هو وجوب التّناسب بين المركز والأطراف. فالامبراطوريّة البحريّة لا غنى لها عن الأرض والقوّات البرّيّة. ولو أنّ الفينيقيّين اعتنوا بالقوّات البّريّة عنايتهم بالقوّات البحريّة لما كانت تعرضت مستعمراتهم ووطنهم لما تعرّضت له.
ومهما يكن من أمر الامبراطوريّة البحريّة الّتي تأسّست على الشّاطىء السّوريّ، فإنّ أهميّة الدّولة المدنيّة الّتي نشأت في سورية عظيمة جدّاً، خصوصاً دولة المدينة البحريّة. في هذه المدينة وضع أساس الحقوق المدنيّة الّتي ارتقت في قرطاضة وبلغت أوجها في رومة.
في المدينة السّوريّة البحريّة، الّتي طبعت ثقافتها على البحر المتوسّط كلّه، تحوّلت الرّابطة القبيليّة القديمة إلى الرابطة الاجتماعيّة الواسعة. فزال باكراً ذلك الخضوع الأعمى للملك وزالت عن الملكيّة تلك الصّبغة الإلهيّة الّتي كانت لا تزال ترافق الملك والأسرة المالكة في الامبراطوريّات البرّيّة، وأصبح الملك فيما بعد يُنتخب انتخاباً لمدّة الحياة فكان ذلك أصل الدّيمقراطيّة والجمهوريّة. وصحيح أنّ الرأسماليّة تعاظمت وأنّ مقاليد الأمور صارت إلى أيدي الطّبقة الغنيّة، ولكنّ حقوق أبناء المدينة الأحرار في انتخاب الملك وفي الاجتماع لتقرير المسائل الهامّة، كانت حقوقا مشروعةً وإن كانت غالباً اسميّةً أكثر منها فعليّةً.
في هذه المدينة ازدادت الحركة الاجتماعيّة والاختلاط الاجتماعيّ وأخذت المصالح الخاصّة تحلّ محلّ مصلحة العشيرة وابتدأ النّاس يشعرون باشتراكهم في حياة واحدة هي حياة المدينة. وفي هذا الشّعور نجد أصول مؤسّسة حقوق الاشتراك في دولة المدينة والاتجاه نحو الدّيمقراطيّة. ولكنّ الحقوق السّياسيّة في المدينة السّوريّة البحريّة لم تقع قطّ في ورطة استبداد الجمهور بواسطة تدخّل الأفراد، كما حدث في أثينة المدينة الإغريقيّة لعهد بركلس [توفي 429 ق. م. Pericles] الذّهبيّ حيث كان يحقّ لكلّ فرد أن يتّهم أيّ موظّف في الدّولة، حين انتهاء مدّته، بالخروج على القانون، داعماً تهمته بأيّة صفة من هذه الصّفات المطّاطة: عدم دستوريّة أعماله، أو أنّها غير مرغوب فيها أو أنّ نيّاته كانت سيّئةً، إلخ(65).
إنّ العقل السّوريّ العمليّ لم يكن يميل إلى تخيّلات فاسدة من الوجهة العمليّة. ولذلك فهو قد اكتفى من التجربة الإغريقيّة للحكم الشّعبيّ، بواسطة الشّعب أجمع، بالمشاهدة. إنّه لخيال بديع، في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيــي أنّ يكون كلّ فرد من أفراد المدينة المعترف بهم «شريكاً» فعليّاً في إدارة الدّولة. إنّ المدينة السّورية ظلّت محافظةً على الفرق بين السيّاسة والاجتماع واضحاً. وهذا الفرق هو ما مكّن الدّولة من اطّراد تقدّمها.
ونحن نرى هذا الاطّراد جليّاً في المستعمرة السّوريّة الخالدة قرطاضة الّتي ما لبثت أنّ أصبحت دولةً قويّةً ومركز الإمبراطوريّة بحريّة مترامية الأطراف.
في قرطاضة زالت الملكيّة الوراثيّة باكراً وحلّت محلّها الملكيّة الانتخابيّة. ومع أنّ الملكيّة جمعت في نفسها وظيفة الكهنوت والقضاء والإدارة التّنفيذيّة، فإنّ انفصال القيادة الحربيّة والسّلطة العسكريّة عنها(66) أضعف مركزها وسيطرتها. ثمّ إنّ الملكيّة نفسها انحطّت في أوائل القرن الرابع ق.م إلى حالة الانتخاب السّنويّ بواسطة الكليّة الانتخابيّة(67). وهكذا نجد الدّولة القرطاضيّة تتّجه رويداً نحو الدّيمقراطيّة السّياسيّة بعد أن كاد احتكار بيت مغو (Mago) سلطة الإدارة الممثّلة في السّوفتين (Sufftets) وقيادة الجيش يعيدها إلى ملكيّة(68).
إنّ أهمّ عصور الدّولة القرطاضيّة كان عصر مجلس الشّيوخ ومجلس المئة والأربعة أعضاء. وكان مجلس الشّيوخ يتألّف من نحو ثمانية وعشرين عضواً وكان يمثّل رأس الدّولة(69). ففي صلاحيته كان إبرام شؤون الدولة وتمثيلها في الخارج وإليه يعود الملوك ومنه يستمدّون قوّتهم. وهنا نجد الدّولة الأرستوقراطيّة المؤلّفة من طبقة التّجار المثرين وأصحاب الأملاك الواسعة، ولكنّ قبض أسرة مقو على الجيش والإدارة معاً بالتّعاقب أوجد خطراً عظيماً على الأرستوقراطيّة بإمكانيّة إعلان هذه الأسرة نفسها أسرةً مالكةً. فلما أنشىء مجلس الــ104 أصبح هذا المجلس صاحب السّلطة العليا في الحكم على موظّفي الدّولة وقواد الجيش ورجال مجلس الشّيوخ والملوك المنتخبين سنوياً أو «السوفت». ومع أنّ قسماً من هذا المجلس كان ينتخب سنويّاً من الشّعب فإنّ نفوذ الطّبقة الغنيّة واستعمال المال وعدم وجود مادّة تمنع قابليّة إعادة انتخاب الأعضاء على طول الحياة، جعل هذا المجلس يمثّل حكم الطّبقة. ولكنّه كان في كلّ حال خطوةً واسعةً نحو الدّيمقراطيّة، إذ إنّ مرتبة المتموّلين لم تكن طبقةً خاصّةً بنفسها ومنفصلةً عن عامّة الشّعب، بل كانت مرتبةً يتعاطى أهلها الأعمال التّجاريّة(70) ويمتزجون بالشّعب. وهذه كانت ميزةً للطّبقة الحاكمة في قرطاضة، وإن الطّبقات في الدّول السّوريّة البحريّة لم تتحدّد التّحدّد الّذي نراه في غيرها. ولقد تمّ نشوء هذا المجلس الّذي كان يُقصد منه وضع حدّ للعائلة المسيطرة على شؤون الدّولة بدون أن تلجأ هذه إلى مقاومته(71) فبرهنت الدّولة القرطاضيّة بذلك على مرونة سياسيّة كبيرة جعلتها فوق جميع الدّول والامبراطوريّات التي تقدّمتها أو عاصرتها. وماير(72) يقول إنّه لم يكن بين جميع دول الإغريق دولة واحدة بلغت أو كادت تبلغ ما بلغته قرطاضة من وسائل القوّة والاتّساع. ولا يعطي ماير قرطاضة حقّها الكامل حين يقول(73) إنّها جديرة بأن تكون، من حيث التّرتيبات السّياسيّة، مثإلا يقتبس عنه الإغريق من بعض الوجوه.
إنّ محاولة الجمهوريّة الإغريقيّة ألغت الدّولة أو كادت تلغيها. وإنّ الأسلوب الّذي جرت عليه الدّولة في تقدّمها وارتقائها كان الأسلوب السّوريّ الّذي ارتقى في قرطاضة إلى الدّيمقراطيّة ووضوح الحقوق المدنيّة والحقوق الشّخصيّة مع بقاء الدّولة شيئاً متميّزاً عن الشّعب، مؤسّسةً لا يمكن أن تعرض لعبث الجمهور. والحقيقة أنّ نظام الدّولة القرطاضيّة كان معرّضاً لانتقادات بعيدة عن الصّواب، إذ ليس معقولاً، من الوجهة المنطقيّة، أنّ تتمكّن مؤسّسة فاسدة من إنشاء امبراطوريّة واسعة جدّاً وربح حروب عديدة في البرّ والبحر وإدارة هذه الامبراطوريّة الضّخمة طوال قرون. فقد أخضعت قرطاضة جميع الشّعوب الحاميّة في تونس ومرّاكش وسيطرت على قبائل البدو المجاورة وألحقت بسلطتها المدن الفينيقيّة على الشاطىء الإفريقيّ واحتكرت الجنوب الغربيّ من البحر المتوسّط والمحيط الأطلنتيّ. وإدارة دولة هذه مساحة أعمالها تقتضي نظاماً مرتقياً قويّاً ومؤسسات ثابتةً.
قسّم ديودروس أتباع الدّولة القرطاضيّة إلى أربعة أصناف:
أولاً: فينيقيــيّ قرطاضة.
ثانياً: فينيقيــيّ ليبيا.
ثالثاً: الرّعايا الليبيين.
رابعاً: البدو(74). 
ولقد ميّزت قرطاضة بين رعاياها الفينقيّين ورعاياها اللّيبيّين. وصحيح أنّ المدن الفينقيّة الّتي كانت في البدء حليفة قرطاضة أصبحت خاضعةً لها وداخلةً في نطاق حقوقها، مع احتفاظها بحكوماتها الخاصّة، ولكنّ ذلك جعل أبناء هذه المدن مساوين للقرطاضيّين في الحقوق الشّخصيّة والمدنيّة فكانوا يترقّون في الجيش ويحقّ لهم تسنّم المراتب العالية فيه. ولهم نفس مرتبة القرطاضيّين تجاه الشعوب الحاميّة المخضعة(75) ولكنّهم كانوا فاقدي الحقوق السّياسيّة.
لم تعرف قرطاضة الثوّرات الدّمويّة العنيفة، وهذه الحقيقة تدلّ على أنّ الدّولة لم تسر على طريقة الإرهاق. وإذا كان هنالك ضغط فهو قد تناول العبيد واللّيبيين الّذين كان يصعب على الفينيقيّين الامتزاج بهم وإدخالهم في متحدهم ولذلك لم تتمكّن قرطاضة من منح هؤلاء حقوق أبنائها، كما فعلت رومة فيما بعد مع الشّعوب الّتي دخلت ضمن امبراطوريّتها. ورومة نفسها، لم تسلّم بتساوي اللاتين وأبنائها إلا بعد حروب عنيفة ومشاكل صعبة.
إنّ المعضلة السّياسيّة العظمى الّتي كانت تواجهها قرطاضة هي النّزاع الشّديد الصّامت بين الطّبقة القابضة على زمام السّلطة وامبراطور الجيش. والحقيقة أنّ هذا النّزاع كان السّبب الرئيسيّ في خسارة الحرب الفينيقيّة الثّانية مع رومة. ففي هذه الحرب الطاحنة الّتي وضع خطّتها هاني بعل أعظم نابغة حربيّ في كلّ العصور وكلّ الأمم(76) ، سلك مجلس قرطاضة خطةً غريبةً تجاه هذا القائد القرطاضيّ العظيم، فقد اهتمّ هذا المجلس بإرسال المدد إلى الميدان الإسبانيّ ولم يتّخذ أيّ تدبير حاسم لإيصال المدد الضّروريّ إلى الميدان الإيطاليّ. إنّ هاني بعل كان يدرك جيّداً أنّ الضّربة القاضية الّتي يمكن إحدى الدّولتين المتنازعتين أن تنزلها بالأخرى يجب أن تكون في مركزها، ولذلك زحف على رومة ذلك الزّحف الرّائع مجتازاً جبال الألب الشّاهقة حتّى بلغ أسوار رومة وقد دبّ فيها الرّعب على أثر معركة كني [Cannae 216 ق. م.] المخلّدة نبوغ البطل السّوريّ وهلع قلب شعبها لتناقل العبارة Hannibal ad Portas. ولكنّ مجلس قرطاضة بقي غارقاً في دسائسه ضدّ القائد ذاهلاً عن المرمى البعيد الّذي رمى إليه هاني بعل.
وفي قرطاضة، كما في رومة، كان نزاع شديد بين حزب الشّعب والطّبقة القابضة على مقاليد الأمور. ومع أنّ المبدأ المعترف به في قرطاضة كان مبدأ سيادة الشّعب، إذ كان من المقرّر أن يستفتى الشّعب في كلّ اختلاف بين المجلس والمراجع الحكوميّة(77) ، فإنّ هذا المبدأ ظلّ بعيداً عن التّحقيق بسبب مناورات الطّبقة الحاكمة وبذل المال. ولكنّ الكوارث الّتي نزلت بقرطاضة في الحرب الفينيقيّة الأولى [264-241 ق. م.] وخسارة الحرب الفينيقيّة الثّانية [218-201 ق. م.] الّتي كانت كفتها فيها راجحةً، قوّى روح الاستياء في شعب المدينة ونشط الحزب الدّيمقراطيّ ومكّن هاني بعل من تحقيق إصلاحه الدّيمقراطيّ بإلغاء إعادة انتخاب أعضاء مجلس الــ104 أكثر من مرّة واحدة وتحوير بعض القوانين الإداريّة والماليّة فكان هذا الإصلاح سابقةً للإصلاح الغراقيّ(78) في رومة.
أعطى إصلاح هاني بعل قرطاضة الدّيمقراطيّة الصّحيحة والاتّجاه الدّيمقراطيّ الفعليّ. ولم يبق أمام قرطاضة لاستعادة حيويتها الامبراطوريّة سوى تمديد الحقوق السّياسيّة المركزيّة إلى المدن الفينيقيّة التّابعة أو الموالية لها ورفع الحقوق الشّخصيّة والمدنيّة في الشّعوب اللّيبية الّتي ظلّ مواليةً لها، وإعادة تنظيم الجيش على أساس قوميّ بدلاً من الجيش المستأجر الّذي كان يؤلّف أهمّ قسم من القّوات المحاربة. ولكنّ رومة لم يكن يهدأ لها روع ما دامت ندّتها العظيمة قيد الوجود فظلّ كاتو يختم كلّ خطاب من خطبه في مجلس شيوخ رومة بهذه العبارة «أعتقد أنّه يجب تدمير قرطاضة» حتّى كانت الحرب الفينيقيّة الثالثّة [149-146 ق. م.] الّتي انتهت بخراب المدينة وقتل معظم أهلها وجلاء الباقين عنها.
بعد زوال الامبراطوريّة القرطاضيّة بقي هنالك قوّتان عظيمتان هما الامبراطوريّة السّوريّة والامبراطوريّة الرّومانيّة. ومع أنّ الامبراطوريّة السّوريّة برهنت على أنّها أقوى قوّة في الشّرق الأدنى فإنّ نظامها الملكيّ لم يفعل شيئاً جديداً في سبيل ترقية فنّ الدّولة ولم يكن البيت السّلوقيّ، رغم ظهور بعض أفراده كسلوقس وأنطيوخس الكبير، مؤهّلاً للقيام على مقدّرات الامبراطوريّة تجاه امبراطوريّة أحدث طرازاً كرومة، فبقيت ترقية فنّ الدولة من نصيب رومة وكانت رومة أهلاً لتحقيق هذه الترقية.
في الحرب الطاحنة بين قرطاضة ورومة كانت دولة تحكمها طبقة تحارب دولةً تحكمها طبقة. ولكنّ اضطراريّات ظروف رومة دفعتها في اتّجاه جديد هو تمديد حقوق عضويّة الدّولة الرّومانيّة إلى المقاطعات الّتي أدخلتها رومة نهائياً ضمن نطاق سيطرتها. وقد رمت رومة من وراء تمديد هذه الحقوق إلى توحيد إيطاليا تحت سيطرتها. إذ إنّ إيطاليا، لذلك العهد، كانت شعوباً وقبائل متعددةً وأحياناً متباينة في ثقافاتها. ولكنّ البيئة الواحدة جعلت الوحدة السّياسيّة أمراً لا مفرّ منه، فكانت هذه الوحدة السّياسيّة الشّرط الأوّل لتوّلد الوحدة الشّعبية الّتي نشأت فيما بعد بعامل الاشتراك في الحقوق الدوليّة.
إنّ الحروب الإيطاليّة هي الّتي أغنت رومة بالاختبارات السّياسيّة ومن هذه الوجهة يمكننا أن نبصر جيّداً أسباب ترقية فنّ الدّولة في مدينة ناهضة إلى مرتبة الامبراطوريّة. إنّ اختبارات رومة السّياسيّة كانت أكثر وأقوى من اختبارات أيّة دولة سوريّة مدنيّة. وهي، بخلاف الدّول السّوريّة البحريّة، مدينة برّيّة في الدّرجة الأولى وكانت محاطةً بأقوام تضاهيها وبعضها أرقى منها ثقافةً كالأتروريين (أو الأترسكيين) فساعد ذلك على الرّغبة في إدخال هذه الأقوام في نطاقها السّياسيّ والاجتماعيّ ومن هذه الوجهة كانت ظروف رومة تختلف عن ظروف صور وقرطاضة.
ومع أنّ رومة استفادت كثيراً من اختباراتها السّياسيّة الكثيرة فهي لم تخرج عن المثال القرطاضيّ في نظام الدّولة الامبراطوريّ، فكما كان مجلس قرطاضة هو المرجع الأخير لمعاهدات وإعلان الحرب وإدارة المدن والمقاطعات التّابعة للدّولة كذلك كان مجلس شيوخ رومة. وكما برهن مجلس الــ104 القرطاضيّ على عدم كفاءته لسياسة الامبراطوريّة العامّة كذلك برهن سناتو رومة على عجزه عن إيجاد الأساليب السّياسيّة الّتي يمكنها أن تؤمّن توثّق الامبراطوريّة(79) حتّى أصبحت القوّة المجرّدة الضمانة الوحيدة للبناء الامبراطوريّ.
إنّ تمديد الحقوق السّياسيّة في الدّولة الرّومانيّة إلى المقاطعات الإيطاليّة ثبّت وحدة الامبراطوريّة الرّومانيّة في إيطاليا. ولكن لمّا أصبحت هذه الحقوق توزّع على الشّعوب وراء الحدود الجغرافيّة، كجلالقة عبر الألب، بطل سحرها وصارت عديمة الفائدة، بل أمست في الأخير من عوامل إضعاف مركز الامبراطوريّة وذهاب هيبتها. وهكذا نجدها في عصورها الأخيرة مسرحاً لقوّادها المتنازعين فيما بينهم حتّى تداولها القياصرة وحوّلوا جمهوريّتها إلى الشّكل الامبراطوريّ القديم الّذي رأينا مثاله في سورية ومصر وفارس.
بعد فراغ رومة من توحيد إيطاليا توقّفت اختباراتها السّياسيّة لأنّها وجدت علاجاً واحداً لجميع المشاكل الخارجيّة هو علاج القوّة. أمّا العلاج السياسيّ فكان يقتضي تطوّراً خطيراً يغيّر أساس النّظام الكامن في المدينة. كان يجب أن تحلّ إيطاليا محلّ رومة وأن توجد وسيلةً للتّعبير عن الإرادة العامّة في الامبراطوريّة ولكنّ الطّبقة الأرستوقراطيّة في رومة كانت أقل استعداداً من الطّبقة الأرستوقراطيّة في قرطاضة لتغيير وجهة نظرها في الغرض من الامبراطوريّة. وهكذا سارت رومة في سبيل قرطاضة فكانت آخر دولة من طراز دولة المدينة السّوريّة.
امتازت قرطاضة على رومة بأمر خطير جدّاً في نظام الدولة هو فصل القيادة الحربيّة عن الإدارة السّياسيّة والمدنيّة. ومع أنّ رومة أبدت مرونةً سياسيّةً عظيمةً فاقت بها على قرطاضة في إشراكها الملحقات في حقوقها السّياسيّة، فإنّ تقسيماتها التّشريعيّة والإداريّة الدّاخليّة بإنشائها مؤسسّات الكوريا Curia والسّنتوريا Centuria والكوميتيا Comitia ورؤساء العامّة، الّذين كان لهم حقّ إيقاف التّنفيذ، لم تبرهن قطّ على حقوق دستوريّة يصحّ أن تتّخذ مثإلا في فنّ الدولة. وإنّ نجاح رومة كان على الرّغم من هذه التّقسيمات المتعارضة مبدئياً أكثر ممّا كان بفضلها. إنّ هذه التّقسيمات لم تكن سوى تسوية للنّزاع الدّاخليّ.

الشّــرع
امتازت الدّولة في رومة على ما تقدّمها من الدّول في أمرين هما: تمديد معدوديّة الرّومان (عضوية الدّولة) إلى الملحقات وتكوين وحدة سياسيّة تحفظ روح الإرادة العامّة، وإنشاء الشّرع. والشّرع الرّومانيّ هو أثمن ما تركته رومة للبشريّة.
لا يعني ذلك أنّ الشرع وُضع أوّلاً في رومة، فنحن نعلم أنّ شريعة حمورابي السّوريّة هي أقدم شريعة في العالم. وكذلك نجد في جنوب سوريّة الشّرع الكنعانيّ الّذي اقتبس منه ومن الشّرع البابليّ العبرانيون شريعتهم الموسويّة. ولقد تناولت شريعة حمورابي الأحكام المدنيّة الحقوقيّة والجزائيّة فنصّت على التملك وواجبات الجنديّ وملكه وأحوال المعاملة والحقوق التجاريّة والأحوال المدنيّة الشّخصيّة كالزّواج وأحواله(80).
والشّرع الكنعانيّ تناول هذه الأحكام الّتي اختلف في بعضها عن شريعة حمورابي فيما يختصّ بالعقوبات. ومن وضع الشّريعة الكنعانيّة نرى القانون قد أصبح شيئاً متميّزاً كلّ التميّز عن العادة والعرف والانتقام الشخصيّ والثّأر. ففيها نجد تنظيماً للأحوال الحقوقيّة والجزائيّة.
ولا بدّ أن يكون الشّرع السّوريّ الكنعانيّ قد ارتقى مع ارتقاء أحوال الدّولة الفينيقيّة، واتّساع ملكها ومعاملاتها، خصوصاً في الامبراطوريّة القرطاضيّة. ولكنّ المؤسف جدّاً أن يكون تخريب البرابرة الإغريق والرّومان للعواصم الفينيقيّة تخريباً تدميريّاً تاماً، كما فعل الإسكندر بصور وسيبيو «أفريكانس» الثّاني بقرطاضة، فلم يبق لنا من آثار هذه العواصم إلا النّزر اليسير. وهذا لا يزال يحتاج إلى تنقيبات جدّية، ومع ذلك فنحن نعلم من هذا النّزر أنّ الحقوق الفينيقيّة لم تتعرّض للقضايا الّتي تعرّضت لها الحقوق الرّومانيّة. والسّبب في ذلك هو أنّ الدّول السّوريّة الفينيقيّة قامت على أساس شعبيّ واحد، فكان نوع حقوقها واحداً. ولذلك نجد المساواة في الحقوق بين مدنيــيّ قرطاضة وأبناء المدن الفينيقيّة الأخرى اللّهم إلا الحقوق السياسيّة الّتي ظلّت حقوقاً مدنيّةً خاصّةً.
ومتى نظرنا إلى الشّرع في الإغريق وجدنا نوع الشّرع نفسه، وإذا كان هنالك ارتقاء فهو قليل. فإنّ شرعهم كان لا يزال مجموعة قوانين دينيّة ومناقبيّة وسياسيّة متناقضة. ولقد ميّز الشّرع الإغريقيّ بين الجنح والجرائم، بين الادعاء الشّخصيّ وطلب التّعويض، والادعاء العامّ بموجب قانون جزاء ولكنّ تصنيف الدّعاوى كان ناقصاً. ففي حالة السّرقة كان المدّعي مخيّراً في أن يقيم دعوى حقوقيّةً ويطلب التّعويض أو أن يقيم دعوى جزائيّةً. وفي حالة الإجرام كالقتل والتّشويه كانت الحقوق الإغريقيّة لا تزال قريبةً من الحقوق الأوّليّة إذ إنّ هذه الحالة كانت تترك للادعاء الشّخصيّ(81). والقانون عموماً كان لا يزال تابعاً للوضع السّياسيّ فهو لم يكن عامّاً ففيه تساوت الحقوق السّياسيّة والحقوق الشّرعيّة.
في رومة خرج الشّرع من هذا التّخبّط إلى الشّرع القضائيّ العامّ وحلّ محلّ الموادّ القانونيّة المتناقضة القانون العامّ الموحّد الجامع نظام الدّولة. ولولا هذا العمل الكبير لما كانت رومة تركت أثراً ثقافيّاً عالياً. فتاريخ رومة الثقافيّ هو تاريخ حقوقها(82).
ابتدأ الشّرع في رومة على مثال دولة المدينة السّوريّة. فالحقوق كانت لأوّل عهدها حقوق رومة المدينة تسري أحكامها على مدنيّيها فقط. فلم يكن لغير ابن رومة حقّ في حضور اجتماع الجيش واجتماع الشّعب والتّصويت، وفي أن ينتخب وأن يعقد زواجاً يعترف به في رومة، الخ(83). والشّعوب الّتي تغلّبت عليها رومة كان لها حقوقها السّياسيّة والمدنيّة كالمدن اللاتينيّة والسّمنيّين والأتروريّين والمدن الإغريقيّة في الجنوب والجلالقة في الشّمال(84).
لمّا أخضعت رومة هذه الشّعوب لسيطرتها وأدخلتها ضمن نطاقها لم تلغِ شرائعها المتمشّية عليها، بل أبقتها معمولاً بها عندها. ولكنّ مبدأ الشّخصيّة هذا لم يكن كافياً لحلّ القضايا الحقوقيّة في دولة المدينة السّائرة إلى الامبراطوريّة، لأنّ الشّعوب الّتي خضعت لرومة بالقوّة فقدت حقّ الجزاء وأصبحت تحتاج إلى شكل حقوقيّ جديد، ولأنّ إدخال شعوب متباينة في حقوقها في نطاق دولة واحدة أوجب النّظر في علاقة هذه الشّعوب بعضها ببعض، ولأنّ وضع هذه الشّعوب تحت سلطة رومة أوجب مواجهة قضيّة العلاقة بين هذه الشّعوب والشّعب الرّومانيّ أو بين أفرادها وأفراد رومة. فاختارت رومة حلّ هذه القضايا بالمعاهدات أوّلاً ثمّ بإدخال حقوق الشّعوب في نطاقها القانونيّ وهي الحقوق الّتي عرفت بالــ [اليوس غنتيوم] Jus Gentium وكان القصد منها النّظر في جميع الحالات الّتي لا تصلح للنّظر فيها الحقوق المدنيّة المعروفة بالــ Juse Civile المختصّة بالرّومان أنفسهم، فصارعت هذه الحقوق الشّعوبيّة حقوقاً رومانيّةً أيضاً. وقد حاول الرّومان التّوفيق بين «إليوس سويلي» [Jus Soli] و«إليوس غنتيوم» بواسطة محكمة الــ Praetor Peregrinus الّتي كان من صلاحيّتها النّظر في القضايا بين المدنيّين والأغراب. ولكنّ أهميّة «إليوس غنتيوم» أخذت تعظم مع تحوّل المدينة إلى دّولة أرضيّة حتّى فاقت «إليوس سويلي»، لأنّ هذه الحقوق أصبحت حقوق قسم عظيم من الرّعايا الرّومان لم يكونوا قد حصلوا على الحقوق المدنيّة الرّومانيّة أو على الحقوق اللاتينيّة (Jus Latinum) وهي الحقوق الّتي كانت تتمتّع بها المدن اللاتينيّة. وكانت هذه الحقوق الشّعوبيّة في مصلحة الرّومان أنفسهم، لأنّها وسّعت أمامهم حقوق الزّواج وحقوق التّملك والإرث وهكذا أصبح لمدنيّــي رومة الحقّ في اختيار التّقاضي وفاقاً لحقوق المدنيّة أو الحقوق الشّعوبيّة(85).
ولكنّ تطوّر الحقوق الرّومانيّة لم يقف عند هذا الحدّ بل تابع عمله خصوصاً في العهد الامبراطوريّ، أي بعد زوال الجمهوريّة. في هذا الطّور نجد عملاً حقوقيّاً كبيراً قام به امبراطور رومة السّوريّ كركلّة (Caracalla) الّذي مدّد الحقوق المدنيّة الرّومانيّة في الــ Constitut’o Antonina (سنة 212م) إلى رعاية الامبراطوريّة(86) فهو أول من أعلن حقوقاً مدنيّةً عامّةً للامبراطوريّة.
ولم يطل الزّمن برومة حتّى سقطت قبل أن يبلغ الشّرع المرتبة العامّة الّتي بلغها في الامبراطوريّة الرّومانيّة الشّرقيّة، الامبراطوريّة البيزنطيّة أو الرّوميّة. في هذه الجهة خصوصاً في سورية، تابعت الحقوق تطوّرها في مدرسة بيروت والفضل الأكبر في حلّ قضيّة «الحقوق الامبراطوريّة والحقوق الشّعبيّة» يعود إلى مجهود المدرسة السّوريّة(87). وأخيراً اكتمل لشّرع الرّومانيّ في مجموعة القيصر يوستنيان الّتي جرى فيها تنقيح وتحوير القوانين القديمة ووضع قوانين جديدة. في هذه المجموعة نرى الحقوق الشّخصيّة قد تحرّرت من روابط القرابة الدّمويّة، بل إنّنا نرى بداءة تطبيق فكرة شّخصيّة الجماعة(88). ويمكن اعتبار مجموعة يوستنيان أعلى ما بلغه الشّرع وأساس الحقوق الشّرعيّة في القرون الوسطى والعصور الحديثة.

الدّولة الإقطاعيّة في الغرب والشّرق
سقطت رومة تحت ضغط البرابرة الغربيّين وتفككّك ذلك النّظام السّياسيّ الامبراطوريّ الّذي لم تتمكّن أنانيّتها من إنقاذه. وبينما الامبراطوريّة الرّوميّة (البيزنطيّة) لا تزال تتابع عمل الدّولة الموحّدة في دستورها وإدارتها، مع اتّجاهها نحو السّلطة الفرديّة الّتي وضع قواعدها ديوكلتيانس وقسطنطين، إذا بالدّولة في الغرب تنحطّ إلى إقطاعيّات وقعت كلّ واحدة منها في حوزة أمير نبيل أو بطل محارب. أمّا الملوك البرابرة الفرنك والقوط واللمبارديّون والوندال فكانت سلطتهم تتناول الجزية والأعمال الحربيّة فقط ولكنّهم لم يتمكّنوا من تنظيم الدّولة. فاستفحلت سلطة الأمراء الإقطاعيّين حتّى إنّ امبراطوريّة شارل مرتل وبابن وشرلمان اضطرّت إلى القبول بالأمر الواقع واحتمال حكم الإقطاعيين البلاد بناءً على تخويل شرعيّ من الملك(89).
في الدّولة الإقطاعيّة حلّت مصلحة الأمير محلّ مصلحة الدّولة أو مصلحة الكلّ وأخذت الإقطاعيّة تتحوّل إلى صنف خاصّ يتوارث أفراده الألقاب والمراكز فكان الوارث أو وليّ العهد يثبت في خلافته لقاء دفع تعويض(90).
وكان قد نشأ إلى جانب النّظام الإقطاعيّ نظام آخر أخذ يدّعي السّيادة العامّة هو نظام الكنيسة المستمدّة قوّتها من الدّين. والحقيقة أن الدّين لم يتنازل عن ادّعائه السّلطة العليا والقوّة الزّمنيّة ولكنّ سقوط قرطاضة ورومة أعاد له صولته مع المسيحيّة ثمّ مع الإسلام كما سنرى. فقد سيطر الدّين على عقليّة القرون الوسطى بصورة لم يعرف لها مثيل في مدنيّة البحر المتوسّط والغرب، وتعاظمت سلطة الباباوات حتّى زعم بعضهم أنّه السّيّد المطلق الّذي يخضع له كل الأمراء. والحقيقة أنّ بعض الباباوات كغريغور السّابع، الّذي كان راهباً يشتغل سرّاً ثمّ علناً بعد أن ارتقى إلى الكرديناليّة وأربان الثّاني وأنوسنت الثّالث أصابوا نجاحاً في النّزاع بين السّلطة البابويّة وسلطة الإمبراطرة [الأباطرة] والملوك(91).
إنّ سلطة الباباوات كانت مستمدّةً من مبدإ الإرادة العامّة المعبّر عنه بخضوع المؤمنين التّام لِــــ «خليفة المسيح». ولكنّ الكنيسة كانت في ذلك الوقت تحاول التّوفيق بين مبدأين متناقضين هما الوظيفة الرّوحيّة والسّلطة الزّمنيّة. ولذلك لم يطل الوقت على السّلطة الزّمنيّة حتّى ابتدأ الشّقاق في نظام الكنيسة وشبّت الحركات الإصلاحيّة الدّاخليّة وكانت النّتيجة القضاء على الجامعة الدّينيّة الزّمنيّة والرّوحيّة.
لم ينقذ الدّولة من هذه الفوضى في الغرب إلا الاتّجاه نحو المدينة، فنشوء المدن ونموّها والعمل الصّناعيّ والاتّجار أوجدت المحيط والجوّ الصالحين لحرّية العمل وتبادل الأفكار والمعارف. إنّ المدينة كانت دائماً أصلح مكان لنموّ الفكرة الدّيمقراطيّة. وهي المكان الوحيد الّذي يمكن أن تتمركز فيه الحياة السّياسيّة. وهكذا نجد مدن ألمانية وإيطاليا الحرّة توجد الطّرق اللازمة لنشوء الحركات الاجتماعيّة والسّياسيّة الّتي أخذت تعدّ السّبيل لعصر جديد من عصور الدّولة هو عصر الدّيمقراطيّة ونشوء القوميّة.
القوميّة هي الّتي عيّنت شكل دولة البلاد العصريّة ووسّعت دائرة المساهمة في الدّولة أو معدوديّتها إلى حدود لم تكن معروفةً من قبل. وتحت تأثير عوامل القوميّة الآخذة في النّشوء أهمل النّظام الإقطاعيّ وقويت الملكيّة المركزيّة، لأنّها كانت دائماً أقرب إلى تمثيل وحدة الأمّة. وسلطة الفرد كانت دائماً أقرب إلى الدّيمقراطيّة من سلطة الأرستوقراطيّة المكوّنة طبقةً ممتازةً.
وقبل أن نتناول الدّولة الحديثة القائمة على مبدأي القوميّة والدّيمقراطيّة المتجانسين نرجع إلى حادث خطر في تاريخ الدّولة ومبادئها وقع في الشّرق وأوجد حالةً دوليّةً لا بدّ من درسها لاستكمال أطوار الدّولة واستيفاء العوامل الخطيرة المهيّئة مجراها.

الدّولة الدّينيّة
إذا كنت هنالك أرض تحدّد الحياة والثّقافة الإنسانيّتين تحديداً يكاد يكون حتميّاً فهي، بدون شكّ، الصّحراء. فالصّحراء لا تمنع الإنسان من الارتقاء من مرتبة الوحشيّة إلى مرتبة البربريّة أو الجاهليّة، ولكنّها تمنع الثّقافة العمرانيّة. وهذه صحاري العالم كلّه كانت ولا تزال خلوّاً من العمران والحضارة وكلّ ثقافة عمرانيّة، ولو لم تخرج بعض الشّعوب السّاميّة من الصّحراء إلى سورية والعراق لما كان قدّر لها أن تظهر مزاياها العالية وتنتج النّتاج الثّقافيّ العمرانيّ الّذي دفع البشريّة في مراقي الحياة الاجتماعيّة دفعةً سيظلّ زخمها فاعلاً فعله ما دامت البشريّة تتقدّ م وترتقي.
والدّولة في قبائل الصّحراء هي دائماً وأبداً دولة قبائلّة، وهي الدّولة الّتي أشرنا إليها في بداءة هذا الفصل ولا تدخل في الدّولة الّتي أطلقنا عليها اسم الدّولة التّاريخيّة المتطوّرة، المرتقية، المنشئة تاريخها، أو هي (الدّولة القبائليّة) الدّولة الأوّليّة الّتي يجتمع شيوخها عند الحاجة للبتّ في أمر كما يقضي به العرف أو العادة أو الدّين. ومعظم ما تنتهي إليه هذه الدّولة هو اتّحاد بعض القبائل المشتركة في القرابة الدّمويّة، ولا تحتاج هذه الدّولة إلى أكثر من العادة والعرف نظاماً نظراً للنّمط الواحد الّذي تسير عليه حياتها الفطريّة البعيدة عن الأخذ بالعلم والفلسفة، المنعزلة عن مجال التّطوّر الاقتصاديّ الاجتماعيّ.
ولمّا كانت الجماعات الفطريّة عموماً واقعةً تحت تسلّط التّصوّرات الخارقة (الدّينيّة) كان الدّين العامل الوحيد الّذي يمكنه أن يوجد مركزاً مشتركاً للقبائل، كما نجد مكّة قبل الإسلام وبعده. والحقيقة أنّ البيئة الوحيدة الصّالحة لتكوّن الدّولة الدينّية العامّة هي بيئة القبائل اللاعمرانيّة. ولا يمكن أن تنشأ في هذه البيئة دولة عامّة غير دينيّة. وقد أدرك حقيقة هذه النّظريّة ابن خلدون فكتب في مقدّمته فصل «في أنّ العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيّة من نبوءة أو ولاية أو أثر عظيم من الدّين على الجملة» ففي هذه البيئة مجال لقبول الشّرع الإلهيّ القاطع والخضوع له. ولا مجال لنشوء الشّرع المدنيّ والحقوق المدنيّة والشّخصيّة وتطوّرها. والدّولة الإسلاميّة الّتي وضع قواعدها النّبيّ محمّد بعد الهجرة هي الدّولة الوحيدة الّتي أمكنها أن تصير دولة عامّةً في بلاد العرب ونحن نرى في نشوء الدّولة الوهّابيّة العامّة في القرن الماضي وعودتها الآن إلى الوجود بعد أن كانت قد قضت عليها الدّولة العثمانيّة مصداقاً لقول ابن خلدون المذكور آنفاً.
بينما الكنيسة المسيحيّة في الغرب تحاول أن تنشىء على أنقاض الامبراطوريّة الرّومانيّة دولةً دينيّةً عامّةً يرأسها البابا. كانت الدّولة الدّينيّة في الشّرق تسيطر بلا منازع.
هجر محمّد مكّة إلى المدينة ليجعل الدّين أمراً مطاعاً وليوفّق بين الدّين والسّياسة أو بين الفكرة الرّوحيّة الّتي كان مخلصاً لها كلّ الإخلاص وبين حالة بربريّة ماديّة لا مجال للثّقافة الرّوحيّة فيها. وقد يبدو عجيباً أن تكون البيئة الصّالحة لسيطرة الدّين أقلّ البيئات صلاحيّةً لنموّ الثّقافة الرّوحيّة. ولكن لا غرو فحيث النّفسيّة والحياة العقليّة الرّوحيّة محدودة بنوع الحياة وظروف المحيط كان مجال التأمّلات الرّوحيّة والحياة العقليّة ــــ الرّوحيّة محدوداً. هنا المجال للتّسليم بالله الواحد والخضوع لأحكامه وإطاعة حدوده، وليس هنا المجال لمحاولة فهم الله في ألف شكل وشكل من الحاجات والعلاقات النّفسيّة الّتي لا يكن أن تتوّلد إلا في مرتبة ثقافيّة حضريّة عالية تتحرّر فيها النّفس من إلحاح الضّرورة المعاشيّة ومن الدّأب عليها.
وقد رأى النّبيّ أنّه لا بدّ من التّوفيق بين رسالته الرّوحيّة العامّة وإمكانيّات البيئة. فأخذت سور القرآن المدنيّة تقلّل من التعليم الرّوحيّ الّذي اتّصفت به سوره المكّيّة وتكثر من الأحكام الشّرعيّة والحدود، وأخذت جماعة المسلمين المحمّديّين تصير قوّةً غايتها إخضاع الكفّار لدين الله وأحكامه المنزلة على النّبيّ، بعد أن كانت في بدئها جماعةً روحيّةً تجتمع لممارسة التّفاهم الرّوحيّ بواسطة الإيمان الجديد. وهكذا نرى بداءة تكوّن الدّولة الدّينيّة الّتي أصبحت الدّولة العامّة للقبائل العربيّة.
كانت بلاد العرب لعهد محمد في حالة من تلك الحالات الّتي كانت تضطرّ قبائل إلى الأخذ بالمهاجرة من الصّحراء في طلب موطن جديد تكتمل فيه أسباب العيش. فلمّا نشأت الدّولة الإسلاميّة وابتدأت تشعر بقوّتها تحوّلت الحاجة إلى المهاجرة، إلى طلب الفتح. والفتح لمدّ الإسلام بالحاجات كان مهمّة الدّولة الإسلاميّة الأولى بعد محمد فخرجت جيوش الجهاد ووجهتها سورية المنقسمة إلى قسمين بسبب التّسلّط الأجنبيّ: الغربيّ التّابع لبيزنطية، والشّرقيّ التابع لدولة الفرس فانتزعت الأوّل من نظام الدّولة الرّوميّة والثاني من فارس. وكان من حسن حظّ سورية أنّ جيوش الفتح لم تقف فيها بل اندفعت موجاتها شرقاً وغرباً وجنوباً وما هي إلا سنوات، وإذا بالدّولة الإسلاميّة المحمّديّة قد صارت امبراطوريّةً مترامية الأطراف مركزها مكّة.
لم يترك محمد دستوراً للدّولة فهو قد أتمّ الدّين ولكنّه ترك الدّولة تهتمّ بمصيرها. ولمّا كانت الخلافة أوّل وأقوى سلطة في الإسلام، خصوصاً من الوجهة التّنفيذيّة والإداريّة، فقد أصبحت قبلة أنظار الطّامحين إليها. وفي التّنازع على الخلافة ظهر مبدأان: مبدأ الانتخاب ومبدأ النّسب النّبويّ وحصر الخلافة في شرعيّة أهل البيت فكان النّزاع بين المبدأين سجإلا وكانت الكفّة الرّاجحة أوّلاً في جانب مبدأ الانتخاب في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وبعد عثمان اشتدّ النّزاع بين المبدأين في شخصيّتين قويّتين جدّاً هما: معاوية الأمويّ وعليّ الهاشميّ. وعليّ أقرب إلى النبيّ وأعظم شأناً من الوجهة الدّينيّة.
ولكنّ معاوية كان قد أصبح ابن محيط غير المحيط العربيّ. فإنّ العشرين سنةً الّتي قضاها في سورية «سرينته» أو «سوّرته» وأعطته اتّجاهاً جديداً في الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة. فإنّ علم الدّولة وفنّ السّياسة وعلم الحقوق الدّستوريّة والمدنيّة والشّخصيّة كانت قد بلغت في سورية أرقى مرتبة عرفها العالم، فأثّرت البيئة الجديدة كثيراً على معاوية وجهّزته ببعد نظر سياسيّ رجّحه على منازعه. ومن هذه الحقيقة ندرك السّرّ في أنّ معاوية، لا عثمان، أسّس الدّولة الأمويّة الّتي طوّرت الدّولة في الإسلام تطويراً خطيراً.
سارت خلافة معاوية بالدّولة الإسلاميّة في طريق وسط بين الانتخاب وشرعيّة الخلافة، أي إنّها جعلت الانتخاب لمرشّحي العائلة. ومع أنّ الدّولة الأموّية قامت على القوّة وعصبيّة البيت فإنّها لم تمح مبدأ الانتخاب(93) بل حصرته وحدّدته فلم يعد انتخاب الخليفة يؤدّي إلى التّحزّبات وقيام العصبيّات بعضها على بعض، وهرتمن يقول(94) في تحويل الأمويّين الخلافة إلى ملكيّة وراثيّة إنّه كان حادثاً خطيراً لا يحسب شيئاً في جنبه أيّ حادث آخر في حياة الشّعوب الإسلاميّة الدّوليّة. ولا شكّ في أنّ هذه الدّولة السّوريّة النشأة أنقذت الامبراطوريّة الإسلاميّة من حالة الفوضى وتطاحن القوّات.
إنّ الفضل في إيجاد الاتّجاه السّياسيّ الدّنيويّ في الدّولة الإسلاميّة يعود آى الدّولة الإسلاميّة السّوريّة الأمويّة. ففي هذ الدّولة جرت المحاولة الفعليّة الوحيدة لشدّ روابط أطراف الامبراطوريّة بالمركز(95)، وهو ما لم تدرك الدّولة السّوريّة العبّاسيّة أهّميّته ولم تحاول التّطور نحو تحقيقه، حتّى إنّ سلطة الخليفة العباسيّ الفعليّة كثيراً ما كانت تقف عند حدود مدينة بغداد(96).
وإنّه لمن الثّابت أنّ الدّولة السّياسيّة في الإسلام كانت الدّولة السّوريّة الأمويّة. فلما انتقل الأمر إلى العبّاسيين عادت الوجهة الدّينيّة والعوامل الفقهيّة إلى السّيطرة. فقد لبس الخلفاء العبّاسيّون عباءة النّبيّ وأولوا الوجهة الدّينيّة معظم اهتمامهم(97) وكانوا لبُعد نشأتهم عن بيئة سياسيّة حقوقيّة مرتقية كالبيئة السّوريّة، ضعفاء في سياسة الدّولة وهذا هو السّبب في استفحال أمر البرامكة وغيرهم من العناصر الفارسيّة والتّركيّة، وعظم شأنهم في تسيير شؤون الدّولة. ولم يحاول العبّاسيّون اقتباس النّظرة السّوريّة إلى الحياة والمجتمع لأنّ الاتّجاه السّوريّ المدنيّ لم يكن يتّفق مع التّمسك الدّينيّ الّذي جعلوه محور حركتهم.
كان من طبيعة الدّولة الدّينيّة أن تدخل في معدوديّتها كلّ الدّاخلين في الإسلام وتساوي بينهم في الحقوق المدنيّة والسّياسيّة إلا فيما يختصّ بالخلافة فإنّها منصوص على إلا تكون إلا في قريش. وقد ساعد هذا المبدأ كثيراً على تماسك الجماعة الدّينيّة وتعضيد الدّولة. وعدّت الدّولة الإسلاميّة كلّ بلاد مفتتحة جزءاً من الامبراطوريّة الإسلاميّة. ولكنّ الامبراطوريّة الإسلاميّة كانت إسميّةً أكثر منها فعليّةً فقلّما كانت سلطة الخليفة أو رأس الدّولة تسري في كلّ أقطار الدّولة. نضرب مثلاً لذلك محاولة الخليفة عثمان وضع إدارة ماليّة مصر تحت ضابط الإدارة المركزّية، فقد أعلن عامله عمرو [بن العاص] أنّه لن يكون ممسكاً البقرة بقرونها بينما غيره يحلبها(98)، وكان خروج العبّاسيّين من بلاد العرب، لنقض الدّولة السّوريّة، الحدّ الّذي وقفت عنده محاولة هذه الدّولة المشار إليها فوق ليحلّ محلّها الاتجاه اللامركزيّ العبّاسيّ الّذي لم يتمكّن من مقاومة النّزعات الاستقلاليّة المستمدّة من عصبيات الشّعوب المتعدّدة. وابن خلدون يجعل الدّولة تقوم على العصبيّة الّتي يتمّ لها الغلب [الفصل الثالث من الكتاب الأول ص 165]. والحقيقة أنّ التّفكك نصيب كلّ دولة دينيّة، لأنّ كلّ دولة دينيّة تحمل في داخلها مبدأين لا يكن الجمع بينهما على استقرار في المجتمعات العمرانيّة الرّاقية هما الوظيفة الرّوحية والسّلطة الزّمنيّة. وهكذا تفككّت امبراطوريّة «أمير المؤمنين» أو الخليفة وزالت صورتها بعامل الفتح المغوليّ الّذي لم تكن لها قوة لدفعه، حتّى نشأت السّلطنة العثمانيّة الّتي حاولت أن تبعث فكرة الامبراطوريّة الإسلاميّة فتلقّب السّلطان بالخليفة. ولكنّ العوامل الطّبيعيّة والثّقافيّة كانت أقوى من السّلطة الدّينيّة الزّمنيّة وهو ما أدركه الأتراك بعد الحرب فتركوا فكرة الدّولة الدّينيّة وخلعوا السّلطان ونبذوا الخلافة وأنشأوا دولةً قوميّةً في شكل جمهوريّ.
ويحسن بنا قبل أن نختم الكلام على الدّولة الإسلاميّة أن نظهر أسسها الحقوقيّة. فقد ذكرنا أنّ المسلمين متساوون في الحقوق المدنيّة والسّياسيّة والشّخصيّة إلا في الخلافة فهي في قريش. وكلّ من اعتنق الإسلام عدّ مسلماً له كلّ حقوق المسلمين.
شرع الدّولة هو شرع الله المنزل على رسوله. فهو شرع واضح جامد (Rigid) ككلّ شرع دينيّ آخر، ولكنّ الاجتهاد أنقذ الموقف وكان مفيداً جداً في تطوير الشّرع والحقوق.
ولمّا كانت كلّ بلاد افتتحت تعدّ بلاداً إسلاميّةً وجزءاً من أرض الدّولة الإسلاميّة فقد أصبحت الحقوق فيها حقوق المسلمين فقط. فعلى غير المسلمين أن يؤدّوا الجزية عن يد «وهم صاغرون» ويكونوا في حماية الدّولة. ولكنّهم محرومون من الحقوق المدنيّة والسّياسيّة ولا يبقى لهم سوى الحقوق الخاصّة في الأحوال الاجتماعيّة والدّينيّة المتعلّقة بهم، فهم مسموح لهم أن يمارسوا عباداتهم ويعقدوا الزّواج حسب شرائعهم ويجوز أن يتزوّج مسلم غير مسلمة ولا يجوز العكس وبعد نشوء الدّولة القوميّة في البلدان الإسلاميّة أيضاً أصبح يجوز كما في تركيا مثلاً. وكان فقدان الحقوق المدنيّة والسّياسيّة من أهمّ الدّوافع الّتي جعلت شعوب البلدان المفتتحة تبادر إلى اعتناق الإسلام فلا تقع في حكم المخضعين.
ولسنّ القوانين في الدّولة الإسلاميّة ثلاثة مصادر:
أولاً: علم العلماء.
ثانياً: إجماع المسلمين.
ثالثاً: سلطة الخليفة(99). 
وأثر الإجماع ضعيف فهو لا يظهر إلا في وجوب أخذ العادة والعرف بعين الاعتبار عند الفصل في بعض المسائل الحقوقيّة. وبخروج الإجماع بقي الأمر للعلماء والخليفة فكان هذان الجانبان يتنازعان في أيّهما له الفصل في سنّ القوانين. فتارةً يرجّح الواحد وطوراً يرجّح الآخر. وفي كلّ حال كان لا بدّ لكلّ قانون جديد من فتوى.
بعد انقسام الامبراطوريّة إلى دول لم يعد لكلّ مسلم الحقّ في معدودية كلّ دولة إسلاميّة بل أصبح كلّ واحد يخصّ الدّولة الّتي تحدّد أرضها وشعبها ويدخل ضمن نطاق هذا التّحديد.

الدّولة الدّيمقراطيّة القوميّة
في النّزاع الطّويل بين السّلطة الباباويّة الزّمنيّة وسلطة الملوك، في الغرب، خرج الملوك ظافرين، لأنّ الكنيسة لم تستطع التّوفيق بين القوّة الرّوحيّة والسّلطة الزّمنيّة ووقعت في الانقسام. وفي النّزاع بين سلطة الإرادة الإلهيّة المغيّبة وسلطة الإرادة الآخذة في أن تصير الإرادة الشّعبيّة العامّة اضطرّ الدّين لأن يتنازل عن طلبه السّلطة الزّمنيّة ويترك ما لقيصر لقيصر وما للدّنيا للدّنيا ويحتفظ لنفسه بالإلهيّات والرّوحيّات. ومن هذه الجهة فقط يستطيع الدّين أن يحتفظ بزعمه أنّه وحدة عامّة، ومن هذه الجهة فقط يستطيع الدّين أن يبرّر وجود مؤسّساته.
مع نشوء المدن ونشاط التّجارة والاحتراف ونهضة الاختراعات، دخل التّمدّن في طور جديد زعزع مؤسّسات كثيرةً. فالتّجارة والاحتراف زعزعا النّظام الفرديّ والعائلة القائمة بأود نفسها والاتّجاه نحو المدن وحرّر الأرقّاء وأبطل الاعتماد على سيّد الأرض، واختراع البارود قضى على مكانة الفرسان النّبلاء الّذين رسم لهم سرونتس [M. Cervantes 1547-1616] صورةً هزليّةً جميلةً في بطله «دون كيخوط» [Don Quixote] واختراع الورق والطّباعة فتح الأعين والبصائر وأيقظ الشّعور. ومن هذه العوامل جميعها تكوّنت الطّبقة الوسطى وأخذت طبقة الملاكين والإقطاعيّين تضعف وقويت سلطة الملك.
إنّ استيقاظ الشّعور بالوحدة الحيويّة والمصلحة الواحدة والرّابطة الواحدة بالحياة في أشكالها وأسبابها واتّجاهها جعل الجماعة تدرك وجودها وجهّزها بوسائل التّعبير عن إرادتها فكان ذلك بدء نشوء القوميّة. فلم تعد العامّة تبعاً للأمير تخدم مصلحته وتحتمي في ظلّه، وهو سيّدها الأوحد وعلاقة الملك بأبناء الدّولة هي علاقته بالأمير فقط. كلّا. بل أصبحت العامّة لها رأي وإرادة. وهذه الإرادة شرعت تميل نحو الملك، لأنّ الملك كان يمثّل وحدة الدّولة ووحدة السّلطة ووحدة المصلحة ووحدة الشّعب. إنّ مصلحة الشّعب ومصلحة الملك كانتا، بطبيعتهما، ضدّ مصلحة الأرستوقراطيّة الإقطاعيّة الاستثماريّة المتسلّطة المستعبدة الّتي كانت حائلاً قويّاً دون ظهور الإرادة العامّة الآخذة في النّمو والشّعور بنفسها.
كانت الملكيّة في نزاع خفيّ وعلنيّ مع الإقطاعيّين على السّلطة. ففي كلّ اصطدام بين هاتين المؤسّستين كان الشّعب يقف في جانب الأولى، حتّى تغلّبت الملكيّة على الأقطاع وتفرّدت بالسّلطة. وفي هذا العهد الّذي كان فيه الدّين في فوضى، تصالحت الدّولة والدّين واستمدّ الملوك حقوقهم من الله، فهم على عروشهم بإرادته، حتّى قال لويس الرّابع عشر [1638-1715م] «أنا الدّولة». ولكن القوميّة لم تقف عند حدّ القضاء على سلطة الإقطاعيين وتوحيد المرجع في الملك، الّذي أخذ تفرّده في السّلطة يتعاظم حتّى أصبح شديد الوطأة، بل سارت نحو الهدف الّذي يبرّر وجودها وهو إقرار أنّ السّيادة مستمدّة من الشّعب وأنّ الشّعب لم يوجد للدّولة بل الدّولة للشّعب.
هذا هو المبدأ الدّيمقراطيّ الّذي تقوم عليه القوميّة. فالدّولة الدّيمقراطيّة هي دّولة قوميّة حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة عامّة ناتجة عن الشّعور بالاشتراك في حياة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة. الدّولة أصبحت تمثّل هذه الإرادة. فتمثيل الشّعب هو مبدأ ديمقراطيّ قوميّ لم تعرفه الدّول السّابقة. الدّولة الدّيمقراطيّة لم تمثّل التاريخ الماضي ولا التّقاليد العتيقة ولا مشيئة الله ولا المجد الغابر، بل مصلحة الشّعب ذي الحياة الواحدة الممثّلة في الإرادة العامّة، في الإجماع الفاعل، لا في الإجماع المطاوع.
تحت هذا العامل الجديد، عامل القوميّة الظاهر في تولّد روح الجماعة والرأي العامّ، تغيّر معنى الدّولة من القّوة الحاكمة المستبدّة إلى سيادة المتّحد وحكمه نفسه. والوسيلة الّتي مكّنت المتحد من تحقيق هذا المبدإ الجديد هي التّمثيل السّياسي(100) الّذي مكّن من الفصل بين السّلطة الاشتراعيّة والسّلطة التّنفيذيّة وترجيح كفّة السّلطة التّشريعيّة، لأنّها تمثّل إرادة الشّعب تجاه الملك القابض على مقاليد الأمور وتجاه السّلطة التّنفيذيّة المستولية على وسائل القوّة.
كانت الطّريق إلى هذا الهدف طويلةً وعرةً. فقد تشبّث الملوك بالحقّ الإلهيّ والتّفرّد بالسّلطة. فانتقل النّزاع من كونه نزاعاً في الدّولة بين الملك والنّبلاء إلى كونه نزاعاً بين الملك والقّوة الجديدة الّتي أيّدته في نزاعه السّابق. ورويداً أخذت القوميّة المستيقظة تنتزع حقوقها من الملكيّة حتّى قضت عليها أوحطّتها إلى مجرّد ملكيّة دستوريّة مقيّدة. وصارت السّيادة الحقيقيّة في الشّعب وأصبحت الدّولة تمثيليّةً.
إنّ معدوديّة الدّولة مهّدت السّبيل لتوليد المتّحد القوميّ، ولكنّ القوميّة أوجدت صفةً جديدةً وحقوقاً جديدةً لم تكن للمعدوديّة القديمة. إنّها شيء لا سلطة للدّولة عليه، فهي لا تمنح من قبل الدّولة لمقاطعات بعيدة وشعوب عديدة كما كانت تمنح المعدوديّة في رومة لعهد القياصرة، بل هي حقّ من حقوق كلّ فرد من أفراد الأمّة بالولادة.
والدّولة القوميّة تتميّز بأنّها لم تعد دولةً تجبل الأقوام جبلاً في مساحة الأرض الّتي تبسط ظلّها عليها، لأنّها أصبحت تصطدم بإرادة متّحدها هي قوميّتها، وإرادة القوميّات الأخرى. فإذا اتّسع نطاق الدّولة حتّى جاوز نطاق الأمّة أصبحت الدّولة امبراطوريّةً أو استعماريّةً كما هي الدّول الأولى الآن.
عند هذا الحدّ نقف في استعراضنا نشوء الدّولة وتطوّرها لننتقل إلى درس الأمّة والقوميّة لنعرف حقيقة هذا المتحد الاجتماعيّ وأهميّته الّتي أصبحت دين البشريّة في العصور الحديثة وغطّت شخصيّتها القويّة الفعّالة على شخصيّة الدّولة.
كانت الدولة قبل نشوء القوميّة إرادة خصوصيّةً تفرض نفسها على المجموع الّذي تشمله، أمّا بعد نموّ القوميّة فقد أصبحت النّظام الهيئة الممثّلين لإرادة الأمّة. وهكذا نرى، مع نموّ الدّولة ونموّ أعضائها في الفهم الاجتماعيّ، في الشّعور بحاجاتهم الخاصّة وإمكانيّات الحصول عليها بواسطة النّظام السّياسيّ تأخذ قوّة الدّولة في الاستقرار شيئاً فشيئاً على خدمتها هذا الهدف. فالدّولة وحكومتها ليستا مظهرين اجتماعيّين نهائيّين، بل تقومان على ما هو أعمق منهما، على حياة المتّحد وإرادته(101).

أنطون سعاده

كتاب نشوء الأمم – الفصل السّادس – نشوء الدّولة وتطوّرها

بيروت-1938 1939


هوامش الفصل السادس

(1) غيغر، ABS، ص 293.
(2) فيركنط، AVv ص 1.
(3) ماير، المقدمة ص 11.
(4) غيغر، ص 295 وما يليها. ووسمن، ص 320.
(5) وسمن، ص 330.
(6) غيغر، ص 295
(7) وسمن، ص 332.
(8) مكيور، Modern State ، ص 16. نلفت نظر القارىء إلى صعوبة ترجمة لفظة Law التي تشمل المعنيين: الحقوق والقانون.
(9) كولر، AR ج.1. ص 5.
(10) المصدر نفسه، ص 6.
(11) المصدر نفسه، ص 6.
(12) المصدر نفسه، ص 7.
(13) المصدر نفسه، ص 19. وماير، المقدمة.
(14) المصدر نفسه، وهذا القول أقوى مما ذهب إليه إدوار ماير (ج 1 ق 2 ف 337) من أن الشعوب السامية كانت دائماً أبوية الحقوق. فقد أثبت كولر حدوث انتقال من حالة الأمومية إلى حالة الأبوية في عشائر متجاورة ولكن لم يتحقق قط حدوث العكس. وماير نفسه يثبت في مكان آخر (ف 338) أنه حيث التجأ في البادية رجل إلى قبيلة غير قبيلته وتزوج منها ورزق ولداً فهم لقبيلة الأم لا لقبيلة الأب وفي القول المأثور «الولد للفراش» معنى كبير من حقوق = =الأم. وفي التقاليد العربية دليل على الانتقال من حالة الأمومية إلى حالة الأبوية وهو ما وقف عليه روبرتسن سمت ونقله جنكس ص 51، 52.
(15) كولر، ص 9.
(16) ماير ج.1. ق 2 ف 337 و338. وكولر، ص 82.
(17) كولر ص 22، ص 89.
(18) ماير، ج 3 ف 379 ص 682.
(19)HH ج 5 ص 323 وما يلي.
(20) الأغاني ج: 17: ص 116 ج15 ص 73، 75 ــــ ج 16 ص 32 و53 ــــ 54.
(21) المصدر نفسه، ج 16 ص 56.
(22) كولر، ص 37.
(23) المصدر نفسه، ص 98 ، فيركنط، ص 12.
(24) فيركنط، ص 2. وقد تصرفنا في عبارته الأصلية القائلة: «قوة فيزيائية يستخدمها المجموع للإخضاع، أو على الأقل، للتهديد بها» لأننا لا نجد الدولة دائماً آلة في يد المجموع، كما سنرى، بل كثيراً ما نجد العكس.
(25) كولر، ص 33.
(26) فركنط، ص 2.
(27) المصدر نفسه، ص 2
(28) كولر، ص 34.
(29) فيركنط، ص 4.
(30) المصدر نفسه، ص 5.
(31) المصدر نفسه، ص 5.
(32) المصدر نفسه، ص 5.
(33) المصدر نفسه، ص 5.
(34) ونغر، AVV، ص 18.
(35) فيركنط، ص 7.
(36) كولر ص 35.
(37) كولر ص 1 ــــ 15. فيركنط، بحثه.
(38) فيركنط، ص 9.
(39) المصدر نفسه، ص 9.
(40) المصدر نفسه، ص 13. وكولر، ص 18.
(41) ماير، ج. 1، ف 192.
(42) المصدر نفسه، ف 199. وكولر ص 66.
(43) ماير، ص 199.
(44) كولر ص 51.
(45) كولر، ص 52.
(46) المصدر نفسه، ص52.
(47) ونغر،AVV، ص 21.
(48) المصدر نفسه، ص 20.
(49) مكيور، Modern State ، ص 14.
(50) كولر، ص 57.
(51) مكيور، Modern State، ص 25.
(52) ماير ج.1. ق 2 ف 360.
(53) ونغر، AVV، ص 25.
(54) المصدر نفسه، ص 26.
(55) مكيور، Modern State ص 59.
(56) كولر، ص 62. وونغر، ص 28.
(57) ونغر، AVV، ص 29.
(58) المصدر نفسه، ص 27.
(59) المصدر نفسه، ص 29.
(60) ظهر الأموريون، في النصف الأول من الألف الثالث ق.م، هجرة اتجهت نحو سورية الغربية وتوطنت لبنان وأنشأت فيه دولة خاصة. وقد نزح قسم من الأموريين بعد إقامتهم في سورية إلى شرقها، انظر ماير، ج.1. ق 2 ف 396. وكانت لغتهم قريبة جداً من الكنعانية (الفينيقيّة).
(61) بريستد، ص 216 ــــ 219، وماير، ج 2 . ق 2، ف 468.
(62) المستد، المقدمة.
(63) المصدر نفسه، ص 76.
(64) ماير ج 2 ق.1 ف 356.
(65) مكيور، Modern State ، ص 58.
(66) ونغر، AVV، ص 45.
(67) المصدر نفسه، ص 45.
(68) ماير، ج 3 ف 383.
(69) ونغر، AVV، ص 45.
(1) ماير، ج 3، ف 382.
(71) ماير، ج 3، ف 383.
(72) المصدر نفسه، ف 382.
(73) المصدر نفسه، ج3، ف 384.

(74) المصدر نفسه، ج3، ف 381، الحاشية. نقلاً عن ديودروس.
(75) المصدر نفسه، ج 3، ف 381 الحاشية.
(76) إنّ فن التخطيط الحربي وتحريك الجيوش في المعارك ارتقى إلى مرتبته العصرية على يد هاني بعل فهو واضع قواعد الحرب الحديثة ومبتكر حركة الالتفاف وإن أركان الحرب الألمان قد اتبعوا في الحرب الكبرى خطة هاني بعل في معركة كني كما صرّح بذلك فن فرتش (انظر أيضاً جوان ريبيرو).
(77) ماير، ج3، ف 382.
(78) هو الإصلاح الذي وضع قواعده طيباريوس غراقس في أصيل المئة الثانية ق.م : HH ج5 ص 279 و302. ومكيور، Modern State ، ص 95.
(79) مكيور، Modern State، ص 109 وما يليها.
(80) ماير، ج 2، ف 450. وكولر، ص 57 وما يليها.
(81) مكيور، Modern State، ص 103.
(82) ونغر،، AR ص 154.
(83) المصدر نفسه، ص 156.
(84) المصدر نفسه، ص 157
(85) المصدر نفسه، ص 157.
(86) المصدر نفسه، ص 156 و193.
(87) المصدر نفسه، ص 179.
(88) مكيور، Modern State ، ص 108.
(89) المصدر نفسه، ص 116.
(90) المصدر نفسه، 117.
(91) المصدر نفسه، ص 119، ولوشين فن أيبنقرويط ص 256 ــــ 257.
(92) ابن خلدون، المقدمة. [بيروت، دار الجيل. ص 166 ــــ 167] الفصل السابع والعشرون.
(93) هرتمن، AVV، ص 38.
(94) المصدر نفسه، ص 59.
(95) المصدر نفسه، ص 51 و52.
(96) المصدر نفسه، ص 52.
(97) كولر، ص 58.
(98) هرتمن، ص 53.
(99) المصدر نفسه، ص 56.
(100) جنكس ص 183.
(101) انظر مكيور، Community ص 33 .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى