من الفرديّة إلى وحدة الرّوح
عميدة الثّقافة والفنون الجميلة الرّفيقة فاتن المرّ
ما لا شكّ فيه أنّ الثّقافة السّائدة في عالم اليوم تدعو إلى اعتناق مبدأ الأنانيّة والرّكض خلف كلّ ما يؤمّن راحة الفرد واستمتاعه بكلّ ملذّات الحياة من دون النّظر إلى احتياجات الآخرين ومعاناتهم؛ ومن المؤكّد أيضاً أنّ الأزمات تشجّع على الأنانيّة، ففي صراع البقاء غالباً ما تذوي الصّفات الإنسانيّة ويتضاءل الميل إلى التّعاضد، فيبحث كل فرد عن وسيلة للنّجاة، غير مدرك أنّ التّطلع صوب الخلاص الفرديّ هو نوع من أنواع الانتحار، فالحلول الحقيقيّة هي تلك الّتي تنقذ الجماعة لا الفرد وحده. وإن كانت الأنانيّة هي نقيصة أخلاقيّة في شخصيّة حاملها، فإنّ الفرديّة صفة اجتماعيّة سياسيّة ترتبط بعلاقة الفرد بمجتمعه، وكلتا الصّفتين نهايتهما مدمّرة للذّات كما للجماعة. فالإنسان الحقيقيّ، ذلك الّذي أطلق عليه سعاده اسم الإنسان الجديد، “هو إنسانٌ مدركٌ حقيقته ومساره، واعٍ لما يعود بالفائدة على مجتمعه، وبالتالي يؤمّن خلاصه” (النّظام الجديد، المجلّد الأوّل العدد 2، 1/4/1948).
في زمن تراكم الأزمات والآفّات الاجتماعيّة، يسود في مجتمعنا مبدأ الفرقة والانقسام، وتتجلّى الفرديّة بأبشع مظاهرها في ظاهرتين: إمّا تنافس شرس لإبراز الـ “أنا” وتخطي كل من يمكن أن يلقي عليها ظلّاً ما، أو في الانغلاق واللامبالاة والتّصريح بعدم الاهتمام بما يحصل حولنا… وإذا كانت مؤسّستنا الحزبيّة جزءاً من نسيج هذا المجتمع، فمن غير الممكن أن لا تطالها ارتدادات الزّلازل المتكرّرة فتظهر على أفراد منها آثار التّصدّع. لهذا السّبب نواجه كلّ يوم وعلى كلّ المستويات آفّة الفرديّة الّتي حاربها سعاده بقدر ما حارب الطائفيّة، وقال عنها إنّ خطورتها توازي خطر الاحتلال الأجنبيّ. لكن ما يميّز القوميّين عن غيرهم هو أنّ خيار اعتناقهم النّهضة تطلّب نفساً تسامت فوق الصّغائر وزرع فيها الزّعيم إدراكاً لأهميّة القيم الاجتماعيّة الجامعة، لذلك يكفي لهذه النفوس أن تقف وقفةً صادقةً مع الذّات وتعيد تقييم المسار لتسارع إلى تقويمه.
ولعل ما واجهه سعاده من آثار تلك الآفّة الّتي تناولها في العديد من رسائله ومقالاته، قد استفحل في الآونة الأخيرة إذ لم تُمنح التّربية المناقبيّة الاهتمام الكافي لكي يتمكّن أبناء النّهضة من السّباحة عكس تيّار الفرديّة المستشري في المجتمع. في مقال له نُشر في “الزّوبعة” (العدد 49، 1/8/1942) يشير إلى المظاهر الّتي تتجلّى فيها الفرديّة والّتي يمكن أن نلخصّها بما يأتي:
1- عدم الإقرار بوجود هذه الشّائبة لدى صاحبها ونعت الآخرين بها.
2- عدم الاستماع إلى رأي الآخر، وبالتّالي رفض فكرة وجود رأي آخر مبنيّ على العلم والخبرة، والاستخفاف بما يطرحه الآخرون من نظريات وحلول.
3- المشاحنات الفرديّة والحدّة في النّقاش.
4- المنافسة الّتي تلازم كلّ حياتنا العمليّة وحتّى الشخصيّة.
5- عدم التّمييز بين الاختصاصيّ في فنّ من الفنون ومن لا علم له به، أو بين المعلّم والتّلميذ، والقائد والجندي، أو الضّابط الصّغير.
6- التّملّص من المسؤوليّة في حال حدوث خطأ ما وإلصاقها بالآخرين.
7- عدم القدرة على العمل من ضمن فريق.
وقد ينتج عن هذه الآفّة، عندما تبلغ نقطة اللاعودة، السّعي إلى تخريب عمل الآخرين لتقديم البرهان عن الفشل العام في أيّ نشاط أو تنظيم يغيب عنه صاحب النّزعة الفرديّة.
كيف نعيد ترميم الوحدة الروحية في المؤسّسة الحزبيّة كما في المجتمع؟
في رسالته إلى حميد فرنجية بتاريخ 10 كانون الأول 1935 أثناء الاعتقال الأول كتب سعاده: “بناءً عليه ولما كان العمل القوميّ الشّامل المتناول مسألة السّيادة القوميّة ومعنى الأمّة لا يمكن أن يكون عملاً خالياً من السّياسة، رأيت أن أسير إلى السّياسة باختطاط طريق نهضة قوميّة جديدة تكفل تصفية العقائد القوميّة وتوحيدها وتوليد العصبيّة (Esprit de corps) الضروريّة للتّعاون القوميّ في سبيل التّقدّم والدّفاع عن الحقوق والمصلحة القوميّة”. (الأعمال الكاملة. الجزء الثّاني. صفحة 10).
ولعل ترجمة العبارة التي استعملها سعاده “Esprit de corps” المتداولة في المؤسّسات على اختلافها، وفي المؤسّسات العسكريّة بشكلٍ خاصّ تدخل في التّعريف الآتي: “هي وحدة الروح أو الوحدة الروحيّة المشتركة لدى مجموعة من الناس، وتحرّك فيهم مشاعر الانتماء والفخر والحماس والولاء والإيمان المطلق بالدّور الرّسوليّ للجماعة. وهم مؤمنون بأنّهم مميّزون في ممارساتهم الّتي تحكمها منظومة قيم مناقبيّة. وتنمو مشاعر الوحدة هذه مع نمو المصالح والمسؤوليّات المشتركة في رحاب عقيدة واحدة جامعة”.
عدّة عوامل تسهم في تحصين هذه الروحيّة وصقلها: الاشتراك في التاريخ، وضوح المفاهيم، ثقافة موحّدة مع احترام التّنوع والأفكار المبتكرة، الثّقة بالنّفس والثّقة المتبادلة، القيام بأنشطة مشتركة، تقديم القدوة، تقديم المساعدة والتعاون، والحوار الدّائم…
وقد جزم سعاده أنّ تفشي هذه الآفّة بين أبناء شعبنا لا يعني أنّها جزء أصيل من طبيعتهم، وأنّ الشفاء منها أمر ممكن عبر البدء بالاعتراف بوجودها:
“إنّ النّزعة الفرديّة مرض عام فينا وليس الاعتراف بوجوده عاراً على أحد، ولكن العار في تركها تتمكّن من النّفس وتقضي على مواهبها الجميلة وفوائدها الجليلة. فهنالك رجال ذوو مواهب كبيرة تمنع مواهبهم هذه الآفّة الّتي لم يكد يسلم منها أحد من أبناء الجيل الحاضر من شعبنا. والتغلّب عليها يبتدئ باعتماد قوّة الإرادة وصدق العزيمة”.