أين الأمّة الواحدة الّتي طالب بها أنطون سعاده؟
عبد العزيز بدر القطّان
من يقرأ أيّة شخصيّة قديمة أو حديثة، يتبحّر فيها بعمق، ويتغلغل إلى تلافيف تفاصيلها، يجد أنّ المسبّبات كثيرة، التي فجّرت أفكار هذه الشّخصيّة، فأبدعت فكراً أو أدباً أو ديناً وغير ذلك. الظّروف غالباً ما تكون سبباً في صناعة فكر الإنسان، الإنسان الذي يسعى لأن يستفيد من هذه الظّروف ويسخّرها لتطوير نفسه، لا أن يجعلها تحبطه وتحدّ من قدراته، هو معيار ووحده العقل البشريّ القادر على الصّعود أو الهبوط بالإنسان.
كما اعتدت وعوّدتكم، الإفراج عن مكنونات قلبي وعقلي معاً، بتجرّد دونما تحيّز، مدحاً أو نقداً، لا غاية لي سوى قول رؤيتي النّابعة من تجربتي الشّخصية الخالصة، وكباحث إنساني أهتمّ بالإنسان في المقام الأوّل، هو ما يعنيني وكلّ ما أكتب للإنسان والإنسانيّة، فالباحث وكما هو معروف لا يولد باحثاً، بل هو نتاج طويل من المتابعة والقراءة والاستفادة من الجلسات الحواريّة والمناقشات، مع يقيني بأنّ خير جليس هو الكِتاب، لكن أرى أنّ أيّ باحث يريد إثبات وجهة نظر من خلال إحكام العقل، ووضع العاطفة جانباً، وقراءة الشّخصيّة أو الفكرة عن صاحبها ولصاحبها، لا قراءة من كتب أو تحدّث حول هذه الشّخصيّة، إن لم نعش مع الشّخصّية فيما كتب لا يمكن لنا سبر أغوارها وفهمها بالمدى العميق، خاصّة وإن كانت هذه الشّخصيّة بحجم الزعيم أنطون سعاده.
التّوغّل بتفاصيل المفكّر أو العالم أو المربّي أو المعلّم أو الأديب، يتيح لنا إطلاق العنان لمخيّلنا وتصوّر الحالة التي كانت تعيشها تلك الشّخصيّة، لكن هذا لا يتحقّق في كتاب تمّ تأليفه من جانب هذه الشّخصيّة، بل يجب دراسة معمّقةّ لبيئة هذه الشّخصيّة وللحالة السّياسيّة التي كانت سائدة في الحقبة الّتي عاشت بها هذه الشّخصيّة، فضلاً عمّن أخذت علومها ومن هم تلامذتها، وهل عبرت الحدود الضيّقة وقطعت أسوار البلد الواحد، عندما نفهم هذه التّفاصيل الّتي هي بطبيعة الحال تحتاج جهداً شخصيّاً من الرّاغب في سبر أغوار هذه الشّخصيّة، ستختلف نظرته كثيراً عمّا كان قرأه أو اعتقد أنه ملمّ في هذه الشّخصيّة، بالتّالي، عندما يشكّل الباحث نظرته الخاصّة به وأسلوبه الخاصّ، بعيونه وفكره، يستطيع خوض النّقاش بكلّ شفافيّة وبكلّ قوّة، يوضح وجهة نظره لأنّه اجتهد وقرأ الشّخصيّة جيّداً، وهذا أمر لا يُراد منه إبراز القدرة بقدر ما هو زادٌ معرفي يوسّع الأفق والمدارك.
في شخصيّة الزّعيم سعاده، نجد الكثير لنتحدّث عنه، إنْ بدأنا لا نعلم متى نتوقّف، لقد صنع لنا فكراً خالداً، وهذا ما كان ليكون إلّا لأنّ الزّعيم اجتهد بكل قوّته في سبيل تحقيق غايته وحلمه، عندما قرأت أنطون سعاده، قرأته بعيون (عبد العزيز) بعيداً عن التّخندق والعاطفة لجهة حزبيّة أو مذهبيّة، بل قرأت فكر سعاده وإنسانيّته، ولم أقرأ لمن كتب عنه، فهو لديه من الكتب والمحاضرات الكثير الّتي تُغني أيّ باحث في أن يكوّن ما يريد من أفكار، ويجعلها خاصّة به، وكما ذكرت آنفاً إن لم يتمّ ربط ظروف الشّخصيّة بنتاجها لا يمكن تكوين رأي سديد حينها، لا يمكن فهم هذه الشّخصيّة، ولنعود إلى والد أنطون سعاده، المفكر اللّبناني والطبيب خليل سعاده (1857 ـــ 1934) الذي ظُلم، وقلائل من يعرفون حجم عطائه، والغالبيّة لا تعرف عنه إلّا أنّه والد أنطون سعاده، لكن لكلّ عظيم، هناك من وقف في ظلّه أمدّه ودعمه وكان له عوناً، ظلمت هذه الشّخصيّة من قبل لبنان ومفكّريه مع الأسف، فهو من وضع قاموس العام (1911) ضم أكثر من ألف كلمة، لكن لماذا تم استبعاده عن المشهد الفكريّ في تلك الحقبة، ببساطة لأنّه في كل عصر هنا من يعمل على توجيه البوصلة باتجاه المصلحة، لأنّ المفكّر خليل سعاده صاحب المواقف الجريئة، كانتقاده لاستقلال لبنان إثر إعلان الجنرال غورو والبطريرك حويّك (استقلال دولة لبنان الكبير). يومها، علّق على هذا الاستقلال بقوله بأنَّ (معظم موظّفي الدّولة إبّان الاستقلال كانوا فرنسيّين مثلاً. يضاف إلى هذا أنّه رغم رحيل الفرنسيّين عن البلد، إلّا أنّ المستفيدين من الفرنسيّين لا يزالون موجودين حتّى اليوم)، وبالتّالي فإنَّ فكر خليل سعاده لا يمكن إدخاله في المناهج. من الممنوع أن تضع شيئاً تنويرياً يفيد الجميع.
بالتّالي، والد الزعيم كان من الرّافضين رفضاً تاماً وقاطعاً لجرائم التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الفرنسي تجاه الثّورة السّوريّة، وكان إنجازه الكبير بترجمته لإنجيل برنابا (1907)، باختصار، من الطّبيعي أن يؤثّر هكذا أب في أبنائه، وأن يتأثّر الأبناء في هكذا والد، واعتقد أن اللّبنة الأولى لفكر الزعيم بدأت من هنا، وهي أساس كل ما نتج لاحقاً، فعندما ينشأ الشّخص في بيئة مثقّفة على مختلف الصعد، هذا حتماً سينتج عنه امتداد رأيناه في شخص سعاده.
من المعروف أن الزعيم سعاده عاش في عدّة دول، وأقبل على نهل العلوم بمواظبة واهتمام على يد أبيه، وانكبّ على دراسة اللّغات بجهد شخصيّ (البرتغاليّة، الألمانيّة، والروسية). بعدها، اتّجهت قراءاته إلى الفلسفة والتّاريخ وعلم الاجتماع والسّياسة. وما لبث أن شارك والده في إصدار جريدة الجريدة، ثمّ في مجلّة المجلّة، وهو في عمر الثّامنة عشر بدأ وعيه السّياسيّ يتشكّل ويتوجّه ضدّ الاحتلال الفرنسي ومطالبته بإنهاء احتلال سورية، ومن المعروف أيضاً أنّه استشرف مشروع الحركة الصهيونيةّ وخطره على سوريةالطّبيعيّة رابطاً بين وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين وبين اتفاقيّة سايكس بيكو التي قسّمت سورية الطّبيعية إلى خمس كيانات، والجميع يعلم عن علاقته بطلّابه أثناء أيّام التدريس الذي أتاح له ساحة واسعة للحوار الفكريّ مع الطّلبة والوسط الثّقافي، بالتّالي المرحلة تلك كانت مفجّرة لكثير من المبدعين في عصر سعاده، وهذا يثير بعض التّساؤلات خاصّة عندما نشاهد برامج تلفزيونيّة (وثائقية) تتحدث عن فكر هذا الزّعيم، في طريقة سرديّة وسرد للمعلومات الّتي يجدها أيّ شخص على محرّكات البحث، إن أردنا التميّز، يجب تقديم فكر هذا الزعيم، بإحياء الرّوح فيه وتجديدها، بعرض ماذا قدّم في زمانه، وماذا طوّر محبيه من بعده، علينا الإجادة بتقديم هذه الشّخصيّة التي لم يخلق التاريخ بعد شخصيّة بقوّتها الماثلة للأعيُن حتّى الآن، شخصيّة فعلاً نذرت نفسها لخدمة الوطن ووحدته، دفعت الثّمن كرمى لعيون الوطن الواحد، فهل هناك اليوم من سار على هذا النّهج حتّى وإن كان من القوميّين أو غيرهم؟
بالتّالي، وكما أشرنا، بدأ أنطون سعاده الكتابة في سنٍّ مبكرة، فكتب عام 1922عدّة مقالات طالب فيها باستقلال سورية وجلاء القوات الفرنسيّة عنها، كما تناول خطورة مشروع الحركة الصهيونيّة على سورية، حاول الزّعيم تكوين حزب سياسيّ في البرازيل عام 1925 تحت اسم “الشّبيبة الفدائيّة السوريّة”، بهدف توحيد أبناء الجالية السوريّة، لكنه فشل، ثمّ أسّس “حزب السوريّين الأحرار” فتوقّف بعد ثلاث سنوات، فانتقل للعمل بالمعاهد السورية في “ساو باولو”، واشترك كذلك ببعض لجان تطوير المناهج هناك، وفي هذه الأثناء كتب أوّل رواياته “فاجعة حبّ”، ليعود إلى لبنان العام 1930، ومنه إلى دمشق ليشارك في تحرير جريدة “الأيّام” الدمشقيّة، وعاد إلى بيروت لينشئ “الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ” فعمل بشكلٍ سرّيّ طيلة ثلاث سنوات إلى أن انكشف أمره، فاعتقل هو ومجموعة من معاونيه، وخلال فترة سجنه كتب كتابه الأوّل “نشوء الأمم” والذي برأيي هو من أهم ما كتب خاصّة في ضوء التّشديد عليه وهنا يكمن الإبداع، وبعد خروجه من السّجن تمّ اعتقاله لدعوته إلى حالة طوارئ بالبلاد فتمّ سجنه فكتب كتابه الثّاني “شرح المبادئ”، وبعد انقضاء فترة اعتقاله تم اعتقاله مرّة ثالثة، وخرج بعد ثلاثة أشهر فأصدر جريدة “النهضة” ولم تستمر لعامٍ واحد، إلى أنْ قرّر قيادة الحزب من المهجر وتحديداً من الأرجنتين، فكتب هناك كتابه الثّالث “الصّراع الفكريّ في الأدب السوريّ”، وبعد جلاء القوّات الفرنسيّة عن سورية عام 1946 ظلّ مُلاحقاً من حكومة “بشارة الخوري” رئيس الجمهوريّة، وأثناء حرب فلسطين عام 1948 أطلق حركة مواجهة قوميّة شاملة، مما استدعى قلق السّلطات فأصدرت قراراً بمنع الحزب من العمل العلني، فلجأ إلى دمشق فاستقبله حسني الزعيم ووفق صفقة قام بتسليمه للسلطات اللّبنانيّة فحاكمته وأعدمته في يومٍ واحد وذلك في الثّامن من تموز عام 1949، هذا ملخص بسيط يلخّص عطاء كبير جداً، إلّا أنّ سعادتي الكبيرة والشّديدة أنّي حظيت بصداقة من عايشه عن قرب وشرح لي الكثير ووضح لي الكثير، وهذه الصّداقة إنجاز كبير.
بالتّالي، إنّ الحقبة التي عايشها أنطون سعاده فرضت الواقع والتّوجّه، سواء كان نضاليّاً أو أدبيّاً أو أيّاً كان اسمه، خاصّة وأنّ المنطقة كانت في نهايات الخلافة العثمانيّة، وتشكّل أنواع استعماريّة لم يألفها العرب قبلاً، (الاستعمار الفرنسيّ والبريطانيّ) ومن ثمّ مشروع الحركة الصّهيونيّة، ومشروع (سايكس بيكو) كلّها عوامل دفعت الشّباب المندفع للدّفاع عن البلاد ونيل الاستقلال والتخلّص من الاستعمار، ولو كنّا في ذاك الزّمان لربّما كانت توجّهاتنا مغايرة لما نحن عليه اليوم، فكل زمن له طابعه وله مآخذه ومعطياته، لقد رحل الاستعمار نعم، لكنّ آثاره لا تزال موجودة والاحتلال الصّهيونيّ لا يزال يحتلّ أراضٍ عربيّة، ولا يزال مشروع الزعيم سعاده قائماً يُراد له الإحياء والتّجديد إنّما بأدوات العصر، وهذا ما نفتقده مع شديد الأسف، فقد تحوّلت الأمة إلى أمّة تنادي بالشّعارات لكن تتعصّب لحزبيّتها أو مذهبها، تدور حول “الزّعيم” وحول التيّار وحول الحزب وحول الطائفة، لكن أين الوطن الواحد الذي طالب به أنطون سعاده من كلّ ذلك؟
القضيّة الأهم التي أريد إثارتها، عبر سنوات من المتابعة وقراءة الأسماء البرّاقة التي لمعت في سماء عالم السّياسة والفكر، لم أجد أحداً خرج بمشروع أمّة واضح المعالم كما فعل الزعيم، زعامة بحقّ لديها مشروع أمّة متكاملة البنيان، لو كان الزّعيم سعاده بيننا اليوم، لرأينا بأمّ العين محاولات (شيطنته) أو (إهدار دمّه) أو (نسبه إلى جماعات متطرّفة) لكن لماذا؟
ببساطة لأنّه ومع سقوط الخلافة العثمانيّة وإلى اليوم، لم يتركوا أحد يتابع ويستكمل مشروعه النّضالي، فكلّ حركة أو حزب أو تيّار ظهر ونما وحاول النّهوض بهذه الأمّة، مباشرةً يُحارب كما أنّه هو من جلب المستعمر، وهو من قسّم الأمة، بالتالي، إنّ الأمة اليوم مستهدفة بهويّتيها الإسلاميّة والمسيحيّة “الشّرقيّة” والعربيّة عموماً، ورأينا ما رأينا كيف أصبح العدو هو الصّديق، وكيف فُرض التّطبيع كأمرٍ واقع، هذا ما حاربه الزّعيم وحاربه كثر، محذّرين من خطر مشروع الحركة الصّهيونيّة التي لم تدّخر جهداً في سبيل تحقيق حلمها المزعوم (من الفرات إلى النيل) ومع شديد الأسف بأيادٍ عربيّة.
لذلك، إن الكتب التي كتبها الزعيم سعاده هي عبارة عن منهجيّة كاملة متكاملة رغم أن لكلّ كتاب كان له ظروفه الخاصّة والتي سنفرد إن شاء الله تعالى حلقات في المستقبل القريب، حلقات خاصّة نضيء بها على هذا الفكر النادر، الذي نفخر أنّنا نعمل على تجديده وإحيائه عبر رؤيتنا الخاصّة.