رأي النهضة – قضية الأحزاب الببغائية في المجلس 3
العجب العجاب
في المجلس النيابي أظهر السيد توفيق لطف الله عواد أنه صدّق واقتنع بأنه “الرئيس الأعلى” لحزب “الوحدة اللبنانية” المخترع وقائد الخمسة والعشرين ألفاً من الشباب، كما صدّق السيد بيار الجميّل أنه قد أصبح “الرئيس الأعلى للكتائب اللبنانية” المخترعة وقائد الخمسين ألفاً من الشباب، حين وقف في نفر من المخدوعين، المتوهمين أنهم يعملون لمصلحة قومية أو شعبية، مهدِّداً بجُمع يده الحزب السوري القومي الذي شق طريق النهضة القومية وأيقظ الأمة وحرك الشعب الغافل المستكين.
وتبارى “الرئيسان الأعليان” في قلة الحياء وتصلب الجبين. فلم يخجل السيد الجميّل وزملاؤه الذين كانوا آلات إنشاء “الكتائب” من التغرير بالشباب ليكونوا صنائع الإرادة الأجنبية العاملة في الخفاء، ولم يتنكّب عن خداعهم بإيهامهم أنّ “الكتائب اللبنانية” تمثّل فكرة أصلية منبثقة من عقلية تفكر باستقلال وتجرّد، وأتى هو وزملاؤه بتشابيه كلامية ومجازية كثيرة لتأييد وهمهم وإلباسه لباس الحقيقة. فاستخدموا كل نعرة دينية وكل بقية من تعصب أعمى حقير، ووضعوا المآرب الصغيرة والأغراض الدّنيّة المستعجلة أمام أعين الشباب السليم النية، ليجمعوا صفوفه حول أفكار عتيقة متهرئة تخدم مصلحة الأجنبي الطامع وتبقي الأمة مجزأة. وكذلك لم يخجل السيد عواد من ادعاء الباطل في خطاب أبى الحق فيه إلا أن يزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقاً.
وقد اقتبس “رؤساء الأحزاب اللبنانية” عن الحزب السوري القومي اللهجة والتعابير التي تناسب التشبيه الذي يجري بواسطتهم. فنقلوا تعابير زعيم النهضة القومية التي وصف فيها حيوية النهضة فرددوا من بعده هذه الأقوال “ليس في العالم قوة تستطيع صد تيار النهضة السورية القومية، إنّ إرادتنا ستغيّر وجه التاريخ! إنّ نهضتنا تشق طريق الحياة لأمتنا” وغيرها. وأوعز أولياء الأمر بتأييد هذه الشعوذات والتصفيق للهياكل البشرية المستخدمة لها. فظن الذين شاءت الإرادات ذات المصلحة أن تستخدمهم “رؤساء” “وقادة” أنهم أصبحوا رؤساء وقادة بالفعل وأخذوا يحاولون الظهور بمظهر يليق بالتشبيه المختارين له. فقام أصحاب الوحدة اللبنانية يتكلمون عن “شق الطريق”، ووقف رئيسهم في المجلس يقول “سرنا وسارت وراءنا الألوف” ويُعْلَوْلي ويقول “خلقنا”، ووقف الأستاذ يوسف السودا صاحب “الجبهة القومية”يتكلم بعبارات “القوة” ومعاني “الإرادة”، ووقف صاحب “الكتائب” يقول “نحن نسحق!”
أما الأستاذ السودا فكان كلامه متمرن في المحاماة بطيء عن الجلّي. وأما السيد الجميّل فقد كاد يسحق رأسه هو نفسه في مظاهرات الحادي والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي التي اقتيد فيها عدد من الشباب إلى الهياج والفوضى والتقتيل بدون مبرر. وأما السيد توفيق عواد المنبثق من لطف الله، فقد نفخته المظاهر الفارغة وسوّلت له نفسه التفوق على الآلهة الكلية القدرة، وحدثته بأن يفعل ما عجزت الآلهة نفسها عن فعله، فادعى أنه يستطيع خلق شيء من لا شيء، فتوهم وأراد أن يحمل آخرين على التوهم أنه يقدر على “خلق روح وثابة” من روح خاملة خانعة متسكعة.
إنّ السيد عواد أراد أن يَبِزَّ زميله السيد جميّل الذي كان معه في زحام شديد على التفوق في بطولة الاصطناع، فلم يكتفِ كهذا بتهديد الأبطال من لحم ودم، بل أقدم على مهاجمة الآلهة نفسها. فوقف في المجلس النيابي يتحداها بإعلان نبأ خطير مادت له عروش الآلهة فوق طور سينا وأولمب، وكادت تهوي إلى الأرض وتتحطم عند اقدامه، ألا وهو خبر خلق الكلّي القدرة توفيق بن لطف الله شيئاً من لا شيء.
ولكن العروش عادت فاستوت وجزع الآلهة فصار طمأنينة حين أدت هذه المحاولة الهائلة إلى هذه النتيجة الهزيلة الساقطة عند أقدم الأبطال ألا وهي: أنّ الحكومة أمرت موظفيها بتشكيل الأحزاب “اللبنانية” وإعطائها مظهراً يوهم القوة.
على أنّ السيد عواد لم يكد يفرغ من محاولته التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، حتى فاجأنا بتصريح خطير أخير وضع فيه زبدة منطقه:
“تقول الحكومة إنّ لأحزابنا صبغة طائفية. إنّ مجلسكم ودستوركم وكل شيء في هذه البلاد مبني على الطائفية. إنزعوا الطائفية من أنظمتكم قبل أن تطلبوا من الشباب نزع الطائفية من صفوفه”.
هذه الروح الوثابة التي “خلقتها” الأحزاب التي يتكلم باسمها واسم “ألوفها” السيد توفيق لطف الله عواد.
النائب المعيَّن السيد عواد يقرّ ويعترف بأن الأحزاب التي يتكلم باسمها قد نشأت ونمت بإعاز من فوق، وأنّ “الظروف السياسية” قضت أن تكون هذه الأحزاب في جهة “وإخواننا المسلمون” في جهة ثانية، وفيما هو يقول “قمنا ندعو اللبنانيين إلى التآخي والوحدة. وخلقنا روحاً وثابة” يعود فيتقلص بعد ذلك الامتداد ويقول بروحه الطائفية أو المذهبية “الوثابة”: لماذا تلوموننا على كوننا طائفيين ومجلسكم ودستوركم وكل شيء في هذه البلاد مبني على الطائفية؟ فإذا كنتم أنتم أنفسكم طائفيين افلا يليق بنا أن نكون نحن كذلك طائفيين ونحن إنما نصدر عنكم ونقتدي بكم؟ وما نحن إلا طوع للمشيئة العليا في كل الظروف السياسية وغير السياسية. فإذا كنا نعجز عن مداواة الطائفية ونفيها من الصفوف التي ترتبت كما بسحر ساحر فلنا في عجزكم أنتم أنفسكم عذر كان يجب أن يكون شفيعاً لنا عندكم. فإذا كنتم بالحقيقية تريدوننا لا طائفيين وعاملين للإصلاح القومي فإنما تطلبون منا ما لا وجود له عندنا وليس شيء منه فينا. لماذا تكلفوننا ما لا قِبَل لنا به؟ أنتم تعلمون جيداً أننا لا نستطيع فعل شيء من عند أنفسنا وأننا نحاكي ونتقلد فقط. فلا لوم علينا من هذه الجهة ولا تثريب. وبعد فقد جئنا نقرّ بعجزنا صاغرين. والأمر لوليّه أفندم.
هذا هو العقم الباهر الذي ادّعى أنه “خلق روحاً”!
هذا هو العجز الفاضح الذي ادّعى أنه أتى العجائب!
هذه هي السخافة التي تحقّر المدارك البشرية!
هذه هي الشعوذة التي تهبط بمواهب الشعب ومزايا الأمة إلى حضيض الصغارة!
هذه هي الجهالة المضجة. ويا ليتها كانت جهالة صامتة!
هذا هو الشيء المخلوق وهذا هو الكائن الخالق. فما أقبح المخلوق وما أحقر الخالق!
بهذا المثال وبهذه الشهادة تميّز الإنسان العاقل من الحيوان الناطق!
وبضدها تتميز الأشياء.
لقد سمعنا كثيراً فما صدّقنا حتى نطق النائب عواد فجاء بالعجب العجاب!
1937