نظرات في «المساواة» – 1
كم أحيت الحقيقة آمالاً أماتها الخيال. وكم أوجد الخيال أوهاماً تعالت قصوراً شاهقة في الهواء، ثم جاءت الحقيقة فبددتها كما تبدد أشعة الشمس الضباب أو كما تبدد الأرياح دخان القش اليابس، وبين ليل الخيال وفجر الحقيقة كم عاشت آمال وكم ماتت آمال!
لست أعني بالخيال تلك الكلمة المطاطة التي يفهم منها العامة ما تنطوي عليه من الألفاظ المنمقة والأسلوب «البديع» الذي يرينا نفس الكاتب كواحد من الجن في الخرافات القديمة، فتراه يقطع الأجيال بسرعة القطار المستعجل، وهو تارة يركب متن الهواء وطوراً يمخر عباب الأمواج وآناً يحلّق إلى اللانهاية طائراً على أجنحة الأحلام، فلا يرى القارىء في خلال أسطره سوى ما يراه شارب الأفيون في خلواته من الأوهام والخيالات التي تمثّل له الحياة مناظر ساحرة ومشاهد خلابة. وعندما تذهب السكرة وتأتي الفكرة لا يرى أمامه سوى حياة فيها من المرارة أضعاف ملذاتها ــــ كلا ــــ بل الخيال الذي أعنيه هو ذلك التصور السامي الذي يوحي إلى أولي الأدمغة المفكرة حقيقة باهرة، يصح اتخاذها مثالاً لحياة جديدة وعصر حديث. هذا هو الخيال الذي يجيء أثناء الليل، ثم تأتي الحقيقة مع الفجر صارخة «قد تم». أما سائر الخيالات الأخرى فنصيبها عند إتيان الفجر الاضمحلال والتواري مع الظلام.
بين يدي الآن مثال من ذلك التصور السامي والخيال البديع الذي تتجلى فيه الحقيقة بأبهى معانيها وهو كتاب المساواة لمؤلفته الكاتبة المتعمقة «مي» الذائعة الصيت. فالمساواة نتيجة خيال مبدع نظر إلى الحياة من وجهتها الحقيقية، وذاق خلّها وخمرها، وخبِرَ تعاستها وسعادتها وراقب سير الطبيعة في تطورها والعصور في أدوارها، فرأى أن يعلن للبشر ما رأته عينه وسمعته أذنه وشعرت به نفسه، وإلا فكيف نعبّر عمَّا حمل «مي» على طرق هذا الموضوع الخطير إذا لم يكن لها من نفسها دافع؟ وكيف يمكننا نفي ذلك، والكتاب كله شواهد وأدلة على ما يجول في نفس الكاتبة من الخواطر الدالة على معرفة كبيرة واختبارات كثيرة؟ وإن في ما جاء في رسالة «عارف» بهذا الصدد وهو قوله:
«لقد تألمت في حياتي لأمور كثيرة ومن مختلف المراتب، وتألمت من مجموع الوراثات المتجمعة فيّي التي أسميها «نفسي» وأعرف من جهة ظلم المجتمع وظلم الحياة من جهة أخرى، الخ…».
لا يسعني إخفاء سروري بأن يكون بين نسائنا الراقيات من هي مثل «مي» تطرق المواضيع الحيوية وتحلل الحقائق العمرانية، تقنع البرهان بالبرهان وتدفع الحجة بالحجة، وتجعل كل ذلك في لغة تليق بالآداب العربية لعذوبة ألفاظها ورقّة أسلوبها بما فيها من انسجام التعابير كما هو الواقع في كتاب «المساواة».
بيد أنّ لكل جواد كبوة، ولكل قلم عثرة. ولكن شتان ما بين كبوات الجياد وعثرات الأقلام، لأن تلك لا تردي إلا فوارسها أما هذه فتردي كثيرين وقد تلقي أمماً وشعوباً بأسرها في هاوية عميقة من التعاسة والشقاء. ومن ذا الذي له إلمام بتاريخ القلم ومآثره ولا يقر بذلك. ومن ذا الذي يعلم أنّ المساواة التي هي أعظم معضلة عمرانية تجتازها البشرية الآن لم تكن سوى نتيجة ثورة قلمية، وينكر ما للقلم من الشأن في تاريخ البشر، وما لعثراته من النتائج السيئة في تطور العمران وسير الاجتماع، لذلك كان الانتباه والتدقيق في نفثات الأقلام من أول شروط الاستفادة منها، وهو ما أنا مبتدىء به الآن في كتاب «المساواة».
غرض المؤلفة من وضع هذا الكتاب واضح في الفقرة الأخيرة من التمهيد البديع الذي افتتحت به الكتاب وهي:
«ما هي المساواة؟ وأين هي؟ وهل هي ممكنة؟ هذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية دون اندفاع ولا تحيّز بل بإخلاص من شكّلت من جميع قواها النفسية والإدراكية محكمة «محلّفين» يستعرضون خلاصة ما تقوله الطبيعة والعلم والتاريخ ليثبتوا حكماً يرونه صادقاً وعادلاً».
وهو من الأغراض الكبيرة والمرامي الخطيرة التي تستحق الكاتبة الثناء عليها، لا سيما وأنّ مثل هذه الأبحاث المفيدة لا تزال غريبة عنا، وإذا كان عندنا منها شيء فهو قليل جداً بالنسبة إلى حاجتنا إليها.
أنطون سعاده
الجريدة، سان باولو
العدد 95، 7/12/1922