أنطون سعادة يخاطب الطّلبة
د. ادمون ملحم
الطّلبة هم عماد الأمّة والتّغيير وقادة الغد وبناة المجتمع. وسعاده يُركِّز على دورهم في المجتمع ويصِفهم بالنّفوس الجديدة و”حملة الوعي الجديد” ويعتبرهم “عنصر التّحرر من قيود قضايا الماضي، إنّه عنصر مؤهّل لحل قضايا جديدة لنفوس جديدة”. والحقّ يقال، أنّ الطّلاب هم فئة إجتماعيّة واعية ومندفعة ومتحسِّسة، لا بل هم الأكثر وعياً وحماساً وتحسّساً بآلام الشّعب وأمانيه، وبمشاكل المجتمع وهمومه، وبقضايا الاستقلال والسّيادة والتّحرر الاجتماعيّ. لقد راهن سعاده على دورهم وطاقاتهم وقدراتهم العقليّة والمعرفيّة، ووصفهم بأصحاب الإرادة الحرّة الّتي تريد الحياة الجديدة وبصنّاع القوة الفاعلة الحرّة.
ومن خلال مراجعة خِطابات الزعيم في الطّلبة القوميّين الاجتماعيّين، يتبيّن لنا ما يلي:
أولاً، لغة الإقناع العقلي والإلهام:
في هذه الخِطابات الإرتجاليّة – التثقيفيّة، المتميّزة بغناها الفكريّ وعمقها الفلسفيّ، تبدو واضحة لغة العقل المعتمَدة على الإقناع المنطقيّ الّتي يستعملها سعاده في توعية الطّلاب وتنوير عقولهم، وفي توصيفه لأحوال الأمّة السّياسيّة والاجتماعيّة والرّوحيّة.. وبذات الوضوح تبدو لغته أيضاً لغة إلهام وتحفيز وتعبئة للنّفوس، وشحّذ للهمم باتّجاه قضايا الأمّة ومصلحتِها القوميّة وتطوّرها الاجتماعيّ، بدل حالات الكسَل والتّواكل واللّامبالاة، والاهتمام بالمسائل الشّخصيّة والخصوصيّة والفئويّة، والتّخبّط بالفوضى والأضاليل.
هذه اللّغة الصّادقة – لغة الإقناع العقليّ والإلهام والتّحفيز – يمتزج فيها الفكر التّنويريّ العميق مع العاطفة النّبيلة، فيتجلّى العقل المفكّر والمحلّل والمتحسّس، الّذي يدّحض الأضاليل ويُنَقّي الأذهان، ويزرع الثّقة والإيمان العقيديّ في النّفوس، ويدعوها لطرح الأوهام والمعتقدات التّقليديّة القديمة والأفكار المزيّفة، واعتناق التّفسيرات العلميّة والأفكار الجديدة، الّتي تُنّمي روح المسؤوليّة والاعتماد على الذّات، وتقود إلى الخلق والإبداع والتّفوق والنّجاح.. يتجلّى هذا العقل بمعرِفتِه العميقة وأساليبه المنطقيّة، مخاطباً شريحة الطّلاب، معتمداً الصّراحة والوضوح في تقيّيم الأمور، ومبيّناً لها المسار والطّريق الصّحيحة لإنقاذ الأمّة من الأخطار المحيطة بها، ومؤكّداً على أهميّة الوعيّ القوميّ الصّحيح الّذي نصل إليه بوضوح المفاهيم والمنطلقات، وباعتماد التّفكير العقلانيّ والمنطقيّ، لأنّ “كل الأعمال المستعجلة الصّاخبة المتخبّطة غير القائمة على وعي صحيح لا تزيد الشّعب إلا ضلالاً وتفكّكاً وتأخّراً عن مقاصده الكبرى وغاياته الصّحيحة”.
وبلغة العقل والعاطفة الواعية يتكلّم سعاده مع طلاب النّاشئة الوطنيّة ويدعوهم إلى الحياة الجميلة، حياة التّعاون والمحبّة والاتّحاد والأخلاق الطيّبة والطّريق الحسنة. وبكلامه النّابض بالإيمان، يُحرّك النّفوس ويُعبّأها حماسة واندفاعاً، ويدعوها إلى اعتناق حياة جديدة يبحثون فيها عن حلول لمشاكل المجتمع بدل التّعايش معها، ويُقرِّرون المصير القوميّ بأنفسهم بدل الإستسلام للإرادات الأجنبيّة. يقول لهم: “علينا أن نبحث عن حياة جديدة تختلف عن حياة الماضي فيها تعاون على الخير وعلى قتال كل من يريد أن يحوّل بلادنا إلى مسرح يعيشون عليه”. وكقائد يعشق بلاده وطبيعتها، يبرز في حديثه مظاهر جمال الطّبيعة السّوريّة، ويحثُّ الطّلاب لتحسين هذه الطّبيعة وتجميلها أكثر..، فيقول:
“سمعتم أنّ بلادنا جميلة جداً ولكن لا أعلم إذا كنتم قد سمعتم أنّ بلادنا يجب أن تكون أجمل مـمّا هي عليه. إذا نظرتـم إلى هذه الطّبيعة حول الـمدرسة رأيتم مسحة من الـجّمال صغيرة تقدر أن تكون أحسن وأجمل”.
وبعد أن يعبّر عن سروره بوجوده “في مدرسة مديرها من العاملين المفكّرين في الاتّجاه والتّوجيه الجديدَين”، يقول: “إنّ الطّلبة منها، نفسها صافية تحبّ السَّير في المسالك الجميلة – لأنّ العلم بلا غاية شبيه بالجهل – وغاية العالم هو جعل الحياة جميلة مجيدة حلوة”.
ثانياً، دور الطّلاب في المجتمع:
سعاده كان معبِّراً عن الحقيقة الجليّة عندما أعلن “أنّ الطّلاب يكونون دائماً نقطة انطلاق وارتكاز في العمل القوميّ الاجتماعيّ”. فلو نظرنا إلى التّاريخ الحديث لوجدنا أنّ الطّلاب في كثير من دول العالم قد لعبوا بالفعل دوراً مهماً في إطلاق حركات تغيّيرية، وساهموا بشكل فعّال في ثورات عديدة كثورات 1848 في المانيا والنمسا، وثورة 1919 في مصر، وثورة 1954 في الجزائ،ر وثورة 1968 في الجّامعات الفرنسيّة والأميركيّة.. كما كان للطّلاب الأميركيّين دور فعّال في معارضة التّدخل العسكريّ الأميركيّ في فيتنام. وبالإضافة إلى المطالب الإصلاحيّة في الجامعات، ساهمت مظاهرات الطّلاب في كل من بريطانيا وألمانيا وإيطاليا واسبانيا والبرتغال والبرازيل والأورغاوي والسنغال والمكسيك والجزائر وتشيكوسلوفاكيا وتركيا واليونان.. في مناهضة الحرب الأميركيّة في فيتنام.
وبالعودة إلى تاريخ النّهضة القوميّة الاجتماعيّة، يقول سعاده “إنّ الطّلاب كانوا النَقطة الارتكازيّة الأساسيّة لنشوء الحركة القوميّة الاجتماعيّة”. وهذه الحركة، يضيف سعاده، “نشأت في أوساط الطّلاب وحملها في بادىء الأمر الطّلاب، وسار بها الطّلاب إلى أن أصبحت اليوم هذه الحركة الشّعبيّة العامة الواسعة..” وبذات المعنى يؤكّد سعاده في خطابه على نشأة الطّلاب في حركته القوميّة الاجتماعّية، فيقول: “إنّ عدداً كبيراً من العاملين في الحركة القوميّة الاجتماعيّة كانوا طلاباً، ونشأوا نشأتهم وهم طلاب فنضجت أفكارهم ومواهبهم في القضيّة القوميّة الاجتماعيّة منزهة عن الاختلاطات بقضايا الرّجعة”.
ثالثاً، لغة العلم والمعرفة:
في خِطاباته يبدو سعاده فاهماً وعليماً بإمكانيّات وقدرات الطّلاب الإنسانيّة العقليّة والرّوحيّة والعمليّة والمعرفيّة. فهو يخاطِبهم بلغة تستهويهم ويفقهونها جيّداً، ألا وهي لغة العلم والمعرفة الصّحيحين. لغة اليقين والبحث عن الحقيقة التي تستحثّ العقول والمدارك. فيتوجّه إليهم قائلاً: “كل طالب منكم يدرك أهميّة وجوده في الحركة القوميّة الاجتماعيّة، لأنّ الطّالب يطلب العلم والمعرفة الصحيحين. يطلب اليقين، يطلب البناء النّفسي الصّحيح الّذي يمكّنه من أن يكون شيئاً محترماً…” ويضيف زارعاً في نفوسهم الحميّة والعنفوان: “أنتم الطّلبة تحملون هذا الوعي الجديد. أنتم لا تزالون الرّكن الأساسيّ في الحركة القوميّة الاجتماعيّة. هذا البناء الّذي تبنونه هو الّذي سيكون له الثّبات، وهو الّذي سيبلغ المجد والخلود”.
وفي خطابه في طلبة دمشق، يبحث سعاده في مصير الأمّة وكيفيّة خروجها من حالة التّخبّط والفوضى الهائلة المخيفة، والانهيار النّهائيّ والاضمحلال إلى “حالة حسنة تثبت فيها حياة الأمّة وتنشقّ أمامها طريق الفلاح والارتقاء” وتصل إلى الحياة الحرّة القويّة.. وهذا برأيه هو البحث عن الحقيقة.. والحقيقة لا تكون بالسّير على غير هدى، بل بتوخّي الطّريق الصّحيحة للإنقاذ القوميّ، وهي طريق العلم وانجازاته وطريق الوعي والمعرفة والبحث عن الحقيقة. وعقل الطّلاب يجب أن يكون عقلاً مفكِّراً وعليهم أن يتّجهوا إلى الحقيقة، أي أن يستنيروا بالعقل ويسلكوا طريق المعرفة الواضحة للوصول إلى الوعي القوميّ.. فبالمعرفة والعلم والكشف العقلي وبتفاعل الأفكار، يحصل الوعي الصّحيح ونصل إلى أهداف صحيحة.
إذاً، سعاده يحثُّ الطّلبة على البحث عن الحقيقة باعتماد التّفكير والتّأمل والتّحليل والنّقد والدّرس العميق، والبحث بمشاكل الأمّة والكشف عن أسبابها وعن الحقائق الضّائعة، وسلوك طريق المعرفة الصّحيحة على طولها وبطئها. وهو يخاطب الطّلاب بلغة الحقيقة، بلغة الوعي الصّحيح الّذي يوضح حقيقة المجتمع، والّذي يمكن أن يجمعنا شعباً واحداً و”يؤمّن لنا الخروج من التّخبّط في ماهية حقيقتنا، في من نحن وما هو وجودنا وما نبغي في الحياة”.
وبلغة علم الاجتماع يطرح سعاده أسئلة متعدّدة ليشرح حقيقة تكوين الأمم وتمازج عناصرها، وحقيقة مجتمعات العالم العربيّ القائمة في بيئات متباعدة، ليصل إلى معنى الأمّة الصّحيح وليؤكّد “أنّ الأمة هي مجتمع واحد” وأنّ تعدد المجتمعات يؤدّي إلى تعدّد الأمم.
وفي ختام خطابه في طلبة دمشق، يتوجّه سعاده إلى الطّلاب مشجّعاً لهم وزارعاً الثّقة في نفوسهم، ومحرِّضاً عقولهم لإدراك المفاهيم والمعاني بدقّة وعلميّة، وتفسير الأحداث والوقائع تفسيراً منطقيّاً، بعيداً عن الخيال، قائلاً:
“فأنتم الطّلاب ينتظر منكم أن تطلبوا هذه الحقيقة قبل كل فئات الشّعب، لأنّكم تعملون لطلب الحقيقة وليس الخيال. أنتم تدرسون لتعرفوا الحقائق لا لتلهون. وطلب الحقيقة هو الطّريق الصّحيحة. ونكون مسرورين من الّذين يبدون استعدادهم للاشتراك في معرفة الحقيقة لنكوِّن معهم هذا المجتمع الواحد الّذي ينقذ الأمّة السّوريّة”.
رابعاً، تنمية الفضائل القوميّة:
وفي هذه الخِطاباتُ نرى سعاده حريصاً على بعث الأمل واليقين والتّفاؤل وتنمية الفضائل القوميّة في النّفوس، فضائل الحب والجمال والثّقة والشّهامة والبطولة والصّراحة والواجب والتحمّل والإخلاص.. وكلها فضائل وقيم إنسانيّة راقية، تعزّز إيمان الطّلبة بنفوسهم وإمكانيّاتهم، وبقدرتهم على المثابرة والنّجاح وتحمّل مصاعب الحياة، وتحفِّز عزيمتهم وتولِّد في نفوسهم معنى جديداً للحياة وشعوراً بأهميتها، وتهيّئهم للصراع لحياة أفضل وتدفعهم لتحقيق الأهداف والإنجازات بسيف الثّقة والاطمئنان.
وبعبارات إيجابيّة ممزوجة بمشاعر الفخر والإعتزاز والتّفاؤل والإيمان، يعتبر سعاده أنّ “الطّلاب كانوا دائماً ولا يزالون عاملاً أساسيّاً في الحركة القوميّة الاجتماعيّة. إنّهم النّفوس الجديدة الّتي لم تكن قد فعلت فيها سموم القضايا الرّجعية، ولم تكن قد تمكّنت منها الثّقافات المحجّرة للعقل، المعطّلة للإرادة الحرّة في الإنسان، المسيّرة للفئات والجماعات بعوامل الاستمرار في الماضي وفي اتّجاه الماضي”.
ويحثهّم على الإجتهاد للوصول إلى الأحسـن – إلى ما نـريد – و”إنّ ما نـريد يختلف بكثير عمّا هو اليوم”. نعم! إنّ سعاده يزرع في نفوس الطّلاب التّفكير الإيجابيّ والأمل بالإنتصار وبالمستقبل الواعد.. بالحياة الجديدة الجميلة المجيدة، حياة الخير والعزّ والجمال.. ويقول لهم: “أنتم تتعلّمون القراءة والكتابة توصّلاً لشيء وراء ذلك – إلى معرفة الـحياة الـجميلة من الـحياة القبيحة، حتى تعرفوا أنّ الـحياة الـجميلة تتميّز بقوّتها، والقوة بالبطولة، بالشّهامة، بالسيرة الـحسنة والأخلاق الطّيبة، الّتي تـجعل الـجميع فرحين عندما يرون أحداً يـمارسها، حياة كلها عزّ وكلها خير..”
وإلى طلبة الجّامعة الأميركيّة يتحدّث سعاده عن “الوعي القوميّ واتّخاذ القوميّة عاملاً روحيّاً، عاملاً موحّداً القلوب والأفكار، موجّهاً القوى القوميّة في إرادة واحدة وعمل منظّم واحد نحو غايات الأمّة العظيمة”. ويقول: “بدون هذه الوحدة الرّوحيّة الفكريّة في الإرادة والعزيمة المرتكزة إلى شيء حقيقيّ واقعيّ، إلى مجتمع واحد في حياة واحدة ومصير واحد، بدون هذا الأساس لا يمكن النّهوض ومواجهة الأفكار بأمل الانتصار”.
لقد كان سعاده حريصاً على بناء الإنسان الجديد، الإنسان الواعٍ الممتلئ علماً ومعرفة وخبرات، إنسان ذو شخصيّة فعّالة ومؤثّرة ومساهمة في خير المجتمع ورقيه.. لذلك حرص أن يغرس القيم المعرفيّة في شخصيّات النّاشئة والطّلبة، وأن يُعزّز الثّقة في ذواتهم وينمّي شعورهم الإيجابيّ، وإيمانهم في الحياة ويزرع أمل الإنتصار في نفوسهم، ليتحوّل هذا الأمل إلى طموحات وآمال عظيمة بتوليد روح جديدة في الأمة، تجدِّدُ حياتها وتسير بها إلى حياة جميلة تجد فيها الحريّة والعزّ والشّرف والجمال. وها هو يُحفِّز مدارك الطّلاب ويُذكِّرَهم بالغاية السّامية الّتي يجب أن تتوجّه إليها الأنظار وتنصبُّ عليها الجّهود: “إنّ غـايتنـا هي الوصـول إلى حياة أجمل وأسمى، إلى حياة تبرز لنا الـحياة والـجمال والقوّة لتكوين الأمّة العظيمة الّتي تبني مجداً”.
الخلاصة:
الطّلبة هم شريحة إجتماعيّة واعية ومتحسِّسة لهموم الشّعب وآلامه، وقادرة أن تتنكّب مسؤوليّاتها الوطنيّة والاجتماعيّة. هذه الشّريحة الصّاعدة كان لها دور كبير في نشوء الحركة القوميّة الاجتماعيّة وانتشارها. وقد راهن سعاده على وعيها وطاقاتها ودورها في عمليّة التّغيير والبناء، وتوجّه إليها بلغة العلم واليقين والإقناع المنطقيّ، وحثَّها على اختيار طريق المعرفة الصّحيحة والبحث عن الحقيقة، والتّمسك بالفضائل الإنسانيّة الرّاقية وعزّز في نفوسها مبادئ الثّقة والواجب وحب الحياة، والأمل بالمستقبل وتحقيق الحياة الجميلة الحرّة الرّاقية.