شخصيات وكتب
كنا قد ابتدأنا ننشر تحت هذا الباب تعليقات على سلسلة الأخبار المتعقلة بالشخصيات الجديدة اللامعة الظاهرة في الحركة التي أخذت تردنا بعد حصول الاتصال مع مركز الحركة في الوطن، والشخصيات الادبية عموماً، والمنتجات الأدبية التي صارت تردنا تباعاً. ولكننا لم نتمكن من إعطاء جميع ما وردنا، حتى الآن من أخبار وكتب، حقه من الذكر والتعليق، لأن الوارد كان كثيراً ولم يكن صدور الزوبعة في السنتين الأخيرتين منتظماً. والعدد الأخير بقي في المطبعة نحو أربعة أشهر دون أن تمكن إدارة المطبعة “السلام” من حل أزمة الصف والطباعة.
ذكرنا في المقالات الماضية شيئاً من بعض الشخصيات الجديدة والآن نذكر شيئاً عن بعض المنتجات الأدبية.
الكتب التي وردتنا حتى الآن غير قليلة نعددها الآن: مصرع السمّنة للأمين عبدالله قبرصي، وهو قصة شعرية فلسفية ألّفها الأمين قبرصي في معتقل الميه وميه. حول الموقد مجموعة قصص قومية للأمين مأمون أياس، وضعت أيضاً في المعتقل. علي، أمير بيروت، رواية قومية تاريخية بطلها علي بن فخر الدين المعني للرفيق فريد مبارك وضعت أيضاً في المعتقل. حلاوة الفراق في العراق، لعبد الحليم اللاذقي. في حنايا الدرج لأحمد مكي. أبعاد لأنطون كرم، إبن زيكار، رواية قومية تاريخية جليلة تتناول حوادث وقفة صور في وجه الإسكندر المكدوني، وضعها مؤلفها الرفيق جورج مصروعه في معتقل الميه وميه. وحي الظلام ديوان شعر للأمين الأستاذ عبدالله قبرصي. معابد الريف ومن صميم لبنان لأسد الأشقر.
هذه كانت أول طائفة من الكتب الجديدة التي وردتنا، عدا عن نشرات أخرى كأعداد مجلة العالم العربي وأعداد مجلة الثقافة وفيها أبحاث جليلة وهذا العدد من الكتب غير قليل وكل كتاب يحتاج إلى قراءة دقيقة وتعليق خاص لم يتسع الوقت ولم يمكّنا تأخر صدور الزوبعة من إعطاء كل كتاب ما يستحقه من الدرس والنقد.
وقد وردتنا في المدة الأخيرة خمسة كتب هامة نذكرها الآن ونعلق على واحد منها في ما يلي وهي:
تاريخ سورية السياسي، للرفيق إدوار سعاده باللغة البرتغالية ومطبوع في سان باولو البرازيل. العقل في الإسلام، للرفيق الدكتور كريم عزقول، عميد الإذاعة السابق في الحزب القومي الاجتماعي. البعث القومي، للرفيق الأستاذ فايز صايغ، عميد الإذاعة والثقافة في الحزب القومي الاجتماعي. رسالة أم، للرفيق حافظ إبراهيم المنذر متولي تحرير النشرة الإذاعية الداخلية في الحزب القومي الاجتماعي. قدموس، رواية شعرية لسعيد عقل.
نبتدئ هنا بالتعليق على كتاب تاريخ سورية السياسي، للرفيق إدوار سعاده (بكلورية في العلوم الحقوقية والاجتماعية)، نظراً لموضوعه الذي تتجه إليه الأنظار بسرعة في عهد هذا الوعي القومي.
يقول المؤلف، في مقدمته القصيرة التي صدّر الكتاب بها، إنه استند في تأليفه إلى “جميع التواريخ العمومية” التي يجب أن نفهم منها أنها كتب التاريخ العام الأكاديمية أو المدرسية وإلى تاريخ قيصر كنتو العالمي المسهب الذي يقع في عدة أجزاء، والذي يقول مؤلف كتاب تاريخ سورية إنه أصبح المصدر الرئيسي الذي استقى منه أهم معلوماته إلى سنة 1870، ثم يقول إنّ مصادر أخرى متعددة أمدته بمواد بقية تاريخه إلى سنة 1933.
من تصريح المؤلف، في المصادر التي استند إليها، نرى أنها كانت محدودة، فقيرة، فإن كتب التاريخ المدرسية ليست صالحة مصدراً لكتابة تاريخ أمة مبعثرة أخباره بين تواريخ عدة أمم ومسرودة بأشكال استبدادية تحتاج إلى تنقيب طويل واستقصاء مضنٍ. أما التاريخ العالمي للمؤرخ المعروف قيصر كنتو فمع أنه جمع معلومات هامة عن سورية كثير منها ثابت إلى اليوم، ومعلومات وثيقة في تاريخ العالم وبالإجمال، فهو كتاب لا يمكن في هذا العصر اعتماده كل الاعتماد لأن الكثير من معلولاته قد أصبحت مصححة بالتنقيبات الكثيرة التي جرت بعد نشره، ومن المعلومات الجديدة غير المثبتة فيه قد ظهرت وأصبح من اللازم الاطّلاع عليها في تأليف كتاب من هذا النوع. فمن يريد اليوم كتابة تاريخ وافٍ من الوجهة الإجمالية السورية لم يكن له بدّ من الالتجاء إلى أبحاث المؤرخين المتأخرين والمستشرقين والمتخصصين، أمثال إدوارد ماير ومسفارو وموفرس ومللر وبركلمن ونلدكه وكيتاني وغيرهم.
ولكن المؤلف يقول إنه لا يقدّم بكتابه “مؤلفاً كاملاً”. وهذا يعني أنه اقتصر على ما تناولته يده من المصادر ليظهر منها حقيقة سورية وعظمتها من ضمن المعلومات الواردة في كتابه.
إنّ غايته الواضحة جمع ما تيسر من الحوادث التاريخية الجارية في سورية، أو المتعلقة بها، وتأويلها تأويلاً جديداً بتنبّهٍ قومي للحوادث المذكورة، فلم يكن بد من أن يعتور الكتاب نقص في المعلومات، يورث نقصاً أو غلطاً في التأويل. وإنّ اقتصار المؤلف على المصادر المحدودة التي تعتبر فقيرة في كميتها حدد له اختياره في التأويل بل اضطره لقبول الكثير من تأويل المؤرخين الذين استند إلى مؤلفاتهم من غير تحقيق في مبلغ صحتها.
لم نقرأ الكتاب كله بتدقيق بل طالعنا أقساماً منه. وقد رأينا أنّ المؤلف توفق في مهمته الرئيسية، فأكسب حوادث تاريخية كثيرة تأويلاً جديداً صحيحاًيجعل لها قيمة تاريخية جديدة لم تكن لها لولا هذا التأويل. ولكن قِدَم المصادر التي استند إليها وقتها أوجدت في الكتاب مواضع ضعف تقلل من أهمية معلوماته.
من ذلك كلامه عن العلاقات السلالية للشعوب السورية القديمة. فهو قد قبل الاصطلاحات النسبية القديمة التي لم تعد تصلح اليوم بعد وقوفنا على نتائج علم السلالات وعلم الجماعات السلالية وعلم أصول اللغات، فحسب الاصطلاحات القديمة الموروثة من التقاليد اليهودية في التوراة والتي تابعتها التواريخ العربية والافرنجية قبل نشوء علم الأنتربلوجية وعلم الإتتنلوجية وعلم العاديات وعلم أصول اللغات: نرى أنّ الحثيين الذين قطنوا شمال سورية وأنشأوا في منطقتهم دولة اشتهرت بالبأس منسوبون، حسب حكايات التوارة، إلى حثّ بن كنعان من ولد سام. وما نعرفه اليوم من التحقيقات السلالية واللغوية هو أن الحثيين جماعة آرية اللسان أتت من نواحي جبال أرمينية وطورس وهي من سلالة المفلطحي الرؤوس ولها طابع سلالي خاص. وسلالتها تختلف كل الاختلاف عن سلالة الكنعاننين (الفينيقيين) المستطيلة الرؤوس السامية اللسان. إنّ هناك صحة كبيرة في أسماء شعوب سورية القديمة وتفاعلها الحربي والاجتماعي بعضها ببعض في سورية ولكن يوجد نقص في تعيين أصولها وسلالتها ناتج عن عدم اطّلاع المؤلف على الأبحاث العلمية الأخيرة في هذا الصدد.
يمتد نقص المعلومات إلى حقيقة العبرانيين ومنشأهم. فالمؤلف يتابع جميع المعلومات التقليدية المستندة في الأصل إلى التوراة، وبعض اجتهادات المؤرخ اليهودي يوسيفس، فيروي حكاية انتقال اليهود إلى مصر وقصة ولادة موسى وحيلة إنقاذه من القتل، وهي من قصص التوراة، ويجعل علاقة لليهود في مصر بالفتح السوري لمصر وتأسيس الدولة السورية السائدة في وادي النيل المعروفة بدولة “الهكسوس”. إنّ المعلومات الحديثة لم تعد تجيز لنا قبول هذه الحكايات فلا يوجد في تاريخ مصر فرعون غرق في البحر الأحمر وهو يتبع هاربين من أرض مصر، ولا كان للعبرانيين أية علاقة قريبة أو بعيدة بالفتح السوري لمصر واحتلالها.
كذلك قبل المؤلف جميع المعلومات الواردة في المصادر التي استند إليها، المتعلقة بنشوء المسيحية والمحمدية، مع اجتهاد قليل في ما يتعلق بالمسيحية، وفي سرده لهذه المعلومات لم يراعِ أي ميل تديّني. فهو يقول مثلاً عن المسيح إنّ أباه أو والده يوسف وإنّ أمه مريم ويتكلم عنه كمفكر ومعلم وليس كإله، ثم إنه يقص القصة الإنجيلية كلها ويذكر تعاليم المسيح الإنسانية السامية ولكنه لا يتعرض لعجائبه بإنكار أو قبول. ويصورّ قيامته كوهمٍ أو تشبيه أو مجرّد اعتقاد سرى بين أتباعه. أما في كتابته عن محمد فهو يسرد كيف قضى محمد على عبادة الأصنام في العُربة، ولكنه لقبوله مرويات المصادر المحدودة التي استند إليها، وكلها أجنبية وغير موثوقة كل الثقة في جميع المواضيع يتابع المصادر المذكورة في مروياتها كل المتابعة، فقال عنه إنه كان يتظاهر بالاتصال بالسماء ووصف إكثاره من النساء خارج حدود القرآن للناس باستنكار كثير، وكذلك وصف غزواته سطحيًّا باستنكار، ولم يتعرض لتعاليم القرآن بل نقل بعض الصور الناقصةوالمشوهة الواردة في المصادر التي استند إليها، وهذا يدل على أنه لم يهتم بالتحقيق في الرسالة المحمدية ولم يقرأ من كتب المحمديين شيئاً في تفصيل رسالة محمد، ولم يطّلع على دراسات حديثة منصفة لمحمد، والمؤلف لا يعذر في هذا الفصل لأنه كان يجب عليه، على الأقل، قراءة البحث الجليل الذي أنشأه “هاني بعل” في المسيحية والمحمدية ونشرته الزوبعة منذ نحو خمس سنوات. (أنظر ج 5).
وقد ختم المؤلف كتابه بذكر تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي عادًّا هذا الأمر أهم حادث في حياة سورية، وعدد من أغراض هذه الحركة، فأشار الىتوحيد سورية المجزأة وفصل الدين عن الدولة وإنشاء قانون مدني. ثم ذكر أشياء ثانوية ليست أغراضاً معيّنة في غاية الحزب كإبطال الحريم وتعدد الزوجات.
وإن اقتصار المؤلف على تعيين هذه الاهداف للحركة القومية الاجتماعية يدل على أنه لم يتعمق في درس أهداف هذه النهضة العظيمة التي تتعدى الأشياء الخصوصية التي ذكرها، والتي تصوّر الحزب القومي الاجتماعي بأنه يجلب سورية إلى حالة التمدن الغربي فقط، فلا تكون النهضة السورية القومية الاجتماعية قد أتت بشيء جديد، مع أن مبادئ هذه النهضة قد تناولت قضايا الثقافة والفكر العليا وقضايا الاجتماع والاقتصاد، وقدّمت فيهذه الأخيرة نظريات جديدة تصلح لتأخذ عنها الأمم الأخرى وتستفيد منها, ولو أن المؤلف عرض لهذه القضايا التي تشغل اليوم أفكار قادة الأمم وعلمائها وأبرز الفلسفة الاجتماعية التي تقدّمها النهضة السورية، لكان أظهر القيمة العليا لهذا النهضة وأهمية سورية ونهضتها للعالم. وهذه أعلى حقيقة كان يجب على المؤلف العناية بها وذكرها.
وقد غلط المؤلف بعدم عرض مخطوطته على أحد من المفكرين في النهضة السورية القومية الاجماعية ومن المطلعين في الشؤون التاريخية وبعدم استشارته في بعض القضايا التي اطلاعه فيها قليل.
ويزيد غلطه ثقلاً أنه وسم كتابه برمز الزوبعة، وألوان العلم القومي الاجتماعي الذي يحمل على الظن أنّ كتابه معبّر عن الحركة السورية القومية الاجتماعية وصادر عنها، مع أنه لم يقصد إلا أن يكون الكتاب مؤيداً لمرمى النهضة بإثبات الشخصية السورية التاريخية.
إذا صحح الكتاب ونقّح من من مثل الأغلاط التي اقتصرنا على إيرادها في ما تقدم، انتفت أضرار أغلاطه وزادت فائدة حقائقه
الزوبعة، بوينُس آيرس
العدد 88، 20/1/1947