إنتصروا… على يهودنا نحن
الرّفيق وجدي عبد الصمد – وكيل عميد الإذاعة
عند نهاية ليل 14 وبداية نهار 15 أيّار 1948 قرّرت الحكومة البريطانيّة إنهاء انتدابها على فلسطين، بعد اطمئنانها على وجود قوات يهوديّة كافية تستطيع تأمين حماية جميع من غزوا واغتصبوا أرضنا.
في اليوم ذاته أعلن “ديفيد بن غوريون” في بيان قال فيه “نجتمع هنا نحن أعضاء مجلس الشّعب ممثّلي الجالية اليهوديّة في أرض إسرائيل والحركة الصّهيونيّة في يوم انتهاء الانتداب البريطانيّ على أرض إسرائيل، نجتمع لنعلن بذلك قيام الدّولة اليهوديّة في أرض إسرائيل والّتي سوف تدعى دولة إسرائيل”، ليعلن بعدها بدقائق رئيس الولايات المتّحدة “هاري ترومان” “Harry S. Truman” اعترافه بدولة “إسرائيل” وكذلك فعل الإتحاد السّوفياتيّ بعد ثلاثة أيام.
هكذا، تمّ زرع دولة غريبة، وفي بيان مؤلّف من بضع كلمات قامت دولة يهوديّة لا تمتّ لشعبنا بصلة، دولة من لقطاء شعوب العالم اجتمعوا على أرضنا وأعلنوا قيام دولتهم، بهذه الوقاحة.
يقول سعاده قبيل استشهاده في خطابه التّاريخيّ في “برج البراجنة” عام 1949 “تقوم اليوم في الجنوب دولة جديدة غريبة كنت أترقّب قيامها وأعلنت أنّها ستقوم قبل أن تعلن هي عن نفسها، لأنّي كنت أرى التّخاذل السّوريّ سيوجدها حتمًا”.
إنّ استبصار سعاده لقيام هذه الدّولة في فلسطين استند على دراسة واقعيّة، ومعرفة بالعوامل الّتي سمحت لليهود احتلال أرضنا، ما يطرح تساؤلات عديدة يجب مقاربتها بالاستناد إلى الفهم الدّقيق لأهداف الحركة الصّهيونيّة المُعلَنة والخفيّة. فكيف استطاعت هذه الجماعات اليهوديّة المنتشرة في العالم، وبسحر ساحر، دخول أراضينا وإقامة مستعمراتها، وإنشاء معاملها ومستشفياتها وفنادقها ومؤسّساتها وجيشها… وحتّى إقامة دولتها؟ كيف وصلت وطننا؟ وكيف سلخت منّا هذا الجزء العزيز وجعلته وطنًا لها؟ وأين، متى وكيف حصل هذا “التّخاذل السّوريّ” وما سببه؟
إذا تغاضينا عن تحليل الخلفيّات الفكريّة اليهوديّة أو النّفسيّة اليهوديّة وجميع تلك المسببّات، رغم أهمّيّتها في الموضوع، واعتمدنا السّرد التّاريخيّ المباشر لمجريات الأحداث سيتّضح من خلالها أنّ النّتيجة جاءت طبيعيّة وحتميّة لمسار واضح لم يتم مجابهته ومواجهته بالشّكل الصّحيح. مسار حدّثنا عنه سعاده في بدايته (1925) على أنّه يسير على محور غير طبيعيّ فيقول “رغمًا من كلّ ما تقدّم، ومن أنّ الحركة الصّهيونيّة غير دائرة على محور طبيعيّ تقدّمت هذه الحركة تقدمًا لا يُستهان به. فإجراءاتها سائرة على خطّة نظاميّة دقيقة إذا لم تقم في وجهها خطّة نظاميّة أخرى معاكسة لها كان نصيبها النّجاح. ولا يكون ذلك غريبًا بقدر ما يكون تخاذل السّوريّين كذلك إذا تركوا الصّهيونيّين ينفّذون مآربهم ويملكون فلسطين.”
ليأتي استيلاء اليهود على فلسطين ليس عن طريق الصّدفة أو الحظّ الجيّد لهم، بل هو نتيجة مخطّط واضح و”خطّة نظاميّة دقيقة”، تقدّمت لتحقّق أهدافها رغم أنها لا تسير على محور طبيعيّ، فما هي إذًا هذه الخطّة؟
بما أن الغاية عندهم هي الاستيلاء على أراضينا، فكان لابدّ من دراسة الوسائل والطّرائق الّتي توصلهم إلى هذه الغاية، ولأنّهم لم يكونوا موجودين أصلًا في بلادنا إلّا بأعداد ضيئلة، فكانت الخطّة شراء الأراضي وإقامة المستعمرات والمؤسّسات الدّاعمة والضّامنة لاستمرارهم ومن ثمّ التّوسّع والتّمدّد بأيّ طريقة كانت وبأيّ ثمن وصولًا إلى إقامة دولتهم، ولأنّ أمّتنا كانت خاضعة في ذلك الوقت للاحتلال العثمانيّ – ولا أقول أنّ الخطّة بدأت منذ ذلك الوقت ولكن ربما ظهرت معالمها العمليّة – فقرّروا التّواصل مع أصحاب القرار واستمالتهم بشتّى الطّرائق للسماح لهم بشراء الأراضي، كما أنشأوا “المنظّمة الصّهيونيّة العالميّة” لمساعدتهم في هذا الأمر، وحتّى بعد انسحاب العثمانيّين تابعوا عملهم بثبات ولم يتركوا للصدفة مكان، فكانت اتصالاتهم الوثيقة بالفرنسيّين والبريطانيّين والّتي نتج عنها اتفاقيّات “سايكس بيكو” و”سان ريمو” و”سيفر” و”تصريح بلفور” أو ما عُرف بوعد بلفور، فهذا العمل المنظّم المخطّط والمدروس يوصلنا لفهم لماذا وُجدت في اتفاقيّة “سايكس بيكو” منطقة ليست للفرنسيّين ولا للبريطانيّين وأسموها “منطقة خاضعة للإدارة الدّوليّة”، وهي المنطقة الواقعة في الجنوب الغربيّ من الوطن السّوريّ أو ما يُعرف بفلسطين، وقام اليهود بإنشاء مؤسسة جديدة هي “الوكالة اليهودية” كما فعلوا أيام العثمانيّين وكان لها مهمّات عديدة منها قسم مختصّ بالشّؤون العربيّة وكان المطلوب من هذا القسم تهيئة أرضيّة مؤاتية لنشوء الدّوليّة اليهوديّة، وذلك بالاتصال بالمسؤولين السّوريّين واستمالتهم وحتّى الوصول إلى تجنيدهم.
بعد تهيئة الأرضيَة، انتقل اليهود للتنفيذ، الّذي وضعوا له آليّات عدّة، فليس مفاجئًا إذا قلنا أنّ ما عرف بوعد بلفور هو ليس الأوّل، حتّى أنّ الوعد الّذي سنتناوله هنا قد لا يكون الأوّل أيضًا، إذ يُقال أن “بونابرت” أعطى وعدًا لليهود بإعطائهم أراضٍ في جنوبنا السّوريّ إذا ما ساعدوه في حربه عند وصوله إلى بلادنا وحصاره الفاشل لعكّا، ولكن بما أنّ هذه المسألة غير موثّقة سأنتقل إلى المرحلة الّثانية والّتي بدأت في بدايات القرن التّاسع عشر، وتحديدًا إلى الوعد الذّي حصل عام 1837 من “محمد علي” والي مصر، الّذي كان قد احتلّ سيناء والسّاحل السّوريّ كلّه، حيث أعطى وعده ليهوديّ بريطانيّ ثريّ اسمه “موسى حاييم مونتفيوري” “Moses Montefiore” (1784-1885) بأن يتملّك هذا الأخير أراضٍ في سورية ويستثمر بعضها في الجليل أو يافا أو صفد أو غيرها، وهذا ما حصل، مقابل تأسيسه سلسلة مصارف بريطانيّة في سورية ومصر. لم تطل إقامة محمد علي كثيرًا إذ انسحب إلى تخوم سيناء (ومنذ ذلك الوقت سيناء ضُمّت إلى مصر) وعادت سلطة العثمانيّين على هذه المنطقة، فانتقل هذا اليهوديّ الثّريّ – والّذي تربطه قرابة مصاهرة مع عائلة “روتشيلد” اليهوديّة والّتي ستلعب دوراً هامًّا أيضاً كما سنرى لاحقًا.
فعلى الرّغم من التّصريح العثمانيّ بعدم السّماح ببيع أراضٍ لليهود إلّا أنّ “عبد المجيد الأوّل” وبعد لقائه ب”مونتفيوري” عام 1854 أصدر فرمانًا أو وعدًا سمح فيه لليهود بشراء أراض لإقامة مؤسّسات مختلفة، غير سكنيّة – هذا في العلن أو في الفرمان – إلّا أنّ أقاموا عليها مستعمراتهم السّكنيّة وغير السّكنيّة دون أيّ إشكال يُذكر وبعلم السلطان، والجدير ذكره أنّ عدد اليهود في الجنوب السّوريّ عام 1830 كان حوالي 1500 وعام 1840 أي في عهد “محمد علي” وبعد تدخّل “مونتفيوري” أصبح حوالي 10000 ثمّ 15000 عام 1860 إلى أن وصل العدد إلى 22000 عام 1881، وفي عهد “عبد الحميد الثّاني” بدأت حركة “تيودور هرتزل” تُثمر بعد أن ترأّس “المنظّمة الصّهيونيّة العالميّة الّتي أنشئت عام 1897 وكانت الدّولة العثمانيّة تضعف، فيقول في مذكّراته “علينا أن ننفق عشرين مليون ليرةً تركيَّةً لإِصلاح الأوضاع الماليَّة في تركية… مليونان منها ثمنًا لفلسطين، والباقي لتحرير تركية العثمانيَّة بتسديد ديونها تمهيدًا للتخلُّص من البعثة الأوربيَّة… ومن ثمَّ نقوم بتمويل السُّلطان بعد ذلك بأيِّ قروضٍ جديدةٍ يطلبها”، وهنا جاء دور الثّريّ اليهوديّ الآخر “أدموند جيمس دي روتشيلد” “Edmond James de Rothschild” (أحد زعماء الفرع الفرنسيّ لعائلة روتشيلد) الّذي راسله “هرتزل” عام 1895 وحثّه برسالته للعمل على شراء الأراضي وشرح فيها الوضع في الأراضي المحتلّة، وإليكم نبذة عمّا فعله “روتشيلد” بعد أن قام بشراء العديد من الأراض الزّراعيّة. ففي العام 1899، أنشأ جمعيّة الاستيطان اليهوديّ، ومنحها 400 ألف فرنك من أجل أن تموّل نفسها ذاتيًّا، وبلغ عدد المستوطنات الّتي أسّسها في فلسطين تحت مرأى العثمانيّين أكثر من 30 مستوطنة، وصل حجم إنفاقه عليها بعد عام 1900 نحو 7 ملايين فرنك، كما كان مشرفًا على أكبر عمليّة هجرة يهوديّة إلى فلسطين بين 1882 و1903 بلغ عدد أفرادها 6500 يهوديًّا، وتقديرًا لجهوده لقب بـ أبو “اليشوف” “Yishuv” أي أبو المستوطن اليهوديّ.
في سياق حديثنا عن كيفيّة استحصال اليهود على أراضينا، من المفيد أن نذكر ما جاء في كتاب الأمين محمود غزالة “كهنة وجواسيس” ص18 نقلًا عن مذكّرات “الحاج أمين الحسيني” عن أعمال السّفّاح، فيقول: “أمّا جمال باشا كان يحضر حفلة أقامتها “فرلاندو” الصّهيونيّة اليهوديّة… وبعد انتهاء الزّيارة قدّمت له “ألبوم” يشتمل على صور الفتيات المشاركات بالحفل وعناوينهن، فمنح الخبيث بعد الزّيارة أرضًا واسعة لليهود من أملاك الأوقاف الإسلاميّة”.
وبعد الانتهاء من “الرّجل المريض” وأمراضه، انتقل اليهود إلى الدّول المستعمرة الجديدة وأقصد هنا “فرنسة” و”بريطانية”، حيث برز دور “حاييم وايزمان”، هذا الّذي خلف “هرتزل” في ترؤّس “المنظّمة الصّهيونيّة” وترأّس فيما بعد وفي الوقت نفسه “الوكالة اليهوديّة” وأصبح أوّل رئيس دولة في “الدّولة اليهوديّة”. ولد في روسية وهاجر إلى بريطانية ونال دكتوراه في الكيمياء، وبمساعدة صديقه الثّريّ “والتر روتشيلد” (يهوديّ بريطانيّ) استطاع إنشاء شبكة علاقات واسعة أثمرت “المنطقة الخاضعة للإدارة الدّوليّة” في اتفاقية “سايكس بيكو” سنة 1916 و”تصريح بلفور” أو ما عرف بوعد بلفور سنة 1917، وللتذكير فإنّ هذا “الوعد” هو عبارة عن رسالة من “آرثر جيمس بلفور” “Arthur James Balfour” (وزير خارجيّة بريطانية) إلى “اللورد روتشيلد” (“ليونيل والتر روتشيلد” ” Lionel Walter Rothschild”)، الصّديق سابق الذّكر، ليتّضح لنا كيف استطاع “وايزمان” الاستحصال على هذا التّصريح – الوعد.
لينتقل اليهود بعدها لتهيئة الأرضيّة لقيام الدّولة اليهوديّة عبر حملة سياسيّة منظّمة، بدأ بها “حاييم وايزمان”، وذلك بالاتصال بأوّل سياسيّ لمع اسمه على السّاحة السّوريّة وهو “الملك فيصل” وما عرف باتفاقيّة فيصل وايزمان عام 1919. وتتالت اللّقاءات والعلاقات بحضوره أو بإشرافه باعتباره رئيسًا للوكالة اليهوديّة الّتي أنشأ اليهود فيها قسمًا مختصًّا بالعلاقات العربيّة. فكانت لقاءات “الملك عبد الله” ملك “شرق الأردن” ب”حاييم وايزمان” و”موشى شاريت” (من كتاب “المفاوضات السّرّيّة بين العرب وإسرائيل” لمحمد حسنين هيكل) والجدير ذكره أنّ الأخوين “فيصل” و”عبد الله” أبناء “الشّريف حسين”، غير سوريّين بل هما من الجزيرة العربيّة.
وكما في العراق والأردن كذلك في لبنان والشّام فقد قام “قسم العلاقات العربيّة” في “الوكالة” بنسج العلاقات، ولمع في هذا النّشاط إسمان هما “إلياهو ساسون” المولود في دمشق و”إلياهو أبشتاين (إيلات)” من أصل روسيّ أتقن اللّغة العربيّة ودرس في “الكلّيّة الإنجيليّة السّوريّة” (الجامعة الأميركيّة في بيروت) وعمل كمراسل صحافيّ، أقام هذان الرّجلان سلسلة واسعة من العلاقات مع شخصيّات سوريّة متنوّعة، وسأكتفي هنا بذكر الأسماء المهمّة ودون المراجع لأنّها عديدة ومختلفة، ففي لبنان رؤساء جمهوريّة مثل “إميل إده” و”ألفرد النقّاش” (الكتائبيّ) وصولًا إلى “بشارة الخوري”، ورؤساء حكومة مثل “خير الدين الأحدب” و”خالد شهاب” وصولًا إلى “رياض الصلح”، وفي الشّام أعضاء من “الكتلة الوطنيّة” مثل “فخري البارودي” و”شكري القوتلي” و”لطفي الحفار” وصولًا إلى “حسني الزعيم” (رئيس جمهوريّة) و”جميل مردم” و”محسن البرازي” (رؤساء وزارة). هذا ومن دون التّطرّق إلى أدوار رجال الدّين المسيحيّين والمحمديّين والدّروز وأسماء كبيرة لعبت أدوارًا معيبة في عملية بيع الأراضي. هذا ما كشفته وثائق سرّيّة من مخابرات اليهود وبالتّأكيد فإنّ ما بقي مخفيًّا… أعظم.
أمّا على الصّعيد العسكريّ، تأسّست منظمة “هاشومير” عام 1909، ولم يكن يتجاوز عدد أفرادها المئة وفي عام 1921 استبدلت بمنظمة “الهاجاناه”، وأثناء الحرب العالميّة الأولى تأسّست كتائب يهوديّة في بريطانية وأميركانية للمساعدة، وبعد انتهاء الحرب كانت هذه الكتائب مرابضة على أرضنا في فلسطين وتضمّ حوالي 5000 فردًا، وعرفت ب”الكتائب العبريّة” وعام 1920 تمّ حلّها وضمّ معظمها إلى “الهاجاناه”، وعام 1915 تمّ تأسيس منظمة “نيلي” في العبري “نيتساح يسرائيل لو يشاكير” أي “نصر إسرائيل مؤكّد” وهي منظّمة استخبارات سرّيّة وانتهت قبل انتهاء الحرب العالميّة الأولى. كما تأسّست منظّمة “الهاجاناه” عام 1920 وهي المسؤولة عن 90% من المجازر الّتي ارتكبت بحقّ أبناء شعبنا هناك وعن تدمير مئات القرى وتغيير معالمها وتحوّلت بعد إعلان “الدّولة اليهوديّة” إلى جيش تلك الدّولة وكانت تضمّ عند ذلك الوقت حوالي 36000 فردًا. وبين عامي 1936 و1939 أنشأت سلطات الإحتلال البريطانيّ منظّمة يهوديّة أسمتها “النوطريم” تعني “الحرس” لمعاونة “الهاجاناه” في مقاتلة السّوريّين أصحاب الأرض وحماية اليهود الغزاة.
بالإضافة إلى منظّمة “إتسل” أو “الأرجون بيت” هي اختصار لعبارة تعني “المنظّمة العسكريّة القوميّة في أرض إسرائيل” أنشئت عام 1937 وهي منظّمة عسكرية انشقّت عن “الهاجاناه”، ومنظّمة “ليحي” أو “شتيرن” أي اختصار لعبارة تعني “المحاربون من أجل حرّيّة إسرائيل” تأسّست عام 1940 بعد أن انشقّت عن “إتسل”. ومنظّمة “البالماخ” يعني “سرايا الصّاعقة” وهي القوّة الضّاربة لل”هاجاناه” تشكّلت عام 1941 وصل تعدادها عام 1948 حوالي 3000 فردًا.
بهذه المنظّمات العسكريّة المدرّبة بريطانيًّا بشكل كبير والمجهّزة بأحدث وأقوى أنواع الأسلحة، تمّت مقاتلة أهلنا المسلّحين بأسوأ أنواع الأسلحة، إذا وُجدت، والمقسّمين إلى مجموعات متفرّقة، متفرّقة جدًّا، فكرًا وإيمانًا وجيوشًا.
هذا هو المسار الّذي سلكه اليهود لتحقيق غايتهم، وبهذا الإصرار وهذا العناد وهذا التّخطيط تمكّنوا من تحقيق أهدافهم، الجزئيّة على الأقلّ، وبهذا التّضعضع والتّفتّت والتّخاذل واجهتهم أمّتنا الفاقدة وعيها لحقيقتها. ولكن، ولأنّنا نؤمن بحقيقتنا قبل كلّ شيء، نؤمن بأنّ وعينا لهذه الحقيقة سيعيد لنا ثقتنا بأنفسنا، نؤمن بأنّ نهضتنا كفيلة بمحق هذه الدّولة، فنحن مستمرّون بما بدأه الزّعيم عام 1949 مستمرّون بالبناء “العقديّ والحربيّ” وتشكيل جيشنا الّذي سيقرّر متى ستكون الحرب التّالية، حرب الحياة والموت، وأفضل ما يمكن أن نختم به هذا المقال هو مقتطفات مما قاله سعاده قبيل الاستشهاد في خطاب “برج البراجنة” :
“تلك الدولة الجديدة تقف اليوم متحدّية، يعلن أحد أقطابها أنّها تستعد حربيًّا لتملك بقيّة أرض يحدّدها ما بين الفرات والنّيل. نحن في الحزب القوميّ الاجتماعيّ كنّا نعلم مدى مطامع الخيالات اليهوديّة الوقحة. وقد حذّرنا من هذه الخيالات العناصر والفئات الّتي كانت تملك في سياسة الوطن أكثر مما نملك نحن، هذا الحزب الجديد النّاشىء الفتيّ. أخبرنا تلك الفئات، ونحن موقنون بأنّهم لن يأخذوا تحذيرنا بما يستحقّ من الاعتبار. لكنّنا حذّرنا كي لا يقال إنّنا لم نحذّر ولم ننبّه. إنّ تلك الفئات لم تكن مؤهّلة لقيادة شيء من المصير القوميّ. إنّها لم تكن تمثّل إرادة قوميّة. إنّها لا تمثّل اليوم إرادة قوميّة. إنّها لا تمثّل إلّا خصوصيّاتها الحقيرة الّتي لم ينتصر اليهود في شبر من الأراضي السّوريّة إلّا بفضلها هي.
إنّ اليهود قد انتصروا في الجنوب على يهودنا نحن، ولم ينتصروا على حقيقة الأمّة السّوريّة ولن ينتصروا على حقيقة الأمّة السّوريّة”.