السياسة الخارجية – المعاهدة السورية
لم يكن يدور في خلدنا أنّ نظرة سعاده في أعمال وطنيي الشام المؤسسة على المفاوضات وإغفال إمكانيات التنظيم القومي وتوليد الحيوية القومية تكون بهذه الدقة من تشخيص الحالة وتبرهن على أنها صائبة مستمرة إلى اليوم وما بعده. فقد كنا في عداد الذين يظنون أنّ ما يقال في بُعد نظر سعاده مبالغ فيه، ولكننا الآن أمام أمر واقع يؤيد كل التأييد ما ذهبنا إليه في العدد الثالث والعشرين الصادر في العاشر من هذا الشهر (ص 245 أعلاه) من ضعف الموقف السوري في صدد المعاهدة السورية ـ الفرنسية. وهو الضعف المتولد من سياسة الحكومة الكتلوية الداخلية المنفرة العناصر والأحزاب التي شرحها في أكثر من مقالة الكاتب السياسي تحت “رأي النهضة”.
أما هذا الأمر الواقع فهو تأجيل لجنة الانتدابات النظر في المعاهدتين السورية ـ الفرنسية واللببنانية ـ الفرنسية. وحكاية هذا التاجيل على ما جاء في إحدى البرقيات تعزوه إلى تخلف رئيس اللجنة والعضوين الإنكليزي والهولندي بسبب المرض. وفي رواية هافاس أنّ اللجنة اجتمعت وعرض في اجتماعها روبير دوكه كيفية عقد المعاهدتين مع الشام ولبنان وكيفية تنفيذهما، وأنها قررت “استناداً إلى النتائج التي حصلت عقيب عقد المعاهدة البريطانية ـ العراقية” عدم استعدادها في الوقت الحاضر للحكم في قضية تحرير الشام ولبنان “لأن الحكومة الفرنسية لم تطلب إليها ذلك؟.
إذن سيؤجل النظر من قبل الجمعية الأممية في تحويل الانتداب الفرنسي إلى معاهدتين مع الشام ولبنان. وواضح من أسباب التأجيل أنّ النظر متجه إلى الداخلية خصوصاً، فالنتائج التي حصلت عقيب عقد المعاهدة البريطانية ـ العراقية وتشير إليها اللجنة هي حصول المسألة الأشورية التي انتهت بتشريد هؤلاء القوم. فقد اصطبغت هذه المسألة بصبغة حقوق الأقليات وسلامتها. وسلامة الأقليات كثيراً ما تكون حجر الزاوية في بناء بعض الهياكل الاستعمارية.
وإذا قيل إنّ سورية غير العراق ولا يجوز أخذها بجريرة تلك، أشار ذوو المصلحة في الأمر إلى حوادث لواء الجزيرة الأخيرة متخذينها دلائل تنذر بعواقب شبيهة بالمسألة الأشورية في العراق.
هذه القضية موجهة بالأكثر إلى الشام لا إلى لبنان، لأن قلاقل الأقليات حدثت في لواء الجزيرة الذي تتضارب فيه المصالح حول استثمار منابع البترول.
وتجاه هذه القضية الخطيرة تقف حكومة الشام وتقول “إننا قد وُضعنا أمام أمر راهن ونحن نفعل كل ما في طاقتنا”.
بمثل هذا القول تحاول حكومة الشام أن تستر عجزها عن معالجة حالة راهنة تقدمت لمواجهتها. وإنّ من السهل جداً رمي العجز على “الأمر الواقع”. ولكن الحقيقة تبقى واضحة في أنّ الحكومة تفعل كل ما في طاقتها، وما تفعله لا يجدي ولا يوجد سبيلاً لإنقاذ الموقف والخروج من المأزق.
إنّ سر العجز في سياسة الحكومة الكتلوية هو في أنها سياسة تحزبية الوجهة القومية فيها ضعيفة. فهي في الداخل تقوم على نعرة دموية موهومة فتوجد من الجماعات الآخذة في الاندماج في جسم الأمة وقوميتها أعداء للحكم الوطني وعلى أساس فاسد في مفاوضات المعاهدة الأساسية التي بدأت على أساس مطاليب سنة 1928 والتسرع في الأمور، بل التهور.
ومما لا شك فيه أنّ إيجاد أعداء للحكم الوطني ضمن الوطن في مثل هذه الظروف يُعدُّ سياسة خرقاء. فضعف موقف الدولة الشامية يأتي من هذه الناحية. ولو سلكت حكومة دمشق مع الأحزاب القومية الصحيحة مسلكاً غير هذا لفسحت المجال لتعاون عناصر مخلصة للقضية تتمكن من تثبيت الحكم الوطني والتغلب على الحركات العنصرية في لواءَي الجزيرة والإسكندرونة.
ولكن الحكومة في دمشق لا تزال تثق بسياسة المفاوضات وإهمال أساس الكيان القومي.
النهضة، بيروت،
العدد 25، 11/11/1937