نظرات في «المساواة» – 3


أليس الارتقاء العقلي أساس كل ارتقاء آخر؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن لمن يصرف جميع قواه العقلية في الكد وراء فخفخة المعيشة أن يساعد على تقدم البشرية، اللّهمّ إلا إذا كانت هذه الأمور هي الارتقاء بعينه؟ أما القول إنّ المادة التي يسعى وراءها البشر تسهل سبل الارتقاء، فهو قول يصح في ظروف معينة فقط، يقابله قول آخر هو أنه إذا كانت المادة تساعد على الارتقاء فالفقر لم يمنع أحداً من بلوغه. مثال ذلك أنّ شكسبير أعظم نابغة إنكليزي لم يكن غنياً، وإسحق نيوتن مكتشف نصف النواميس الطبيعية كان فقيراً جداً، وكذلك كان نابوليون أعظم نابغة حربي في التاريخ الحديث. ومن البديهي أنه إذا كان الفقر لا يحول دون الارتقاء فبالأولى أن لا تكون بساطة المعيشة حائلة دونه. وخطأ صاحبة «المساواة» من هذا أنها دغمت بساطة المعيشة في الهمجية وجعلتهما شيئاً واحداً وهو غير الحقيقة

والآن الأعد إلى متابعة أبحاث الكتاب لأن من الأقلام ما يعثر في كتاب غير مرة. فبعد أن انتهت الكاتبة من تفصيل الطبقات الاجتماعية وإثبات وجوب التفوق الذي ظنت خطأ أنّ بساطة المعيشة تحول دونه، انتقلت إلى البحث في الأرستوقراطية فجاءت على نبذة تاريخية منها، واستطردت في الوجهة العلمية مشيرة إلى الخطأ الذي يرتكبه بعضهم بالاعتقاد أنّ الملكية وأرستوقراطية الحسب متلازمتان، وهو قول فيه صواب من وجهة واحدة وهي احتياج الملكية إلى أرستوقراطية تظاهرها. أما وجهة الخطأ فيه فهو أنّ الأرستوقراطية في غنى عن الملكية. وذكرت معنى الأرستوقراطية الأصلي الذي هو حكم الأفضل وتعريف أرسطو لها، وأيدت ضرورة الأرستوقراطية لمنفعة الأمة.

ثم انتقلت بعدما تقدم إلى البحث في العبودية والرق، فوفت هذا البحث حقه من الشروح، إذ أتت فيه على قِدَم العبودية وما جاء بشأنها في بعض الكتب القديمة، وكيف أخذت تخف وطأتها بالتدريج، إلى أن انتهت أخيراً بتلك الثورة التي قامت على الظلم والإجحاف والجوع وقضت على الرق الذي لازم نظام الإقطاع في القرون الوسطى كما قضت على العبودية ودكت معقل الجور في فرنسة إلى الأساس.

كل ذلك كان حسناً لولا أنّ قلم المؤلفة عاد فعثر عثرة تكاد أن تقضي على ما تبقى من الحياة العائلية. ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنها تقضي على العلاقات الزوجية وتنفي وجود الحب. ولكي لا أكون قد اتهمت بريئاً وظلمت عادلاً أورد هنا ما جاء في الكتاب بالحرف:
«يرمز المصورون إلى العبودية برسم رجل بائس رسف في قيوده، ولو أنصفوا ما كان غير المرأة رمزاً. الرجل عبد مرة وهي عبدة مرات. قيمة الرجل في استقلاله النفسي وطموحه إلى بعيد الغايات. والمرأة إن هي أبدت ميلاً إلى الانعتاق من الأوهام القديمة والتحرير من العادات المتحجرة نُظر إليها كفرد شاذ أو كخيال في دوائر الرؤيا. ذلك لأنهم اعتادوا استعبادها، ليس بالجور والضغط والتعذيب فقط، بل باللطف والتدليل والتحبب. وإلا فماذا تعني هذه الحلي وهذه الجواهر؟ بل ماذا يعني تغني الشعراء بجمال الوجه وملاحة القوام؟ النساء المسكينات يتهن دلالاً أن يكن محبوبات لجمالهن، ولو تفكرن قليلاً لأدركن ما في ذلك من معنى التحقير لجميع قواهن، حتى الأنثوية نفسها، ولكفى أن يتقدم إليهن رجل بامتداح حسنهن وحده ليرفضنه زوجاً. وهؤلاء هن اللواتي بعد أن يشترين بالمال والحلي والتملق ــــ وقد عنى سكوتهن قبول نير العبودية والرضى عنه ــــ ينبرين فجأة مطالبات بحقوقهن بالاستقلال والتحرير. وأنا التي أكتب هذا يشوك الآن ساعدي سوار دار حوله فأنظر إليه وأضحك ولا أزيحه عني. لقد توارثت النساء حمل القيود في صورة الحلي حتى عشقنها، إن هي لم تثقل حركتهن لغرض ما وضعن مكانها ما يشير إليها من غير سبب.

«تشكون من زواج هذا العصر وتستغصرون الذي يتزوج البائنة ويقبل صاحبتها معها بدلاً من أن يتزوج المرأة ويقبل معها بائنتها. ولكن أتظنونه أفظع من زواج يؤدي فهي الرجل مهراً؟ إذا ساء شراء المرأة زوجها فكيف يحسن ابتياع الرجل زوجته؟».


أنطون سعاده

الجريدة، سان باولو،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى