“اذكروا محاسن موتاكم”…لكن ماذا عن سيئاتهم؟
الأمين أحمد أصفهاني
ما مِنْ مرّة قادنا الحديث الاجتماعيّ أو السّياسيّ إلى حدّ إبداء رأيٍ أو إصدار حكم في شخصيّة عامّة راحلة إلّا وكان بين الحاضرين من يبدي تحفّظاً أو اعتراضاً، يعزّزه دائماً بالقول المأثور: “اذكروا محاسن موتاكم”! ونحن في مثل هذه اللّقاءات لا نتناول عادةً النّاس العاديّين، بل شخصيّات عامّة فاعلة لعبت أدواراً مهمّة في المتّحد الاجتماعيّ. وهؤلاء ساهموا في صنع الأحداث سلباً أو إيجاباً، وتركوا لنا ميراثاً مستمراً حتى بعد غيابهم الأبديّ. ومع ذلك يوجد دوماً من يتصنّع الإنكار، ويتمجلس بوقار، ويُطلق جملته وكأنّها القضاء والقدر: “اذكروا محاسن موتاكم”… حتى ولو كانت تلك المحاسن كمن يبحث عن قطرة ماء في غياهب صحراء الرّبع الخالي.
وأعترف بأنّ بعض الّذين يستنجدون بهذا القول، إنّما يردّدونه بحكم العادة وليس عن معرفة أو دراية. وقصدهم الحقيقيّ إغلاق باب التّقييم، ومنع البحث النّقدي في تاريخ تلك الشّخصيّات. وبعد أن طفح بي الكيل، قرّرت البحث عن جذور هذا القول. فوجدت أنّه يرد في “الأحاديث النّبوية” على هذا الشكل: “اذكروا محاسن موتاكم، وكفّوا عن مساويهم”. لكن محمد بن اسماعيل البخاري (810 ـ 870) يصفه بأنه “منكر”، في حين يعتبره محمد ناصر الدّين الألباني (1914 ـ 1999) “ضعيفاً”. وهذان العالمان من المراجع الأساسيّة في علم “الحديث النّبوي” قديماً وحديثاً.
إذن هذه العبارة لا تحمل صفة دينيّة مؤكّدة، وإن كانت قد أصبحت من الموروث الشّعبيّ الرّاسخ. وتنتشر بين النّاس تنويعات أخرى حول المعنى نفسه، منها “لا تجوز على الميت إلّا الرحمة” و”لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء”… إلخ. وأسوأ ما قرأت تفسير لأحد المتطفّلين على الدّين إذ يقول: “…والنّهي عن سبّ الأموات جاء فقط للمسلمين والصّالحين”!!
وبغضّ النّظر عن مرجعيّة هذه الأقوال، فإنّ مضمونها لا ينطبق مطلقاً على عمليّة تقييم الشّخصيّات العامّة من حيث ممارساتها في المجتمع. عندما يقرّر شخص ما الانخراط في النّشاط السّياسي أو الاجتماعيّ، فهو ينتقل من الوضعيّة الخاصّة إلى الوضعيّة العامّة. وتصبح ممارساته كلّها خاضعة للرّقابة الدّقيقة، وبالتّالي للمحاسبة، بما في ذلك حياته الشّخصيّة. إن موقعه في الحياة الاجتماعيّة يجعله “قدوة” للآخرين، ومن هذا المنطلق يترك بصمات غائرة في الّذين يتأثرون به. ومن الطّبيعي والحالة هذه أنّ من اختار تنكّب المسؤوليّات العامّة سيجد أن مواقفه وممارساته عرضة لمقاييس النّقد سلباً وإيجاباً.
إنّ وفاة أيّة شخصيّة عامّة لا تعفيها من التّقييم الصّارم، خصوصاً إذا كانت الأدوار الّتي لعبتها مدار خلاف وأسفرت عن تداعيات خطيرة. ولذلك فإنّ حرمة الموت لا تعني التّلطي خلف مقولة “عفا الله عمّا مضى”. وليس المقصود بالتّقييم هنا التّشفّي والانتقام وترويج الأكاذيب، بل النّظر الموضوعيّ في مآتي تلك الشّخصيّة من حيث هي جزء فاعل في مرحلة محدّدة. فكشف السّلبيّات يكون على نفس أهميّة إبراز الإيجابيّات، لا يطغى هذا على ذاك. لأنّ الغاية من عمليّة التّقييم هي بلوغ درجة عليا من الوضوح واليقين، فلا تبقى الحقيقة رهينة الولاءات الفرديّة.
عندما نقيّم أفعال شخصيّة عامّة تولّت مسؤوليّات محدّدة، فنحن نُقدم على ذلك بهدف وضعها في سياق تاريخيّ. كما أنّ هذه الخطوة تفيدنا في استيعاب دروس التّجربة الّتي عاشتها تلك الشّخصيّة، فنتجنّب الأخطاء ونبني على الإنجازات. لكن مثل هذا التّقييم، لكي يكون دقيقاً، يستلزم النّظر الموضوعيّ خصوصاً في إظهار “المساوئ”. فالكيديّة والفئويّة والتّعصب على أشكاله تُفقد التّقييم مصداقيته تماماً، وتجعله مجرد تشهير حاقد… وتزداد بشاعة تلك العقليّة كون الشّخص الّذي تتناوله غير موجود للرّد والتّوضيح!
مبدئيّاً، من حقّنا ـ بل من واجبنا ـ أن نذكر محاسن الأموات وسيئاتهم في كلّ ما يتعلّق بالقضايا العامّة. فلا يردعنا خجل ولا تغرينا مصلحة. لكن من المؤسف أنّ غالبيّة الّذين يقيّمون الشّخصيّات العامّة الرّاحلة يرتكبون نقيصة من اثنتين: التّقديس أو الشّيطنة… ولا يوجد عندهم حلّ وسط، أو منزلة ما بين المنزلتين. إنّ أفضل ما يسعى إليه التّقييم هو “أنسنة” تلك الشّخصيات وتفهّم ظروفها الذّاتية والموضوعيّة. ووقتذاك سنقدّم نحن حجارة الرّجم إلى كلّ من يزعم أنّه بلا خطيئة…