التّأسيسُ فعلُ حياةٍ
الرّفيق حسن الخنسا
ناموس عمدة الإعلام
إنَّ لتأسيسِ الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ وقعٌ عظيمٌ في تاريخِ أمّتنا، فلهذا الحدث المفصليّ الّذي شكّل المدماك الأساس في التّحوّل الاجتماعيّ والسّياسيّ في بلادِنا، معانٍ أعظم من أن تُختصر في يومٍ أو ذكرى. لقد عبّر الحزب عن هويّة الأمّة ومكنونها الثّقافيّ – الفكريّ، فكان إنشاؤه بمثابةِ نقطةِ تحوّلٍ في الوعي المجتمعيّ لحقيقتنا وحقيقةِ بلادنا وهويّتنا الّتي فتّتها وجزّأها الاستعمار، فكادت تندثر لولا ظهور فتى الرّبيع على مسرحِ الأحداث في تلك الفترة من حياةِ هذا المشرق المعذّب.
قد كان للتّأسيس الفضل الأكبر في الإضاءة على هويّتنا الثّقافيّة، الّتي جهدت ”الفتوحات العربيّة – الإسلاميّة“ والاحتلال التّركي (العثمانيّ) والاستعمار الأجنبيّ من بعده على طمس كلّ ما يتعلّق بتلك الهويّة من آثار وعادات وتقاليد مجتمعيّة ودراسات علميّة، لم يكن آخرها مصادرة بحث أنطون سعاده العلميّ في نشوءِ الأمّة السّوريّة، وسرقة آثار بابل وتَدمُر، وحرق المكتبة العلميّة في بغداد، وقتل مئات العلماء في العراق إبّان الاحتلال الأميركيّ عام 2003. كما سلّط التّأسيس الضّوء على هويّتنا الاجتماعيّة، فقد انطلقَ المؤسّس في تفكيره حينذاك من سؤال “من نحن؟”، في ظلّ عوامل التّفتيت والانقسام، حيث كانت الحرب قد وضعت أوزارها. ويقول سعاده في المحاضرة الثّالثة من النّدوة الثّقافيّة: “بُعثت الأحقاد المذهبيّة من مراقدها والأمّة لمّا تدفن أشلاءها وقد فعلت الدّعاوات فعلها في المهاجرين فانقسموا شِيَعاً”، فأتى تأسيس الحزب بمثابة إجابة على سؤال الهويّة، ويؤكّد الزّعيم ذلك في المحاضرة نفسها: “ولمّا كانت دروسي الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة قد أوصلتني إلى تعيين أمّتي تعييناً مضبوطاً بالعلوم المتقدّمة، وإلى تعيين مصلحة أمّتي الاجتماعيّة والسّياسيّة، وجدتُ أنّ لا بدّ لي من إيجاد وسائل تؤمّن حماية النّهضة القوميّة الاجتماعيّة الجديدة في سيرها”.
إنّ تأسيس الحزب وفي غايته بعثُ نهضة هذا الوطن قد شكّل الخطّة المعاكسة للمشروع الصّهيونيّ، فاجتمع الاستعمار واليهود وأرباب الطّوائف على موقفٍ واحد، وجوب التخلّص من هذا الرّجل.
لقد أُنشأ الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ على قاعدةٍ أساسيّة، هي إعادة السّيادة القوميّة للأمّة وحقّ الشّعب السّوريّ في تقرير مصيره. وفي معرضِ دفاعه عن نفسه أمام المحكمة الفرنسيّة، كتب الزّعيم رسالةً أرسلها من سجنه الأوّل إلى المحامي الأستاذ حميد فرنجيّة وذلك في 10 كانون الأوّل 1935، بعد أن كان المحامي المذكور قد طلب منه سرد الأسباب الّتي دفعته إلى تأسيس الحزب. وممّا جاء في تلك الرّسالة أنّ الأحداث الّتي شهدتها تلك المرحلة قد دفعت سعاده إلى سؤالٍ أساسيّ أراد له جواباً ملحّاً، “ما الّذي جلب على شعبي هذا الويل؟”، ويقول سعاده في معرض جوابه عن هذا السّؤال: “كنتُ أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعّالة لإزالة أسباب الويل، وبعد درسٍ أوليّ منظّم قرّرت أنّ فقدان السّيادة القوميّة هو السّبب الأوّل في ما حلّ بأمّتي وفي ما يحلُّ بها”، ويتابع المفكّر النّهضويّ: “أنا أردتُ حرّيّة أمّتي واستقلال شعبي في بلادي”. ويؤكّد سعاده فعلاً أن تفكيره قد ثبُتَ على الأساس القوميّ، رابطاً كل أعماله بمعيار مصلحة بلاده وذلك جليّ في المبادئ الأساسيّة الّتي وضعها لحزبه وخصوصاً المبدأ الثامن “مصلحة سورية فوق كلّ مصلحة”. إذن سبب ويلاتنا هو فقدان السّيادة القوميّة في بلادنا وإزالة أسباب الويل مرتبطة بوعيٍ مجتمعيّ لإسقاط الأنا، وبدء التّفكير بآليّاتٍ حديثة للنّهوض.
لا بدّ للقارئ الكريم أن يسأل هل أصبح مشروع سعاده النّهضويّ خارج التّاريخ؟
يقول سعاده إنّ “الحزب لم ينشأ خصّيصاً لأنّ الانتداب موجود، بل لجعل الأمّة السوريّة موحّدة وصاحبة السّيادة على نفسها والإرادة في تقرير مصيرها”. لقد نشأَ الحزب لغايةٍ تساوي وجودنا، لقضيّةٍ واحدة هي قضيّة حياة المجتمع واستمرار حياته وتقدّمها نحو الأفضل والأجمل، لحياةٍ أجمل في عالمٍ أجود وقيمٍ أعلى.
لهذه الأسباب، إنّ مشروع سعاده النّهضويّ لا ينتهي بعامل الزّمن، أو تبدّل الأحوال السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، بل على العكس ربّما اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى نحن بحاجة لهذا المشروع للخروج من هذا الويل. إنّ الويلات الّتي حلّت على بلادنا تؤكّد على راهنيّة هذا الفكر وهذا المشروع وضرورته الملحّة لوجودنا ولمعنى وجودنا، فالأمّة ترزح بين الحياة والموت ومصيرها متعلّق بما نختاره لأنفسنا.
لقد تضافرت جهود الاستعمار القديم – الجديد لنهبِ خيراتِ بلادنا وإخضاع شعبنا لإرادةٍ غير إرادته، ولتحويل الهلال الخصيب المتميّز بموقعه الاستراتيجي والجيو – سياسي، إلى مستعمرةٍ كبيرةٍ تخضعُ لإرادة الطّامعين غرباً وشرقاً. وإذا نظرنا من حولنا لواقع كيانات أمّتنا نرى جليّاً المحاولات المستمرّة لإنهاء الصّراع القائم لمصلحة المشروع الاستعماريّ التّفتيتي. فهل من يجرؤ على تجربة هذا الرجل الذي رهنَ نفسه لحياةِ بلاده؟