الأمينة الأولى

وكيل عميد الإذاعة الرّفيق وجدي عبد الصّمد

   حتّى وبعد مرور 45 عاماً على رحيلها، أن تكتب عن الأمينة الأولى، في هذه الذّكرى،أمر في منتهى الرّهبة، ورغم كل التمسّك بالعقل والمنطق إلّا أنّ شعوراً جارفاً يتملّكك ويستحوذ على أفكارك حين تحاول الكتابة عنها.

   أطلق الزّعيم عليها اسم “ضياء” فيقول لها في رسالة منه بتاريخ 26 آذار 1940 “أنتِ جولييت أسميتك ضياء، لأنّك كنت ضياء لنفسي وسط ظلمة الحوادث والقضايا الّتي تكتنفني”. (من كتاب “رسائل إلى ضياء”).

   قالوا عنها “أمّ لجميع القوميّين” ومَن تطرّف في وصف مثاليّتها وتواضعها، في حنانها ولهفتها، قال أنّها قديسة وراهبة في الدّيانة القوميّة الاجتماعيّة، والصّحيح، وبعد التّجرّد من كلّ عاطفة، يكفي أن نقول أنّها “الأمينة الأولى”.

   هي “جولييت المير”، ابنة طرابلس الشّام، وُلدت في 17 كانون الأول 1909، هاجرت عائلتها إلى الأرجنتين ولها من العمر سبع سنوات، والدتها سيّدة محافظة (كما تروي الأمينة هيام نصرالله محسن في مقابلة لجريدة “الدّيار” / 9 آذار 2000) وتحمّلت مسؤوليّة تربية العائلة بعد استشهاد زوجها المبكر، شقيقها جورج انتمى إلى الحزب في الأرجنتين وهو من قام بتعريف العائلة على رسالة سعاده، ثمّ أمّن اللّقاء الأوّل في منزل العائلة وجمع الزّعيم بالوالدة والشّقيقات الثّلاث (كتالينا، ديانا وجولييت) على جلسة شاي، أي أنّ التّعرّف بالزّعيم أو اللّقاء الأوّل به كان في جلسة الشّاي تلك، في أيلول عام 1939، انتمت إلى الحزب، وتبعتها بعد يومين شقيقتها “كتالينا” ومن ثمّ “ديانا”، وبعد عام، وتحديداً في الثّلاثين من شهر أيلول 1940 فاجأ الزّعيم جولييت بالمحابس، “وتزوّجا زواجاً مدنيّاً في 27 كانون الثّاني 1941” (من مقابلة الأمينة هيام نصرالله محسن).

   قد يمرّ سؤالٌ في ذهن البعض، “هل تستحقّ الرّفيقة جولييت المير رتبة الأمانة؟ أم أنّها حازت عليها لمجرّد أنّها زوجة الزّعيم؟”.

   الجميع يعلم كيف كانت حياة الزّعيم منذ تأسيسه للحزب، أو فلنقل منذ انكشاف أمر التّأسيس، سجون وملاحقات واضطهادات وحتّى بعد سفره طالته أحكام السّجن والنّفيّ ومُنع من العودة وحتّى عند وصوله البرازيل سُجن لشهر ونيّف، فكان وصوله للأرجنتين في حالة يرثى لها، منهكاً متعباً، وتروي الأمينة الأولى في مذكّراتها كيف كانت تراقب نوعيّة أكله في حفلة الأوّل من آذار، وذلك قبل الارتباط، وثمّ بعد الزّواج كيف ساعد عمل الرّفيقة جولييت في إحدى المستشفيات كممرّضة في الاهتمام كثيراً بصحّة الزّعيم وأخذ كثيراً من صحّتها، ويكفي للاطلاع على معاناة هذه الرّفيقة قراءة مذكّراتها ورسائل الزّعيم إليها وإلى رفقائه في تلك الفترة لندرك مدى فداحة المعاناة ومرارة الألم الّذي عانت منه.

   بالإضافة لمشاركة الزّعيم كل المصاعب الّتي واجهته من خيانة أمناء ورفقاء إلى عمليّات احتيال ونصب في الأعمال الخاصّة، فهي قد أنجبت طفلتين هما “صفيّة” و”أليسار” في أسوأ ظروف مرّ بها الزّعيم صحيّاً وحزبيّاً وماليّاً، واضطرت للاعتناء بهما وبالزّعيم إلى جانب عملها المرهق، إن في المشفى أو في المتجر الّذي افتتحاه لاحقاً بقرض من شقيقها. ثمّ أنجبت “راغدة” بعد عودتهما إلى الوطن لتتابع رحلة المعاناة ومعها بناتها الثّلاث. فنقرؤها تقول في مذكّراتها ص.73: “كنت أشعر بتعبه، وكنت أتأثّر لتعبه، وأتمنّى أن أكون بخدمته الصّحّيّة، كنت أرافقه في صراعه، وأشعر بثقل العبء الضّخم الملقى على عاتقه وهو وحيد في غرفته لا أحد يدري بآلامه، ولا أحد يخفّف عنه هذه الآلام”.

   أمّا بالنّسبة للقب “الأمينة الأولى” فلا بدّ من التّوضيح أنّه لقب وليس رتبة، فلا يوجد في الدّستور رتبة اسمها “الأمينة الأولى”، بل هناك رتبة هي “الأمين” وللحصول عليها هناك شروط ملزمة. وقد يظنّ البعض أنّها “الأولى” لأنّها أوّل رفيقة تحصل على هذه الرّتبة وهذا غير صحيح فالأمينة “نجلا معتوق” هي أوّل رفيقة حصلت على رتبة الأمانة وأوّل رفيقة دخلت السّجن، والظّريف أنّ القوميّين كانوا يلقّبونها بالأمينة الأولى، وفي حديث مع الأمينة “نجلا” أجرتها مجلة “البناء-صباح الخير” عدد775 عام 1991 تقول جواباً على سؤال “كيف ومتى مُنحت رتبة الأمانة؟”، فأجابت “قبل مغادرة سعاده الوطن بفترة بسيطة متّجهاً إلى المغتربات بُلِّغت لحضور اجتماع لمجلس الامناء، فحضرت وهناك بُلِّغت منحي رتبة الأمانة، وكنت أوّل سيّدة بالحزب تمنح هذه الرّتبة وصار لقبي “الأمينة الأولى”، إلى أن عادت زوجة حضرة الزّعيم إلى الوطن، فاجتمع المسؤولون ورأوا أنّه من اللّائق أن تحمل زوجة الزّعيم لقباً حزبيّاً، خاصّة وأنّها كانت تساعده وتسهر على راحته وتوفّر له كل أسباب الاستقرار والطّمأنينة، وكانت له الرّفيقة والزوجة والمساعدة، وشاركته في كل مصاعب ومسؤوليّات الحياة الّتي كانت تواجهه وتواجه العمل الحزبيّ في مغتربه القسريّ. فوجدوا أنّ لقب الأمينة الأولى هو أفضل ما يمكن أن يطلق على زوجة سعاده. وهكذا فقد استدعوني وأطلعوني على رغبتهم، فتجاوبت معهم في الحال وتحمّست كثيراً للفكرة وكنت سعيدة أن أقدّم لرفيقة سعاده هذا اللّقب وتنازلت فوراً عنه، فأصبحت زوجة الزّعيم هي الأمينة الأولى، وصرت أحمل لقب الأمينة وهو اللقب المعروف لرتبة الأمانة”.

   أمّا كيف حصلت الرّفيقة جولييت المير سعاده على اللّقب، فنجد الجواب في النّشرة الرّسميّة عدد 15 عام 1947، حيث كُتب “لمّا قرب موعد وصول قرينة الزّعيم، أخذ الرّفيقات والرّفقاء يتساءلون عن اللّقب الّذي يخاطبونها به. وثاني يوم وصولها زارها عدد من الرّفيقات واجتمعوا إليها واقترحوا عليها أن تلقّب بالزّعيمة. فشكرت لهنّ محبّتهن وأبت أن تلقّب بالزّعيمة قائلة أنّ الزّعامة هي في شخص الزّعيم فقط وأنّها تشعر أنّها سعيدة إذ تكون رفيقة في الحركة القوميّة الاجتماعيّة، ثمّ أنّ الرّفيقات عُدْنَ إلى مجلس الزّعيم، وكان حاضراً بعض الأمناء والمسؤولين المركزيّين عدا عن جمهور من الرّفيقات والرّفقاء، فاقتُرِحَ أن تُمنَحَ الرّفيقة زوجة الزّعيم رتبة الأمانة وأن تلقّب الأمينة الأولى، فاستحسن الحضور هذا اللّقب الّذي حاز القبول”.

   بعد الاستشهاد الزّلزال، تروي الأمينة الأولى في مذكّراتها، وبكلمات تدمي القلب، الفترة الّتي سبقت ورافقت وتلت عمليّة الاغتيال، وكيف تمّ “توريطه” بالثّورة فتسأل سعاده، وقد آلمها ما يشعر به، عن مدى ثقته بنجاحها، فيجيبها “ولا خمسين في المئة” ويتابع شكواه “لقد رأيت أن تؤجّل هذه العمليّة وكتبت لرفقائي في لبنان (..) فأجابوا بأنّهم ليسوا مستعدّين للتراجع عن الثّورة، وإذا أردت تأجيلها، فهم سيمشون وحدهم” (من مذكّرات الأمينة الأولى)، هكذا أحيت معه لحظات الثّورة والخيانة والاغتيال بكلّ ما تحمل من أسى وحزن وخيبة ومرارة، وتعرّضت للإقامة الجبريّة في إحدى الأديرة إلى أن تمّت الإطاحة بحسني الزّعيم.

   سنوات قليلة مضت حتّى وقعت أحداث الشّام وما عُرف بعمليّة اغتيال المالكي، ففي عام 1955 اغتيل عدنان المالكي واتُّهِم الحزب وسيق من بقي من قادته في الشّام إلى السّجون ومن بينهم الأمينة الأولى، وقد كانت عضواً في المجلس الأعلى، حيث أمضت حوالي سبع سنوات في سجنها المهلك، بعيدة عن بناتها ورفقائها، ومن الجدير ذكره مجيء الرّفيقة “ديانا” شقيقتها (نالت رتبة الأمانة لاحقاً)، لرعاية البنات أثناء فترة السّجن. ثمّ خرجت من السّجن بسبب المرض، وغادرت إلى فرنسة حيث ابنتيها صفيّة وأليسار. توفّيت في 24 حزيران سنة 1976 من جرّاء مرضها الّذي أصابها أثناء الاعتقال.

   هذه هي الأمينة الأولى، هذه هي “جولييت المير سعاده”، أحدّثكم عن امرأة من بلادي حملت هموم الوطن جنباً إلى جنب مع الزّعيم، مع “الرّجل”، أحدّثكم عن “امرأة” من بدايات القرن العشرين، ضحّت وتحدّت، تحمّلت المسؤوليّات في أصعب الظّروف، واعتقلت، ولكم أن تقارنوا.

   منذ أن انبثقت هذه النّهضة وانبثقت معها هذه النّظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ، تغيّرت مفاهيم وانقلبت مقاييس، فلم تعدِ المرأة مكانها المطبخ، ولم يعد عملها الإنجاب وتربية الأطفال، منذ تلك السّاعة أصبح الرّجل والمرأة “ملكان متساويان” وأصبحنا ننظر إلى المجتمع بأنّه إنسان واحد لأنّ إيماننا أنّه مجتمع واحد.

   المرأة في النّهضة قد ناضلت واضْطُهدت، سُجنت واستشهدت، والأمينة الأولى ليست إلّا واحدة منهنّ، ولكن الإعلام في أمّتنا لا يزال يطمس هذه الأدوار ولا يعطيهن حقهن، وللحق فإنّ كتاباً صدر باللّغة الفرنسيّة، حول “جولييت المير سعاده”، للكاتبة اللّبنانية “ريجينا صنيفر” بعنوان “امرأة في مهبّ رياح سورية الكبرى” “Une femme dans la tourmente de la Grande Syrie” وهذه الكاتبة هي ممن لفظت “القوّات اللّبنانيّة” و”الكتائب اللّبنانيّة” وانبهرت بما قرأته في مذكّرات الأمينة الأولى وعن الزّعيم.

   رغم أنّها تستحقّ الكتب الّتي لا تُحصى والرّوايات الّتي لا تُعدّ، وأكثر، إلّا أنّها ستبقى في قلوبنا وعقولنا رمزاً من رموز النّهضة، ستبقى “الأمينة الأولى”.. و”ضياء” الزّعيم.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى