الانتخابات النّيابيّة… بين شياطين المذاهب وبائعي الأوهام
الرّفيق وائل ملاعب
كأنّ السّاعة الرّمليّة الّتي تحتسب الوقت المتبقي لإجراء الانتخابات النّيابيّة في لبنان، يختلّ توازنها بين الحين والآخر فتنقلبُ رأساً على عقب ليبدأ العدّ من جديد، وما إن تشعر أنّ هذا الاستحقاق يدنو، حتى تسمع وتشعر برفسةٍ من هُنا وهُناك تُبعدهُ إلى ما وراء المدى المنظور.
في كلتا الحالتين، سواء حصل الاستحقاق الانتخابيّ في موعده، أو تمّ تأجيلهُ مرةً وأكثر، فإنّه على أرض الواقع يبقى الاختبار الأوّل الحقيقيّ لمفاعيل مرحلة 17 تشرين 2019 وما تلاها.
وكما في كلّ ما يتعلّق بهذا الوطن الأحجية، فإنّ النّظرة إلى الاستحقاق الانتخابيّ المقبل تجمع تناقضاتٍ عدّة وحساباتٍ متقابلة ومشاعر متضاربة. ففي الوقت الذي نتلمّس فيه احتدام الانقسام التقليديّ بين “الأحزاب” اللّبنانيّة المتوزّعة على محاور إقليميّة ودوليّة معروفة، ونرى حركة ونشاط هذه الأحزاب التّجييريّة والتّحفيزيّة الرّائجة في مواسمٍ كهذه، مع ما يتخلّلها من استغلالٍ للضيقة المعيشيّة الخانقة، وكلّ ما ينتج عن هذا النّشاط من إعادة تأطير التّوجّهات بإطارها التقليديّ، لا يمكننا في الوقت نفسه أن نغفل عن حالةٍ “عاطفيّة” واسعة تجوب الفئة الشّبابيّة على مساحة الوطن، متفائلة بتبدُّل المزاج الشّعبيّ وإمكانيّة إحداث ثغرة في جدار الأمر الواقع، بغضّ النّظر عن واقعية هذه العاطفة وحجم ترجمتها الفعليّ، إلّا أنّ النّشاط على هذا المقلب لا يقلّ أهميةً عن نشاط “الأحزاب”، حتى أنه يتفوّق عليها سعياً وإمكانات علميّة وعمليّة خصوصاً في دول الاغتراب.
وإذا كانت كلّ الاستحقاقات السّابقة منذ عام 2005 حتى 2018، قد خيضت “شكلاً” بين نقيضيْن استراتيجيَّيْن على شاكلة 8 و14 آذار، فإنّ المعركة هذه المرة قد قُدِّرَ لها أن تحمل شعاراً نظاميّاً بنيويّاً شكليّاً لتُصبح بين “أحزاب” و”مجتمع مدنيّ”.
لا شكّ في أنّ من عمل على التّرويج لهذا العنوان الكارثيّ، يعي تماماً أيّ معتركٍ يخوض، “فالأحزاب” بمعناها العلميّ وتاريخها التكوينيّ، يُفترض أن تكون هي التعبير الأمثل والأسلم لتعريف “المجتمع المدنيّ”، فكيف تصبح في لبنان هدفاً له؟
وإذا سلّمنا بالتّشويه المتعمد للفكرة، على أنّ الأحزاب هي النّقيض أو الخصم أو العدوّ، فهذا يعني أنّنا لا بدّ وقد استبدلنا هذا الإطار الاجتماعيّ السّياسيّ بإطارٍ آخر، فهل من الممكن أن نكون قد استبدلناها “دون أن نشعر” بالنّوادي والجمعيّات والمنظّمات الحكوميّة وغير الحكوميّة المترامية الأطراف والامتدادات؟
هذا التّرويج الخاطئ لطبيعة المعركة، سواء الانتخابيّة المقبلة أو الحياتيّة اليوميّة، يُبعدنا شيئاً فشيئاً عن الاستهداف الأساسيّ المنوط بحركات وشخصيّات المجتمع المدنيّ، وهو تحرير العمل الحزبيّ ومفهوم الأحزاب من أغلال الإقطاع والطائفيّة وبراثن الاستعمار والتّسييس الدّينيّ، والانقضاض على جذور هذا النّظام الذي لا يسمح بعمل حزبيّ سليم، وإعادة الأحزاب إلى كنف المجتمع الواحد للارتقاء به، بدل تشويه المفهوم الأساسي واستبداله، باللا-قاعدة واللا-نظام واللا-إدارة واللا- قيادة… وحكماً اللا-أفق.
إنّ ما يُعرف بالأحزاب اللّبنانيّة بغالبيّتها السّاحقة، هي منتحلة صفة، وهذا الانتحال مفضوحٌ للجاهل والعالم، فهي لا تعدو كونها تجمعاتٍ طائفيّةٍ عرقيّةٍ مذهبيّةٍ مصلحيّةٍ لا ترتقي إلى مصاف الاجتماع البشريّ العلميّ الحديث، ولا تكتمل فيها شروط وقواعد الأحزاب المدنيّة العصريّة، فكيف إذاً تكون معركتنا مع “الأحزاب”!! بدل أن تكون مع النّظام الذي أعطى هذه العشوائيّة الاجتماعيّة صفةً راقيةً لا تستحقها وهي صفة الأحزاب.
معركتنا قبل كلّ شيئ، يجب أن تكون مع التّجهيل المتعمد، والتّرويج المدفوع لمصطلحاتٍ مشوّهة، ومعارك وهميّة تُخاض بعواطف النّاس الّذين يتوقون إلى التّغيير.