إصلاحُ حياتنا القوميّة: من أين نبدأ؟
رئيس النّدوة الثّقافيّة الأمين إدمون ملحم
إنّ شعبنا بأسره يعاني من الويلات والأزمات والقهر والإذلال والعجز تجاه أوضاعه المأساويّة… فهو لا يمتلك إرادة التّغيير، ومُنشغل عن قضايا حياته الأساسيّة بأمور معيشته الصّعبة وتأمين حاجاته والمحافظة على سلامته… والحقّ نقول، أنّه لا أمل لشعبنا المقهور بتغيير أوضاعه الخانقة إلّا بالبدء في عمليّة إصلاح جذري شامل توقّف الانهيار والسّقوط وتخفّف من مصائب النّاس وأوجاعهم.
الإصلاح الحقيقيّ أصبح حاجةً ملحّةً في كلّ شأن من شؤون حياتنا القوميّة ولا يمكن لأيّ عاقل أن يتنكّر له. فكيف نخرج من هذه الظّروف القاتلة والانهيار المتسارع ومن واقعنا الفوضويّ والمأزوم بالمشاكل السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، إن لم نبادر إلى القضاء على وباء الفساد ومحاسبة الفاسدين والسارقين وأرباب السّلطة الأنانيّين المقامرين بأموال الشّعب ومصالحه والمرتكبين الجرائم الوطنيّة، وإلى إجراء إصلاحات جذريّة في أنظمتنا ومؤسّساتنا ومرافقنا المهترئة وفي القضاء المسيّس، تؤدّي إلى اجتثاث الطّائفيّة وإزالة عوامل التّفرقة والتّخلف والفوضى والإهمال وتهيئ الأسباب الكافية للنّهوض القوميّ الشّامل ولبناء المجتمع المتمدّن الرّاقي؟
من دون الإصلاحِ الشّامل كيف نصون وحدة الشّعب واستقراره ونواجه حالاتِ الفقر والجوع والبؤس والحرمان والغبن والظّلم والتّمزّق الاجتماعيّ وهجرة الشّباب والاضطرابات والتّطرّف المذهبيّ والموجات الإرهابيّة وأحقادها وما أنتجته من مآسي وجرائم وفظائع نحسُّ بأوجاعها كلّ يوم؟
من دون الإصلاحِ وقيامِ الدّولة القادرة والقضاء النّزيه المستقلّ، كيف نصون سيادتنا الوطنيّة ونواجه إرهاب الدّولة اليهوديّة الزّائلة وأطماعها في ثرواتنا ووطننا ومحاولاتها في طمس هويّتنا وتفتيت مجتمعنا؟ وكيف نواجه مخطّطات الدّول الكبرى وأطماعها في السّيطرة على مواردنا الطّبيعيّة وفي التّحكم في سياساتنا وقراراتنا الدّاخليّة وفي التّدخّل في كلّ شأن من شؤون حياتنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والتّربويّة والقضائيّة؟
لا بدّ لنا من إصلاح أوضاعنا إصلاحاً فعليّاً لا شكليّاً، إصلاحاً لا يعتمد على الكذب والمراوغة والتّقليد بل يتحقّق بفعل الإرادة الواعية والبطولة المؤمنة والتّفكير العمليّ العقلانيّ الحكيم والتّخطيط المدروس.
لا بدّ لنا من إصلاح حياتنا القوميّة وتنقيتها “من الأدران النّفسيّة والصّدأ العقليّ، فتعود الصّحّة والعافية إلينا ويصبح في إمكاننا بذل الجهود الصّادقة لتحقيق مطلبنا الأعلى”.
إنّ الإصلاح المطلوب غايتُهُ إصلاحُ العلّةِ في أهلِها وإيصالُ الشّعبِ إلى خيرِه. وهذا الإصلاح يبدأ:
أولاً، ببناء المجتمع المحصّن وقيامِ الدّولة القادرة – الدّولة المدنيّة الحديثة بمؤسّساتها الجديدة الصّالحة والمحرِّكة لطاقات الإنتاج. ففي ظلال الدّولة الحديثة الضّامنة لحرّيّة الشّعب وحقوقه والسّاهرة على رعاية مصالحه وتأمين بحبوحته وعيشه الكريم، يتحوّل الشّعب بكلّ أجياله إلى قوّة فاعلة ترتقي بالحياة إلى أعلى ما تتوق إليه النّفوس من منعة وخير وبحبوحة وأمان، ويكون لها القول الفصل في كلّ القضايا الّتي تخصّ الأمّة وجوداً ونهوضاً وتقدّماً وارتقاءً.
مصلحتنا القوميّة وحقّ شعبنا الطّبيعيّ في حياةٍ كريمةٍ لائقةٍ يحتّمان علينا أن نعيد النّظر في الكثير من أحوالنا الاجتماعيّة، وأن نبادرَ إلى إصلاح مجتمعنا وتحصينه بالوعي القوميّ الصّحيح الّذي يؤسّس لوحدة المجتمع وبعث فضائله النّبيلة، وتنمية روح التعاون بين أبنائه واستنهاض القوّة الكامنة في نفوسهم. وفي هذا المجال، لا بدّ لنا من بناء النّفوس بناءً جديداً وتحريرها من قيود الذّلّ والخمول والخوف والخنوع وإنقاذها من المساوئ والأهواء والنّزوات الفرديّة وتسليحها بقيم الحياة الصّراعيّة. إنّ النّفوس المتحرّرة بقوّة العلم والمعرفة والوعي والمناقب السّامية والمتسلّحة بالوجدان القوميّ هي وحدها القادرة على بناء المستقبل والوصول إلى مراتب العزّ والتّقدّم والانتصار.
ولا بدّ من العمل لتكوين العقل الجماعيّ الّذي يعي هويّته القوميّة الحضاريّة ويعتّزُ بها ويرى مصلحته في العمل لإزالة الموانع والحواجز الّتي تعرقل دورة الحياة الاجتماعيّة – الاقتصاديّة الواحدة في الميدان القوميّ، الّذي جزّأه المستعمر إلى كيانات هزيلة وهويّات عرقيّة ومذهبيّة، ولترسيخ ثقافة الوحدة والتّلاحم والدّفاع عن الهويّة الثّقافيّة – المجتمعيّة وتحصينها.
إنّ بناء العقل القوميّ المتّجه بتفكيره نحو الأمّة وقضيّتها الصّحيحة يستوجب التّخلّي عن التّفكير السّطحيّ – الرّجعيّ والاتّجاهات الفكريّة المتمسّكة بواقع الحال، والاعتناء بالتّخطيط الثّقافيّ الهادف لتأهيل المجتمع وتحصينه بتعزيز ثقافة المعرفة والعمل والإنتاج والاجتهاد والتّفاني في أداء الواجب، وبنشر الوعي القوميّ الّذي يضيء طريق الشّعب باتجاه المستقبل، وينبّهه إلى وحدة حياته ومصيره، ويكشف له تراثه الحضاريّ الغنيّ بالمآثر الثّقافيّة وبالعلم والفنّ والإبداع. إنّ الوعي القوميّ لا ينقذنا من تخبّطنا وتشرذمنا فحسب، بل يمَكِّننا من تعزيز الولاء الوطنيّ وبناء المجتمع المتماسك القادر على التّجديد والابتكار والتّفوّق في معترك الأمم والسّير نحو مقاصده السّامية. وكما يقول سعاده: “الوعي القوميّ الّذي يوضح حقيقة المجتمع وينقذه من تخبّطاته هو شرط أوّليّ للابتداء بالعمل الأوّليّ للتّقدّم والفلاح، لذلك نحن نفضّل أن نبدأ بهذه الطريقة بوعي قوميّ اجتماعيّ صحيح يقضي على جميع المشاكل الروحيّة والنّفسيّة في المجتمع لإيجاد مجتمع واحد له أهداف واحدة”.
ثانياً، باعتمادنا على التّخطيط القوميّ الشّامل للتّقدّم في نواحي الحياة كافّة في المجتمع بأسره والمتلائم مع حقيقة أوضاعه القائمة. إنّ نجاح أيّ تخطيط يتطلّب قبل كلّ شيء الاستعانة بالكفاءات الحقيقيّة العالية المتخصّصة والمتميّزة بعلمها وخبرتها العمليّة وإخلاصها ومعرفتها بالواقع. ولكي يكون التّخطيط ناجحاً، يتطلّب أن لا يكون إنتاجاً فرديّاً أو من صناعة أفراد، بل يجب أن يكون عملاً جماعيّاً تعاونيّاً تكافليّاً يشارك به الجميع بحرّيّة وديمقراطيّة ويعكس طموحات الجماعة أو المؤسّسة أو الشّعب. ونجاح التّخطيط يستوجب أن تكون عمليّة التّخطيط هادفة وقائمة على أسس واحتمالات واقعيّة وموضوعيّة وخاضعة للمتابعة والتّقييم المستمر بهدف تصحيح الانحرافات فيها وإجراء التّعديلات اللّازمة. لذلك يجب وضع الخطّة الاستراتيجيّة الواضحة المراحل والإجراءات والأهداف المستقبليّة، والمحدِّدة للصّعوبات والتّحديّات والأولويّات والبدائل، والمعيّنة القواعد والمبادىء والوسائل الصّحيحة والموارد المادّيّة والبشريّة وخطط التّنفيذ والتّوقيت ومؤشّرات الأداء.
ثالثاً، بإيقاظ عقولنا والاعتناء بها وإرشادها وتشريبها منهج التّفكير العلميّ وتغذيتها بالحقائق والمعرفة الصّحيحة لتعود إلى الإبداع والابتكار. ولكن الإبداع والابتكار لا يتولّدان في العبوديّة، بل في الحرّيّة. من هنا اعتبار سعاده “إنّ الحقيقة والمعرفة الصّحيحة تظهران بالبحث الحرّ لا باضطهاد حرّيّة الفكر.”
رابعاً، بتبنّي التّفكير العمليّ – العلميّ – المنطقيّ والاعتماد على البحث العلميّ والميدانيّ الموضوعيّ الّذي يؤدّي بنا إلى تغيير هذا الواقع الموروث وبناء مجتمع معرفيّ ينبثق عنه اقتصاد معرفيّ مبني على الابتكار والإبداع.
خامساً، بالانطلاق من رؤية إنسانيّة مستقبليّة محدّدة المعالم. وهذه الرّؤية يجب أن تكون:
أ- رؤية واقعيّة، تشخيصيّة، موجّهة واستشرافيّة، واضحة، خالية من غياهب الأوهام والأحلام السحريّة وقائمة على الوضوح والفكر التّجديديّ البَنّاء والمتحرّر.
ب- رؤية حضاريّة طموحة تتلاءم مع قيمنا الإنسانيّة وتعبِّرُ عن طموحاتنا وآمالنا السّامية في الحياة وتدفع بنا نحو التّركيز على المستقبل… أيّ إنّها رؤية إنمائيّة توّاقة لحياة مستقبليّة راقية ولعالم إنسانيّ جديد فيه كلّ أسباب التّقدّم والعدل والأمان والحرّيّة والخير والرّفاهيّة والجمال.
سادساً، باعتمادنا على التّربية القوميّة الصّحيحة الخالية من المبادىء العنصريّة والطّائفيّة، والقائمة على الحقائق والعلم الصّحيح وعلى “المبادىء الشّعبيّة الصّحيحة الّتي تقوّي في أجيالنا روح احترام النّفس والثّقة بالنّفس”، وتنمّي في نفوسهم “الرّوح السّليمة والمدارك العقليّة العالية”.
وإذ نتحدّث عن الإصلاح، نتذكر ما يقوله أنطون سعاده: “إنّ الّذين يريدون الإصلاح الحقيقيّ يجب عليهم أن يكونوا صادقين في أنفسهم، وأن يتحوّلوا إلى الإصلاح في ذواتهم أوّلاً…” كما يقول أنّ الإصلاح يأتي نتيجة عقيدة صحيحة موّحِدة للشّعب “تنشىء جيلاً جديداً ونظاماً جديداً وجمالاً جديداً”.