بين الدين والدولة
إن النتيجة النهائية التي وصلنا إليها في الحلقتين المتقدمتين وهي: أن الدينين المسيحي والإسلامي متفقان كل الاتفاق في الأغراض الدينية الأخيرة، وأن الواجب على اتباعهما يقضي بترك محاربة بعضهم البعض ومحاولة إخضاع بعضهم بعضاً، لا توافق رجال السلطة الروحية من الملّتين ولا رجال النفوذ السياسي المبني على المذهب والملّة.
فرجال الدين من الملّتين لا يقبلون الاعتراف بأن الدينين صحيحان، فكل فريق يدّعي أن دينه هو الصحيح وأن خلاص النفوس لا يتم إلا به. ومما لا شك فيه أن هذا البحث ليس موجهاً إلى رجال الدين أنفسهم، بل إلى الخاصة والعامة من العلمانيين، فإذا كان رجال الدين قد وقفوا أنفسهم عليه فإن الدين لم ولن يقف نفسه عليهم.
إلى جميع الناس، غير رجال الدين، نوجه هذه الدعوة: لنترك رجال الدين يتناظرون ما شاؤوا المناظرة في أي الأديان أصحها، بشرط أن لا يتعدوا حدود المناظرة إلى تهيج الغوغاء والسُذَّج وغرس الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد باسم الدين.
إن هذه الدعوة تعني ترك العصبية الدينية واعتناق العصبية القومية التي تجعل جميع السوريين، مسلميهم ومسيحييهم، عصبة واحدة.
هذه الدعوة هي التي يحملها في سورية الحزب السوري القومي. وقد اصطدمت هذه الدعوة بمقاومة من الملّتين المسيحية والإسلامية. أما حجة أبناء الملّة المسيحية فكانت أن الوحدة القومية تعيد المسيحيين إلى عهد الخضوع لدولة إسلامية لا حقوق مدنية وسياسية فيه للمسيحيين. وهذه أقوى حجج المدنيين المسيحيين باستثناء بعض المهووسين الذين يدسون هنا وهناك عبارات الكره والحقد على المسلمين، واكتفوا بالدسّ، ولم يقدروا على تقديم نظرية يمكن أن تكون شبه عقيدة. وأما حجة أبناء الملّة المحمدية فكانت ذات نظرية مؤسسة على نصوص دينية كالتي عالجنا بعضها في ما تقدم، وقال بها رجلان خطيران كالسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده اللذين استند إلى أبحاثهما أكثر المسلمين الذين يقاومون نشوء القومية في سورية لتكون رابطة تحلّ في الاجتماع والحقوق محل الملّة. ولما كان هذا البحث مختصاً، بالأكثر، بمناقشة أصحاب هذه النظرية التي صفق المسلمون كثيراً في المهجر لرشيد سليم الخوري الذي تحزّب لها لغاية في نفسه، فسنتابع المناقشة لنصل إلى نتيجة حاسمة.
ولكن لا بد من زيادة إيضاح للأسباب الداعية لتخصيص معظم هذا البحث بالوجهة الإسلامية. وأهم هذه الأسباب هو طبيعة كل من الدينين واتجاهه. فالمسيحية نشأت نشأة دين بحت مجرد من شؤون الدولة والحكم. فقد اختص الدين المسيحي بالأفراد ومعتقداتهم ومناقبهم. أما الدين الإسلامي فقد بيّنا، فيما تقدم من حلقات هذا البحث، أنه اضطر لأخذ طبيعة البيئة التي نشأ فيها بعين الاعتبار. وطبيعة البيئة اقتضت إيجاد الدولة لتكون وسيلة لإقامة الدين. ولما كان غرض الدولة إقامة الدين كان لا بد أن يكون أساسها، فهي وجدت بالدين لإقامة الدين. ومن هذه الضرورة الخاصة بالبيئة العربية نشأ هذا الارتباط الوثيق بين الدولة والدين في الإسلام، حتى التبس أمر كليهما حتى على أكبر المفكرين المسلمين. ولهذا السبب نجد مسألة الفصل بين الدين والدولة في الملّة الإسلامية أصعب حلاً منها في الملّة المسيحية، لأن الدولة موجودة في النصوص القرآنية كما هي موجود في نصوص التوراة. ولكنها ليست موجودة في نصوص الإنجيل. وبناءً على النصوص القرآنية أمكن صاحبي (العروة الوثقى) القول: «إن لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم»1، والقول مخاطبين المسلمين: «هل نسوا وعد الله لهم بأن يرثوا الأرض وهم العباد الصالحون؟»2، والقول: «الديانة الإسلامية وُضعَ أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح والعزة ورفض كل قانون يخالف شريعتها ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها»3، والقول: «ومن الأوامر الشرعية أن لا يدع المسلمون تنمية ملّتهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله » وذلك «لإعلاء كلمة الحق وبسطة الملك وعموم السيادة»4، والقول: «كيف ومعظم الأحكام الدينية موقوف إجراؤه على قوة الولاية الشرعية»5. وكل هذه الأقوال بعيد عن الصواب وليس فيه تدبّر صحيح لنصوص الديانة الإسلامية وتاريخها، كما بيّنا ونبيّن، بل هي جميعها نتيجة استبداد في الاجتهاد من أجل الوصول إلى أغراض سياسية مبنية على نظرة الدولة الدينية والجنسية الدينية.
تقدم قولنا إلى الرسالة الإسلامية تقسم إلى قسمين: القسم المكي والقسم المدني (راجع الحلقة 16) ثم عدنا فقلنا (الحلقة 23) إن نصوص الإسلام على وجهين: وجه في الدين ووجه في الدولة. والقسم المكي هو الأكثر اختصاصاً بالوجهة الدينية والقسم المدني هو الأكثر اختصاصاً بالوجهة الدولية. وهذا الازدواج في اتجاه الرسالة الإسلامية الذي لم يحصل له فيما مضى دراسة تجمع وجهتيه في وحدة فكرية روحية هو الذي يسهل لأصحاب الأغراض السياسية الأخذ بأي وجه أرادوا، حسبما يوافق أغراضهم، وهو ليس عيباً في القرآن، بل نقص الثقافة التاريخية الاجتماعية وعدم تدبّر الرسالة الإسلامية كما يجب.
وأصحاب الأغراض السياسية لا يريدون نشوء هذه الدراسة في الإسلام، لأنها يمكن أن تقضي على جميع محاولات استخدام الدين للأغراض السياسية والمطامع الخصوصية. فإذا ظل الإسلام بعيداً عن هذه الدراسة التكنيكية لم يخشَ هؤلاء الأراخنة افتضاح أمرهم، بعكسهم الاتجاه الأول للإسلام، فإن محمداً استخدم الدولة لإقامة الدين وجعل الدين أساساً لتنظيم شعب باقٍ في حالة همجية. أما هؤلاء الدبلوماسيون فيريدون استخدام الدين لتنفيذ المطامع السياسية.
وليس هذا جديداً في الإسلام، بل شيئاً قديماً ظهر في أطوار تاريخية كثيرة. فقد وجد المتنازعون على السلطة والسيادة أسباباً كافية في ثنائية الإسلام للمبالغة في العناد والمكابرة، حتى إنه يمكن كتابة مجلدات في هذا الباب في حجج العروبيين والشعوبيين وفي النزاع، حتى بين الصحابة والأمويين وبيت علي. ونكتفي للدلالة على سعة التلاعب بثنائية النصوص الإسلامية بإيراد هذا الحادث الذي جرى لمعاوية إذ خاطب الناس قائلاً: «أيها الناس إن الله فضّل قريشاً بثلاث فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام «وأنذر عشيرتك الأقربين» فنحن عشيرته. وقال: «وإنه لذكر لقومك» فنحن قومه. وقال: «لإيلاف قريش إيلافهم» إلى قوله: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» ونحن قريش». فأجابه رجل من الأنصار: «على رسلك يا معاوية فإن الله يقول: «وكذب به قومك» وأنتم قومه، وقال: «ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون» وأنتم قومه، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً» وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا زدناك».
هذا مثل رائع من استخدام ثنائية النص القرآني في أغراض المنافسات والمطامع وفاقاً للظروف والحالات. والذين يجدون سهولة في سلك هذا المسلك لا يريدون أن تقوم دراسة توضح أن هذه الثنائية ليست مطلقة بل مقيدة ومرتبطة بوحدة فلسفية يجب استخراجها وإبرازها بصورة واضحة، لإيجاد الاستقرار الروحي في الملّة الإسلامية لتهتم بشؤون الارتقاء الثقافي، فلا تظل معرّضة لتضحية غرض الدين في سيل غرض السياسة التي يهمها الدولة والسلطان والحكم أكثر مما يهمها الدين والارتقاء الروحي والمثل العليا والتقدم الاجتماعي.
درسنا في الحلقات المتقدمة من هذا البحث الناحية الدينية من الإسلام، وأوضحنا ما هي أغراض هذا الدين الأخيرة وأنها لا تتضارب مع الأغراض الدينية المسيحية. وأثبتنا أن النصوص القرآنية نفسها تؤكد ذلك توكيداً لا يمكن دحضه، وبذلك نكون قد أجبنا جواباً قاطعاً على السؤالين اللذين ألقيناهما في الحلقة الثالثة والعشرين وهما: أصحيح أن الدين الإسلامي لا يتم إلا بإعلائه على الأديان الأخرى وبيع المسلمين أنفسهم حتى يتم انتصار الإسلام ويعمّ العالم، وإن هذا هو غرضه الأساسي؟ وإلى أن يقودنا الاعتقاد بأن صحة الديانة الإسلامية هي في محاربة أهل الأديان الأخرى حتى يدينوا بها أو يخضعوا للمسلمين؟
إن النصوص القرآنية التي أثبتناها تنفي نفياً باتاً أن هذا هو غرض الديانة الإسلامية وإن إيجاب القرآن على المسلمين الاعتقاد بصحة الإنجيل بل وصحة التوراة أيضاً والإيمان بما ورد فيهما يقرر نهائياً أن الدين الصحيح من جهة الإسلام يقوم بالمسيحية كما يقوم به وبالإنجيل كما بالقرآن وقد نص القرآن على أن الذين «يؤمنون بالآخرة» (من أهل الكتاب: التوراة والإنجيل) لا حاجة بهم لتغيير «صلاتهم» بل هم يحافظون عليها حتى ولو آمنوا بالقرآن. وكان الأحرى بالذين يرغبون في التقدم الإنساني من المسلمين أن يتدبروا هذه الآية الجليلة من سورة الأنعام التي تسند قولنا السابق (الحلقة 25) بأن اتجاه الرسالة الإسلامية كان للاتفاق مع الرسالات السابقة والاشتراك معها على محاربة عبادة الأصنام وإقامة الدين الإلهي. فالآية المذكورة لم تطلب من «أهل الكتاب» غير الإيمان بأن القرآن كتاب يدعو إلى الله وأن دعوته صحيحة، وهي تؤمنهم على «صلاتهم» حسب كتابهم ولا توجب عليهم تغيير دينهم. وآيات قرآنية أخرى عديدة تسند حكم هذه الآية كتخصيص القرآن ومحمد بالذين لم يأتهم رسول من قبل وكانوا في ضلال مبين، وكلها ترمي إلى إزالة كل احتمال للتصادم والتضارب مع المسيحية واليهودية وإلى توحيد جهود هذه الفرق ضد المشركين عبدة الأوثان. ولو أن المسيحيين واليهود في العُربة عززوا محمداً وأيدوه ووافقوه على المشركين لكانوا أزالوا عقبات كثيرة من الطريق. وكل منصف متأمل في هذه الآيات الحكيمة وقد أثبتنا معظمها في الحلقات المتقدمة، يجد أنها فتحت وتفتح باب التفاهم واسعاً، إذا حسن القصد من المسلمين والمسيحيين على السواء. وهي تقطع على متعنتي المسيحيين حججهم الباطلة القائلة إنه لا يمكن الاتفاق مع المسلمين وكلامهم المشبع جهلاً، القائل إنه لا يمكن حصول الاتحاد القومي في سورية إلا بزوال القرآن. وهذه الآيات عينها لا تسمح، من الوجهة الأخرى، للمسلمين بالغلوّ في الحزبية الدينية، واعتبار أن مئات الأجيال البريئة يجب أن تسقط فريسة التقاطع والتناحر بسبب بعض أغلاط بعض الأولين. وفيما يختص بالمسيحيين في هذا الباب نجد أن القرآن شهد لهم بصدق الوجدان وأنهم لم يكونوا مع المسلمين كالمشركين ولا كاليهود فبعد الآية التي أثبتناها آنفاً التي جاء فيها {ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى}1 تأتي هذه الآية {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}2. ومتى علمنا أنه وجد في العُربة مسيحيون لم يفهموا من الإيمان المسيحي أكثر مما فهم مسلموها من الإيمان الإسلامي لأنهم كانوا أعراباً جهلة مردوا على النفاق، اتضح لنا كم هو فاسد الالتجاء إلى الحجج القديمة لاستمرار الفتنة الدينية.
ولقد قلنا إن مسألة مذاهب المسيحيين في العُربة يجب أن يفرد لها درس خاص لا يشمل موضوعه المسيحيين المتمدنين، يؤيد هذا القول أن علي بن أبي طالب استثنى نصارى بني تغلب من حكم آية المائدة3 التي حللت للمسلمين طعام «أهل الكتاب» والتزوج من نسائهم فقال فيهم: «ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر» فكم يصدق على كثير من نصارى العرب تأويلهم ولادة المسيح وكلام الإنجيل وخصوصاً قضية تثليث الأقانيم؟
بناءً على ما تقدم يصح أن نسأل الذاهبين مذهب السيد الأفغاني والشيخ محمد عبده في تأويل الدين الإسلامي: هل ماتت جميع هذه الآيات السُنيَّة في القرآن؟ أو هل نسخت بآيات أخرى يدل ظاهرها على أنه مخالف لها فأصبحت باطلة؟
إن ثنائية النص القرآني ليس معناها أنه يوجد للرسالة الإسلامية خطتان متباينتان ومستقلتان الواحدة عن الأخرى استقلالاً كلياً، بحيث يجوز للمؤمن أن يختار إحداهما مرة والأخرى مرة أخرى كما يروق له أو يوافق مصالحه أو مطامعه، بل معناها أن هنالك وحدة كامنة بين نوعي النص الإسلامي. وإن هذه الوحدة يجب أن تستخرج من مبدأ ترابط الأسباب والمسببات ومن معرفة نسبة الواسطة إلى الغاية، ومن درس العلاقة الوثيقة بين النص القرآني والأسباب الموجبة أو الحوادث الجارية. فإذا لم يتجه الاجتهاد إلى استخراج هذه الوحدة بهذه الطريقة الاستقرائية، التحليلية، فلا مهرب من الوقوع في مغالطات الهوس الديني السياسي الذي كثيراً ما يضحّي حقيقة الدين على مذبح الأهواء الجامحة، ويطوّح بالمسلمين في مغامرات لا تعود على دينهم بفائدة ولا على دنياهم بخير.
على هذا الطريق السلبي سارت مدرسة السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده فغررت بجماعات كثيرة من المسلمين في مصر وسورية والعراق والهند وإيران وأفغانستان، وكانت نتائجها خيبة تلو خيبة. فإن مبدأ «الجنسية الدينية» للمسلمين نسف من أسّه، فالإسلام لم يكن أحسن حظاً من المسيحية في توحيد الأمم باسمه. فالأتراك لم يقبلوا تضحية جنسيتهم الاجتماعية في سبيل «جنسيتهم الدينية»، ولم يقبل بذلك الفرس ولا أية أمة إسلامية أخرى استيقظت لوحدتها الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الجغرافية ــــ السلالية، ولمطامحها ومثلها العليا المنبثقة من هذه الأصول والعوامل. فذهبت صيحات الكاتبين الأفغاني وعبده في سبيل الوحدة الإسلامية أدراج الرياح ولكنها تركت أثراً سيئاً في الذين تعلقوا بها في سورية وأقطار أخرى فغررت وطوّحت بهم وراء نظرية فاسدة شغلتهم عن طلب وحدتهم القومية فسبقتهم إليها الأمم التي لم تستسلم لهذا الإغراء، حتى إن تركية ومصر والعراق تفاهمت على خسارة السوريين لواء الإسكندرونة للأتراك ومنطقة الموصل للعراق، بل إن العراقيين اتفقوا مع الفرنسيين على تجريد حدود سورية من ناحيتهم من مواقع استراتيجية فأخذوا من الحدود السورية جبل سنجار لقاء قطعة أرض لا تفيد لوقاية ولا لإنتاج.
إن نظرية مدرسة الأفغاني وعبده القائلة بالجامعة الإسلامية والدولة الدينية و«الجنسية الدينية» للمسلمين تقول إن الإسلام دولة وإن النصوص الدولية للإسلام هي الدين، فدعوة هذه المدرسة هي إقامة دولة الدين «ومنازعة كل ذي شوكة في شوكته» ومحاربة الأديان الأخرى ليرث المسلمون أرضها، تأويلاً لما ورد في القرآن، وإلى جعل قاعدة الإيمان القتال. فالمؤمن لا يكون صحيح الإيمان حتى «يكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يراعي في ذلك عذراً ولا تعلة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله»1 .
والحركة التي توجه هذه الدعوة إليها هي «جمع كلمة المسلمين» فيطلب السيد الأفغاني من العلماء «أن يسارعوا إلى هذا الخير وهو الخير كله!»2.
الحقيقة أنه إذا كان هذا هو الخير كله في الإسلام لهذه المدرسة الفكرية فمذهبها الصحيح هو: الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، وأن آيات التحريض على القتال وإظهار الإسلام «على الدين كله»3 قد نسخت الآيات الزكية الهادئة التي ترفع القيمة الروحية على القيمة المادية وأبطلت حكمتها.
وبناءً على مذهب هذه المدرسة الفكرية الإسلامية يجب على المؤمنين نبذ مثل هذه الآية وهجرها: أُدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن أن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}4 (النحل، مكيّة)، ومثلها: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}5 (العنكبوت، مكيّة)، ومثلها: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}1 (الفرقان، مكيّة). فهذه الآيات وغيرها كثير مما أثبتناه من قبل ومما لم نثبته ليست من الخير في شي، في عُرْف مدرسة الدولة الدينية والجنسية الدينية، لأنها لا تقول إن: «كل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله » فالآية المثبتة فوق القائلة إن الله غني عن العالمين هي آية كاذبة وكذلك الآية القائلة بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة فهي باطلة والمؤمن الذي يعمل بها يكون في عُرف هذه المدرسة منافقاً.
فالدين، لهذه المدرسة وأضرابها، ليس ما هو مثبت في القرآن كله وليس بالإيمان بكل ما ورد فيه بل هو ما شاءت أهواؤهم ومذاهبهم وبالإيمان ببعض الكتاب دون بعض أو بالإيمان ببعض الكتاب مرة، وببعضه الآخر مرة أخرى في تقلّب دائم.
إننا نعلم أن هذه الحجج القاطعة التي أوردناها لا تسد جميع أبواب الجدل في وجه أتباع مدرسة الجنسية الدينية، وكأننا نسمع بعضهم يقولون: إذا كانت آيات القتال ونصرة الله لا تبطل آيات الدعوة بالحكمة والموعظة والاكتفاء بالإرشاد والإنذار وسلك طريق الإقناع، فهل تبطل هذه الآيات الأخيرة آيات القتال ونصرة الله؟
وجوابنا: كلا وألف كلا، فبعض آي الكتاب لا يمكن أن يبطل بعض آية إلا للذين لا يتدبرونه، فإذا أخذهم الهوس والزيغ عن كلمة الحق هاجوا واحتجوا ببعض الكتاب وعموا عن بعضه، وقالوا إن الخير كل الخير في الأخذ بآيات معينة والإعراض عن آيات معينة حتى يتم القول: {أم على قلوب أقفالها}2.
إن القتال فرض على المسلمين لإقامة الدين حيث يوجد من يريد إبطاله، أي حيث يكون نزاع ديني كالذي جرى في العُربة مع أهل الشرك. أما حيث لا يوجد شرك وحيث النزاع قائم بين مجتمع ومجتمع، بين أمة وأمة، بالمعنى الاجتماعي، فالدعوة إلى الجهاد الديني لا تدل إلا على عقلية أولية كعقلية العرب الذين لم يفهم معظمهم من المسيحية غير شرب الخمر ولا من الإسلام غير طلب الغنائم.
في الحلقة التالية سنبحث نصوص الإسلام كدولة، وكيفية فهم هذه النصوص فهماً صحيحاً لا يطوح بالدين ولا بالملّة.
هاني بعل
للبحث استئناف
(الزوبعة)، بوينُس آيرس
العدد (32)، 15/11/1941