نحن سوريون لا هللخصبيون! بقلم أنطون سعاده
بعد نكبة فلسطين العروبية سقطت عن باصرة الشعب الغشاوات التي أسدلتها عليها النايو رجعية المتعربة ففتح عينيه، وهو بعد في ذهول النكبة، على خيبة لم يعرف لها مثيلاً في سابق تاريخه الحديث، فأدرك مصدر نكبته وعرف أنه ليس اليهود بقدر ما هو أصحاب القضية الفاسدة والمبادىء الميتة من الشعب السوري نفسه واصحاب الغايات المتضاربة في الحكومات السورية وفقد الهدف الواحد في كل العملية الفلسطينية الفاصلة. فأخذ المنكوبون الفلسطينيون يلعنون الذين غرروا بهم وخدعوهم. وانكشف أصحاب قضية “القومية العربية والأمة العربية والوطن العربي” انكشافاً لا شك فيه. فأسقط في أيديهم، وتولاهم فشل عظيم، وأخذوا يبحثون عن حيلة تنقذ موقفهم أمام الرأي العام. ولم يعتموا أن وجدوا الحيلة المدهشة: أن يوضع الوزر على الحكومات وبعض القادة وانتهى المشكل!
صحيح أنّ رجال الحكم في الدول السورية هم منتخبو الفوضى السياسية والاقتصادية الهائلة التي تتخبط فيها الأمة السورية. ولكن هل كل الوزر وزرهم؟ ألا يحمل أصحاب القضية الباطلة والتفكير النايورجعي نصيبهم من الإخفاق؟
لا يمكن المسؤولين عن تكوين العقلية التراجعية والنفسية المرضية في سورية التنصل بهذه السهولة وبهذه الطريقة اليهودية من أوزارهم وتبعات أعمالهم. هكذا كان يفعل اليهود قديماً، فقد كانت لهم عادة تذكرها التوراة، وهي أن يجلبوا تيساً من الماعز يحمّلونه كل أوزارهم ويطلقونه في البرية ليذهب “إلى عزاريل”! بهذه الطريقة الهينة كان اليهود يتخلصون من آثامهم، وبمثل هذه الطريقة الهينة يظن أصحاب النفسية النايو رجعية ومنشئو سفسطتها أنهم يتمكنون من التخلص من المسؤوليات التي اشتركوا هم ورجال الحكومات في حملها. فلما وقعت الكارثة التي قلت للشعب من زمان بعيد، من سنة 1925، أنها لا بد واقعة بسبب فساد القضية الوهمية التي أوجدتها النايو رجعية، ابتدأ يظهر نبوغ النايو رجعيين في ابتكار أساليب التنصل اليهودي الطريقة. وكان أول أعمال نبوغهم الباهر أنهم أعلنوا أنهم رأوا الكارثة بعد وقوعها!
أليست رؤية الكارثة بعد وقوعها عملاً عظيماً؟! بلى! فيكفي أن يتفرد النايو رجعيون بالطنطنة برؤيتهم الكارثة بعد وقوعها ليكون ذلك دليلاً قاطعاً لى عبقريتهم العربية وعلى ثقافتهم المتلبننة تلبنناً فرنسياً أو تلبنناً استعمارياً بالجملة! وإنّ أعظم نوابغ النايو رجعيين هو ذاك الذي حاول أن يسبق الجميع بإعلانه أنه رأى الكارثة بعد وقوعها!
والعمل العظيم الثاني الذي قام به عباقرة النايو رجعية هو انتقادهم للخطط المشوشة والأهداف المعيبة والاستعدادات الاعتباطية التي كانوا هم في طليعة مؤيديها ومادحي الحكومات والشركات السياسية على تهيئتها وإعلانها والسير بها. ففجأة رأى نوابغ عجز الرأي ومرض البصر أنّ الخطط والأهداف والاستعدادات التي وصلت بالأمة السورية إلى كارثة فلسطين الهائلة لم تكن خططاً وأهدافاً واستعدادات صحيحة، كأي إبداع في العالم يقدر أن يضاهي هذا الإبداع النايو رجعي العظيم.
كل هذا يتقلص ويصبح لا شيء أمام آخر ما توصلت إليه العبقرية النايو رجعية بإنشائها قضية قومية جديدة هي أعظم ما يمكن أن يصل إليه إبداع عقل بشري نايو رجعي. ألا وهي القضية الهللخصبية؛ فقد توصل العقل العبقري النايو رجعي، بعد مجهود عظيم إلى ابتداع هذه القضية الجديدة التي تمتاز بأنها جديدة كل الجدة فهي ليست قضية “الوحدة العربية” ولا قضية القومية السورية والأمة السورية، بل قضية القومية الهللخصبية والأمة الهللخصبية. فليس فيها عدول عن “القومية العربية” ولا اتّباع للقومية السورية وتعلّق بها! فلا يمكن أحداً أن يعيّر العباقرة العروبيين بأنهم اعتنقوا مبدأ القومية السورية وتخلوا عن العروبة الوهمية العاجزة الاتكالية ولا بأنهم أدركوا صحة قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد خيبتهم من قضيتهم الوهمية الباطلة!
المسألة العظمى التي اضطر الإبداع العروبي إلى مواجهتها وحلها هي: كيف يمكننا الرجوع عن القضية “القومية” الوهمية الباطلة بدون أن نظهر أننا رجعنا وكيف نتجه نحو القضية القومية الواقعية الحقيقية ـ نحو القومية السورية ـ بدون أن نعلن أننا اتجهنا نحوها وبدون أن نحتاج إلى الاعتراف بصحة الحركة السورية القومية الاجتماعية التي ما فتئت تدعونا منذ أول نشأتها إلى قوميتنا الحقيقة؟
هذه هي المسالة الفكرية العظمى التي اضطر العقل النايورجعي إلى مواجهتها وحلها بما يتفق مع كبريائه وعصمته عن الغلط. فاكتشف التعريف الجغرافي الذي أطلق على شكل الأرض السورية الخصية المنحنية في قوس كبير فوق الصحراء العربية. ولعل العالم التاريخي بريستد هو الذي أطلق هذا التعريف الجغرافي “الهلال الخصيب” على سورية الطبيعية فتلقفه العروبيون كما يتلقف اللاعب الكرة لأنه يحل لهم مشكلة ابتلاع بلاد تاريخية عريقة بشعبها وثقافتها فلا تعود توجد سورية أمامهم، بل هلال خصيب. والهلال محبوب للنايو رجعية العروبية كما هو محبوب الصليب للنايو رجعية التلبننية، فهل أبدع من محو بلاد وأمة وإنشاء أرض هلالية خضراء تخلق لنا فيها النايو رجعية من فنون القوميات ما لا تعلمون”؟!
أتمّ النايو رجعيون عملية خلق “الهلال الخصيب” ولم يحتاجوا إلى الحزب القومي الاجتماعي وتعاليمه في شيء. وهذا أهم شيء في العملية كلها: أن لا يقال إنّ قضية هذا الحزب فازت في معركة الحق والباطل ـ معركة الواقع والوهم!
مهما كانت عقولنا قاصرة في فن خلق الأوطان وإبداع “القوميات” فإننا نرى أنّ أصعب مشكلة ستواجه العقلية النايورجعية، بعد عملية خلق البلاد الجديدة، هي مشكلة النسبة القومية إلى الهلال الخصيب: هل تكون مركبة فيقال “هللخصبيون” أم تكون بسيطة فيقال إما “هلاليون” أو “مهلهلون” وإما “خصبيون” أو “متخصبون”! ولكننا نثق بمقدرة العقلية النايو رجعية على التغلب على كل أمر عسير، فلا يبعد أن تجد هذه العقلية الحل في الاحتفاظ “بالقومية العربية” في الهلال الخصيب فلا يكون للقطيع البشري السائم في الهلال ما يميزه إلا ما كان من “لون محلي” قد يكون الأخضر بالنسبة إلى دلالته على الخصب!
ايها النايو رجعيون “القوميون”،
لا مهرب من الواقع وليس أفضل من الوجود. لا أبدع من الحقيقة! فتعالوا إلى الحقيقة التي أعلنتها الحركة السورية القومية الاجتماعية ـ الحقيقة الذاتية التي لم تصنع بإرادة أجنبية ولا بغاية خصوصية!
إنّ سورية الطبيعية التاريخية أفضل من مرعى الهلال الخصيب. وإنّ السوريين أفضل من الهللخصبيين! نحن سوريون لا هللخصبيون!
وإنّ الاعتراف بما أعلنته الحركة السورية القومية الاجتماعية خير من المكابرة في الحق فهذه الحركة هي من الأمة وللأمة.
إنّ بناء النفوس في النهضة السورية القومية الاجتماعية ينقذ سورية من الفوضى والتفسخ الداخلي وينهض بسورية وبالعالم العربي!
كل شيء، بيروت،
العدد 100، 25/2/1949