خطاب رئيس المجلس الأعلى حول رخصة الحزب القومي في اجتماع منفذية بيروت العام
خطاب رئيس المجلس الأعلى حول رخصة الحزب القومي في اجتماع منفذية بيروت العام
بتاريخ 7 مايو/ أيار سنة 1944
من دائرة الإنشاء: أخيراً غلب الحق الذي لا يغلب وهرب من لبنان ذاك المجنون بالعظمة الذي تعهد للسلطة الفرنسية بتشريد الحزب السوري القومي الاجتماعي ورجاله، الطاغية إميل إده، وانكسرت جميع تلك الإشاعات القريبة التي لفّقها عبيد الاستعمار ليغشّوا بها الشعب في صدد حقيقة الحزب السوري القومي الاجتماعي، واضطرت حكومة لبنان للاعتراف بهذا الحزب ضمن غايته والترخيص له ليعمل علناً، ممارساً حقوق عضوية الدولة وحرية الفكر التي جاهد هذا الحزب مدة الإثني عشرة سنة الماضية لجعلها حقوقاً عامة لجميع أفراد الأمة.
وعملاً بخطة الحزب السياسية الحكيمة في معالجة الأوضاع التي أوجدتها ظروف لايمكن إغفالها، المعلنة في شرح غاية الحزب وفي تصريح للزعيم في صدد حالة لبنان، ومنعاً لتعكير الحالة السياسية فى لبنان، قررت دوائر الحزب العليا تطبيق سياسة التمهيد المتوسطة بين المركزية واللامركزية بالعمل في اجزاء سورية ضمن هذه الأجزاء للسير بها رويداً نحو إدراك الغاية الأخيرة الكبرى التي ترفع الأمة السورية من حضيض القطعان إلى مرتبة أمة حية ذات شخصية في مجتمع الأمم الراقية ذات الشأن.
وقد تناولت الصحف والألسن، في الوطن والمغترب، هذا الحدث الجديد الذي لم يكن متوقعاً عند غير العارفين الذين كانوا يطالعون أغرب الافتراءات عن أمر الحزب ودخائله. ولم يكن قليلاً عدد السوريين في المغترب الذين تعجبوا كيف أنّ هذا الحزب الذي رُمي بأغرب التّهم بعلاقات شائنة مع ألمانية وإيطالية يُفسح له مجال العمل في الوطن بعد احتلال سورية من قِبَل الذين حاربوا المانية وإيطالية أشد الحرب!
ما هي قيمة الرخصة اللبنانية لعمل الحزب بحرية في لبنان وكيف يجب أن تُفهم عند القوميين وغير القوميين؟
هذا سؤال خطير لم يَفِتْ نظر حضره رئيس المجلس الأعلى الأمين نعمة ثابت فألقى الخطاب الآتي نصه الذي يُظهر مرة أخرى للناس عمق شعور الحزب السوري القومي الاجتماعي بمسؤوليته ورسالته، وسمو نظرته إلى عمله وحالة الأمة والوطن. قال الأمين الرئيس:
أيها القوميون
إننى بهذه المناسبة أعلن لكم رسميًّا ما تكونون قد سمعتموه بالتواتر من أنّ الحزب قد استحصل في الثاني من مايو/أيار الحالي على رخصة رسمية بالعمل. إنّ قسماً منكم قد رافق تطور المفاوضات التي أدت إلى
النتيجة الحسنة، واطلع أيضاً على الجهود التي بذلت في هذا السبيل في الثلاثة الأشهر الأخيرة.
لكنني لمست أثناء سير هذه المفاوضات اتجاهاً عند البعض لتفسير سعينا الحثيث في سبيل الرخصة بأن هنالك اقتناعأً فى أنّ أمر الحصول على هذه الوثيقة أمر أساسي يتوقف عليه بقاء الحزب أو زواله. ولكنني، لكي لا أترك مجالاً لتأويل هذا العمل وتفسيره بصورة كيفية غير مستندة إلى نظرة مبدئية عميقة، رأيت أن أغتنم فرصة هذا الاجتماع العام لكي أعيّن بالضبط قيمة الرخصة فى عملنا الحزبي، فلا يبالغ بأهميتها من قِبَل الذين يتمسكون بفكرة ضرورة العمل بموجبها ولا يقلل من أهمية الرخصة من قِبَل الذين لا يرون لها ضرورة.
إذا أردنا نعيّن أهمية الرخصة، يجب أن لا يغيب عن بالنا أنّ الحركة القومية لم تظهر إلى الوجود فقط منذ خمسة أيام، أي منذ أخذ الرخصة، كما وأنني أعتقد أنكم توافقون معي أنّ وجودكم هنا يرجع الفضل فيه، بالدرجة الأولى، إلى صفات المثابرة والثبات التي امتازت بها نهضة الحزب القومي في السنوات العشر الأخيرة. ومما لا شك فيه أنّ الحزب القومي يجب أن يفتخر بكونه نشأ وتطور حتى أصبح حركة قومية تفعل بقوة وعزم في صميم حياة الأمة دون أية حاجة إلى مأذونية قانونية. فدلّ على أنه ليس وليد المناسبات والحوادث الطارئة، ودلّ أيضاً على أنه لم يؤسس بدافع الغيرة من سواه من الأحزاب، بل ولد تلبية لحاجة قومية ماسة، ولد لكي يبرز شخصية أمة كادت أن تشوهها تيارات “النهضة الرجعية”.
فيتضح من ذلك، أنّ عملاً اجتماعيًّا شاملاً جباراً كعمل الحزب القومي لا يمكن أن يوجد بالاستناد فقط إلى رخصة حكومية، لان حركة الحزب تمثل نهضة شعب وكل ما تشتمل عليه من العمل على رفع القيم الأخلاقية والثقافية والمدنية.
إنّ عملاً هذا نطاقه يحتاج إلى ترخيص من الشعب نفسه وقانونيته تستند إلى إرادة الشعب وسيادته القومية. فعليه يكون قد عمل الحزب القومي في الماضي بناءً على موافقة أعلى مصدر لكل سلطة في الدولة – سلطة السيادة القومية. ولم تكن الاصطدامات التي حصلت بين الحزب والسلطات الحكومية في الماضي، إلا عراكاً طبيعيًّا بين شعب يشعر بحقه في السيادة ويعتزم ممارسة هذا الحق وحكومات عاصية على إرادته وحقوقه، والآن عندما انتهى دور الحكومات العاصية، وأتت حكومة تتمتع بثقة وتأييد شعبي اشترك الحزب القومي اشتراكاً فعليًّا بإيصالها إلى الحكم، اعترفت هذه الحكومة للحزب القومي بحقه في ممارسة الحقوق والواجبات المدنية التي بعدم وجودها لن يكون للاستقلال معنى. فإننا نستطيع أن ندرك الآن أنّ القوة الدافعة للحركة القومية في عملها الإصلاحي التنظيمى الجبار ليست في الورقة التي حصلنا عليها منذ بضعة أيام، بل تنجسم هذه القوة الدافعة في مجموعة التقاليد والفضائل التي تكونت بإثني عشر عاماً الجهاد والاختيار. أما الآن فإننا سنمرّ بفترة من التسهيلات القانونية قد تثير إقبالاً على الحركة القومية. فبهذا الصدد، أريد أن اقول لكم وللذين تغرّهم هذه التسهيلات إنّ الشعب الذي يريد أن يكتسب تاريخه بنفسه ويملك زمام مصيره، عليه أن ينحت طريقه فى صخور الصعوبات والمعاكسات، لا أن يؤجل العمل في سبيل رقيّه وحريته إلى الظروف السهلة الهينة، خصوصاً وأنّ هذه الظروف لا تأتي بمجرد انتظارها لأنها ليست إلا وليدة جهود مستمرة منتظمة. إنّ الأمم التي تتمتع بنعيم الظروف المؤاتية هي الأمم التي حطمت في الماضي بفضائلها المعنوية وقواها المادية ظروفها المعاكسة. فإلى الذين يريدون أن ينتظروا مجيء الأيام السهلة لكي يعملوا لبلادهم أقول إنّ من استطاع تحقيق أمر في أيام الشدائد لن يحتاج إلى مساعدة في الأيام المؤاتية”.
الزوبعة، بوينُس آيرس،
العدد 85، 10/8/1945