السياسة الأوروبية – ألمانية دولة وأمة
يوجد وجه للنظر يمكننا معه أن نقول إنّ بعض الدول ليست أمماً، وذلك متى كانت الدولة مؤلفة من أكثر من شعب أو عنصر واحد مثل سويسرا مثلاً. ومع ذلك ففي ظروف معينة يصح أن يقال عن سويسرا إنها أمة خصوصاً متى كان الكلام لا يتناول البحث في العناصر التي تتألف منها البلاد السويسرية. ولكن الدولة التي تتألف من شعب أو عنصر واحد أمة في كل الظروف، خصوصاً متى كانت تخضع لمدنية واحدة. فإذا اضطرها جور الحادثات إلى التخاذل في السياسة والانقسام بطلت أن تكون دولة واحدة، ولكنها تبقى في العرف الاجتماعي أمة واحدة يجوز، متى زال الجور الذي اضطرها إلى الانقسام، أن تعود إلى الاتحاد وتكون دولة واحدة.
كثيراً ما تكون الأمة مؤلفة في الأصل من عناصر مختلفة اندمجت مع تمادي الأيام بعضها بالبعض الآخر وكونت شعباً واحداً. فاليهود مثلاً هم أحق الناس بأن يكونوا شعباً واحداً أو أمة واحدة تنتمي إلى عنصر واحد، ومع ذلك فإنهم خليط من كل الأمم. فترى من هذا أنّ المراد بالأمة ليس أصل العناصر منفردة بل العناصر المندمجة في بعضها البعض، مكوِّنة شعباً واحداً ذا عوائد واحدة وأخلاق واحدة ويتكلم لغة واحدة. ولكن بعض الكتّاب يحاولون أن يثبتوا أنّ الأمة ليست أمة بمجرد أنّ فيها انقسامات سياسية وتشعبات دينية.
من هؤلاء الكتّاب الكاتب الإنكليزي بول بار، فإنه نشر مؤخراً مقالة في المجلة النصف شهرية الشهيرة التي تصدر في لندن حاول أن يثبت فيها «دون أدنى مبالغة» أنّ ألمانية ليست أمة: لأن الألمانيين في الجنوب كاثوليكيون ملكيون، وفي الرين كاثوليكيون جمهوريون، وفي الوسط بروتستانت جمهوريون معتدلون، وفي سكسونية يكادون يكونون كلهم إشتياعيين، وفي الشمال الشرقي هم بروتستانت ملكيون. وقد خلط هذا الكاتب بين أنّ ألمانية ليست أمة وأنها ليست دولة، أو لعله أراد أنها ليستهما معاً إذ قال بعدما تقدم إنّ ألمانية تكون، إذا كانت نظريته صحيحة وهو ما لا شك فيه عنده، ولايات أو دولات مختلفة الأجناس متباينة المذاهب والمشارب. فانقسامها إذاً أمر لا بدّ منه إذا إنه عمل طبيعي فينحاز كل قسم بحسب ميول سكانه إلى بلاد أخرى توافقه على هذه الكيفية «سكسونية إلى روسية. الرين إلى بلجيكة بافاريا إلى النمسة. فيكون سكان هذه الولايات ألمانيين في العرف الذي به الزوريخيون ألمانيون في الوقت الحاضر»، أي بالإسم واللغة فقط. وفي نظر الكاتب أنّ هذا أفضل حل للمشاكل الأوروبية التي تهدد السلام. وبغير هذه الصورة، أي أنه ما زالت ألمانية غير منقسمة تظل تشعر أنها مضطهدة وأنها يجب عليها أن تنتقم من مضطهديها. وعندي أنّ الكاتب قصير النظر في الأمور السياسية وإن كان يُعدّ نفسه خبيراً محنكاً. فبدلاً من أن يذهب إلى قلب الموضوع ويدرس وجوهه المتعددة ويبحث في الأسباب الرئيسية التي تدعو إلى التخوف من انتقام ألمانية، اتخذ هذا التخوف حجة للقول بوجوب إيهام العالم أنّ ألمانية ليست دولة ولا أمة. ومع أنّ الخوف من انتقام ألمانية الذي لم يكن له داعٍ سوى اضطهاد الحلفاء، أو بعضهم، ألمانية هو أساس مقالة الكاتب، فإنك تراه في مكان آخر من مقالته المارّ ذكرها يكذب نفسه فيقول إنّ الألمان لا يهمهم أمر السياسة وإنهم رجال عائلة فقط ومعظم اهتمامهم بالأمور الاقتصادية فقط. وقد استشهد على ذلك بكتابات بعض الجرائد الألمانية التي تقول: «نحن في برلين أو في هانوفر أو في ليبسغ أو أي مكان آخر نشعر بضائقة اقتصادية عظيمة سببها وجود الفرنسيين في الروهر. نحن ندفع أثماناً باهظة للحصول على الخبز والزبدة واللحم لأن الفرنسيين في الروهر». وفي اعتقاد الكاتب أنه لما كانت هذه كتابات بعض الجرائد الألمانية «لم يعد عند الألمانيين شيء من الوطنية في مسألة الروهر أكثر مما عند المستر بالدوين في نظره في هذه القضية».
ومن الأدلة التي استشهد بها بول بار في مقالته الآنفة الذكر لتأييد نظريته القائلة إنّ ألمانية ليست دولة ولا أمة، أنه قابل كاتباً سيآسية نمسوياً «محنكاً» قال له: «إني كنت سابقاً أعتقد بوجود أمة ألمانية راسخة في الوطنية، أما الآن فقد انتبهتُ إلى أني كنت مخطئاً. فالوطنية الألمانية الماضية حادث غير طبيعي بل هو أمر صناعي. إنها ابتدأت مع غايث [Goethe غوته] تهذيبياً وخلقت بواسطة بسمارك سيآسية وبلغت درجتها القصوى من الكمال بالجهد الذي بذله معلمو المدارس وأساتذة الجوامع الولهلمية. ولكنها لا قاعدة لها، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت مسألة الروهر هذه قد ألهبت قلوب كل الألمانيين من الألب حتى البحر الشمالي. بيد أنها لم تلهب قلب أحد إلا إثنين أو ثلاثة من الشبان الخياليين…».
الأدلة المتقدمة هي أهم البراهين التي استند إليها الكاتب الإنكليزي ليبيّن أنّ ألمانية ليست دولة ولا أمة، وهي أدلة لا تفيد شيئاً في معنى الدولة أو الأمة خصوصاً في البلاد الألمانية التي يفتك الجوع اليوم بألوف من أهلها فتكاً ذريعاً. وهي في الوقت الحاضر يتنازعها عاملان وتتجاذبها ناران هما العداء والاضطهاد الخارجيان والجوع الداخلي. وإذا كانت الجرائد الألمانية أو بعضها تقدِّم أمر الجوع على أمر الاضطهاد فبداهة لا تحتاج إلى كبير فلسفة لأن الجوع خطر مداهم سريع العطب، أما العداء فأمر يحتمل التقديم والتأخير. وفضلاً عما تقدم، فإن ألمانية لم يمكنها القيام في وجه أعدائها حالاً وسريعاً لسببين: أولهما فقدان وسائل المقاومة الآلية بعد النكبة التي حلت بها، و ثانيهما وهو الأهم، التأثير السيّىء الذي كان لا يزال راسخاً في عقول العالم من جراء السعاية التي قام بها الحلفاء أثناء الحرب وتصويرهم ألمانية بأقبح الصور، الأمر الذي يمنعها من التظاهر بأقل استعداد ولو دفاعي إلى أن يكون العالم قد وقف على جلية الأمور السياسية.
لا يعلم مبلغ مصيبة الجوع الحالّة الآن في البلاد الألمانية إلا من ذهب إلى هناك وشاهد عياناً الأهوال التي تقاسيها العائلات الألمانية بسبب الجوع. فقد ذكر أحد المراسلين الخبيرين في برلين أنّ العامل البطال في ألمانية الذي يعش الآن على موارد الحكومة الألمانية الأخيرة يتناول إذناً بأخذ رغيف واحد في اليوم، وأنّ نتائج هذه المجاعة على صحة الأولاد لا تقل عن أي تقدير يضعه العاقلون. وقد برهنت الإحصاءات الأخيرة على أنّ كل طفل من عشرة أطفال في برلين يذهب إلى ملجأ. لو جاءت هذه الأمور على الشعب الألماني فجأة أو دفعة واحدة لكانت النتيجة المحتمة لها حدوث ثورة دموية هائلة، أما وقد أتت المصائب تدريجياً فإنها قد أضعفت الشعب ضعفاً شديداً حتى لم تبقَ له قوة تمكنه من الثورة. ولقد ذكر أحد معلمي المدارس لأحد الكتّاب أنه يوجد بلدان في ألمانية بين كل أربعة أولاد من أولادها يوجد ولد مصاب بالتدرُّن، وأنّ هؤلاء المصابين سيعدون الآخرين في الوقت القريب لأن كل واحد لا يتمكن من غذائه الكافي.
ليس عجيباً بعد هذا أن نرى بعض أقسام الدولة الألمانية يريد الانفصال عن جسم الدولة، لعله بهذا الانفصال تخف وطأة أحماله. ولكن العجيب الغريب في الأمر أن تبقى ألمانية إلى الآن واقفة بعضها إلى بعض كالبناء المرصوص رغماً من كل التسهيلات التي تقدمها فرنسة لكل الأقسام التي ترغب في الانفصال حباً بتمزيق وتفكيك وحدة ألمانية السياسية التي كانت قبل الحرب المثال الأعلى في النظام السياسي في أوروبة. وقد قام حتى الساعة زعماء كثيرون يريدون فصل الرين عن جسم ألمانية، ولكنهم رغماً من كل مساعيهم ومن مساعدة الفرنسيس لهم لم يفوزوا بشيء مما رموا إليه واحتقرهم مواطنوهم احتقاراً شديداً وقتلوا بعضهم. وهناك أيضاً مسألة سيليسية فإن اقتطاعها وإعطاءها إلى بولونية لم يتم إلا بالقوة والاغتصاب.
كل ما تقدم ليس إلا شوؤوناً سياسية وتقلبات وقتية لا تفيدنا كثيراً في تقرير ما إذا كانت ألمانية دولة وأمة أم لا. فهل ألمانية دولة وأمة؟ سؤال يتناول وجهات متعددة ويفيد معانٍ مختلفة منها: هل هي كذلك عنصرياً فقط، أو هل هي أمة بالمدنية فقط، أو هل هي أمة من هاتين الوجهتين كلتيهما؟ وإني لسوء الحظ لا أتمكن الآن من الجواب على ذلك كما أحب، ولكني أقدر أن أقرر شيئاً يفيد أنّ ألمانية دولة وأمة دون أن ألجأ إلى العلوم الأنثروبولوجية والأثنولوجية والأرخيولوجية، ولا أن أبحث في الأصول العنصرية التي كيَّفت الألمان، بل بالاستناد إلى حقائق فلسفية تغنينا عن كل العلوم المتقدمة في هذا البحث المختصر.
متى اضطرت الشؤون الاقتصادية والسياسية والمصالح العمرانية والاجتماعية شعباً أو شعوباً إلى الاتحاد والتضامن وإنشاء حكومة واحدة تنظر في تلك الشؤون والمصالح وتعمل في سبيل ترقيتها وصونها، أصبح ذلك الشعب أو الشعوب دولة وكان هذا العمل تكوين دول. فإذا أقرينا هذه النظرية المبرهن عليها، هان علينا إثبات أنّ ألمانية دولة. فألمانية سواء كانت أمة واحدة أو أماً متعددة دولة بكل معنى الكلمة، وهي لا بدّ لها من أن تكون كذلك وسط هذا التطاحن العالمي الذي لا مثيل له.
كانت ألمانية في الماضي دولاً وإمارات متعددة وكانت إيطالية كذلك، بيد أنّ ذلك لم يكن إلا نتيجة النظام الإقطاعي الذي لم تكد تسلم منه دولة واحدة من دول أوروبة. ومهما كانت الأسباب التي بعثت على توحيدها على الكيفية الحاضرة بعد الحروب الهائلة التي أصلاها إياها نابوليون، فإن هذا الاتحاد أمر ضروري لصيانة مصالحها والمحافظة على الحقوق التي يمكن التمتع بها متى كانت دولة من الطراز الأول كما هي على عهد اتحادها. ولئن تكن هي قد فقدت هذه الحقوق بعد الحرب فإنه يظل في إمكانها، ما زالت متحدة، استردادها. أما إذا قضت الحال أن تبعثر ألمانية دولات صغيرة لا حول ولا طول لها، فإن حياتها الاقتصادية والسياسية تصبح في ذلك الوسط الأوروبي عبارة عن كدح وكد وأتعاب مرّة واحتمالات شديدة وتضاؤل هو، بعد ذلك التألق وتلك الرفعة، يحزن قلب كل ألماني.
وإذا أضفنا إلى الحقائق المتقدمة حقيقة أخرى جوهرية وهي أنّ ألمانية أمة كما سنبين ذلك، لم يبقَ لها مناص من أن تكون دولة واحدة حتى في حالة الانقسام.
أما كيف أنّ ألمانية أمة فظاهر في أميال الألمان الاجتماعية وأحوالهم التهذيبية وتصرفاتهم الأخلاقية وتأملاتهم الروحية. فكانّت وغايث وشلر المثال الأعلى لتفكير الألمان ولهم المقام الأسمى في قلوبهم، وهم الرُبط الاجتماعية والتهذيبية والروحية التي تربط كل الألمان وتجعلهم أمة واحدة تستمد ارتقاءها ومدنيتها من وحي فلاسفتها وشعرائها. وإذا كان لا بدّ من إدخال الوطنية في حياة الأمم، فللأمة الألمانية أناشيدها وأغانيها الوطنية. وإذا كانت الوطنية الألمانية هاجعة اليوم بسبب الويلات والمحن التي حلّت بالبلاد الألمانية بعد الحرب، فليس ذلك دليلاً على أنّ لا وطنية للألمان، بل إنّ هذه الوطنية ستستيقظ عند أول انتعاش تناله ألمانية لتعيد إلى البلاد عزها ورخاءها القديمين اللذين يؤهلانها لأن تكون عضواً عاملاً مفيداً في جسم الإنسانية.
الاشتراكية والديموقراطية والجمهورية والملكية ليست إلا مذاهب ونظريات لها أحزاب في كل بلاد، لذلك لا يمكن أن يكون وجود مثل هذه الأحزاب في ألمانية دليلاً على أنّ ألمانية ليست أمة. فالمذاهب والنظريات والمبادىء لها دخل في حياة كل أمة حية من أمم العالم لأنها أقسام من عقول البشر المفكرين كلهم مجموعة، فلا يمكنك أن تنفيها من أمة ما إلا إذا نفيت وجود عقول مفكرة في تلك الأمة.
بناءً على هذه النظرية لا يمكنك أن تقول إنّ ألمانية ليست أمة لأنه يوجد فيها مذاهب ونظريات ومبادىء. ولا يمكنك أن تحكم بذهاب أو انحياز سكسونية وهي مقاطعة ألمانية إلى روسية لأن روسية إشتراكية، والمبدأ الغالب في سكسونية الاشتراكية. فالاشتراكية مذهب عالمي غير مختص بروسية ليترتب على من قِبلَه أن يصبح روسية. والحقيقة أنّ ألمانية أحق بمذهب الاشتراكية من روسية لأن ماركس أب الاشتراكية ألماني، ومثل الاشتراكية المذاهب والمبادىء الأخرى كالديموقراطية والأرستوقراطية وغيرهما.
إنّ ألمانية أمة كبيرة عظيمة، ولئن تكن السياسة قد قطّعت أواصر دولتها الاتحادية فإنها لا يمكنها أن تقطّع أواصر وحدتها الاجتماعية. وستبقى ألمانية أمة ما بقيت الأمم. فإذا حدث أمر يفيد عكس ذلك كالانفصال والاتصال والنزعات وغير ذلك، كان ضرباً من التقلبات الوقتية التي لا تمس جوهر الأمة. وإننا نذكر هنا حادثة تثبت ما ذكرناه وهو أنه بعد انتهاء الحرب الأخيرة بزمن قصير حدث في النمسة، وهي تؤلف جزءاً من الأمة الألمانية، تصويت للانضمام إلى ألمانية وتأليف وحدة ألمانية عامة، فكانت الأكثرية الساحقة في جانب هذه الفكرة، ولكن الحلفاء خشوا من وراء ذلك ما لا تحمد عقباه، فأبطلوا التصويت ومنعوا الاتحاد.
أما مسألة أنه ما زالت ألمانية دولة وأمة فإنها تظل تشعر أنها مضطهدة ومنكودة ولا بدّ لها من أن تعمل على الانتقام من مسببي ذلك الاضطهاد والنكد، فأمرٌ كانت ألمانية وكان العالم كله في غنى عنه. ولكن التعاسة التي تعانيها ألمانية اليوم ليست بالشيء الهيّن، فإذا تمكنت يوماً ما من الانتقام من العاملين على اضطهادها ومسببي تعاستها لا تكون هي ملومة على الإطلاق، بل تكون قد فعلت ما يخوّلها الشرع وناموس الحياة فعله في مثل هذه الظروف.
أنطون سعاده
المجلة، سان باولو
السنة 9، الجزء 12، 1/1/1924