التّطبيع: أدوات ووسائل

كتب الأمين وليد زيتوني

لا شكّ أنّ أفظع ما يصيب الأمم هي ضرب بنيتها الفكريّة، الثّقافيّة، الحضاريّة وأخلاقها الجمعيّة والّتي تؤدّي بطبيعة الحال إلى التّشرذم والتّقوقع والتّشظّي إلى شبه مجتمعات عشائريّة وقبليّة وإثنيّة ومناطقيّة بعيدًا عن وحدة الحياة ووحدة المجتمع المتكامل. وهو ما يعيق، بل يعدم إمكانيّة النّهوض والارتقاء بالأمّة، فتصبح تابعة مجرورة لمصالح الأعداء.

هي الحال في أمّتنا الأن، والحقّ يقال أنّ هذا التّدمير الممنهج لم يتم بين ليلة وضحاها، بل يمتدّ إلى عمق التّاريخ الحديث. فمنذ أواسط القرن السّابع عشر، وبالتّوازي مع حملة إبراهيم باشا على بلاد الشّام، تنطّحت الدّول الغربيّة الكبرى آنذاك للقيام بهذا المشروع، فكانت الإرساليّات التّبشيريّة والتّعليميّة الاستشراقيّة من جهة، يقابلها الدّعاة المحرَّكين تركيًّا بطريقة مشبوهة من جهة أخرى، يزرعون بذور التّفرقة والتّعصّب الدّينيّ والمذهبيّ.

إنّ ما نشهده اليوم على ساحتنا من حرب ناعمة ليس إلّا حصاد السّماح لتلك الأفكار من التّغلل في بيئاتنا ومجتمعنا.

مسألتان تدفعانني لاستعادة هذا الكلام اليوم، الأولى ما صدر عن ماسمي مؤتمر العشائر “العربيّة” في أربيل، والثّانية ما يحكى عن مشاريع استجرار الغاز والطّاقة إلى الكيان اللّبنانيّ باعتباره سمًّا في دسم إنقاذ هذا الكيان المتهاوى نحو الانهيار.

لن أستفيض في المسألة الأولى باعتبارها نتاج علاقة التّبعيّة القديمة للإنكليز، وقد ظهرت جليًّا في حرب الولايات المتّحدة الأميركانيّة على العراق عام 2003 ومدى عمق ارتباط بعض العشائر وبعض الشّخصيّات بالإيحاءات والإملاءات الإنكليزيّة. ويمكن القول أنّ الولايات المتّحدة لم تنتصر بجيشها قبل أن ينتصر الإنكليز بالاختراقات الاجتماعيّة والشّعبيّة.

أمّا المسألة الثّانية، فهي الأخطر والأهمّ في وقتنا الحاضر، لقد دأب الاستدمار “الاستعمار” على اعتماد نظريّة “أدم سميث” المنفعة الحدّيّة في تعاطيه مع الشّعوب المستهدفة ومنها شعبنا، أي أن يحاصرنا حتّى الاختناق فنقبل بشروطه مقابل إعطائنا النّذر القليل من حقّنا الطّبيعيّ.

بكلام آخر أن نعطي كلّ شيء في السّياسة وفي الاقتصاد والثّروات والحقوق السّياديّة مقابل الرّغيف.

لا نقول هذا الكلام جزافًا، بل بالشّواهد الّتي تنطق بها الإدارة الاميركانيّة، فعندما تقول “مادلين أولبرايت” وزيرة الخارجيّة الأميركانيّة السّابقة إنّ “لدى الولايات المتّحدة مروحة من وسائل الإقناع، تبدأ بالهمس ولا تنتهي بالأساطيل”. فهذا هو المنهج الرّسميّ والفعليّ الّتي تتبعه الولايات المتحدة الأميركانيّة في سياستها الخارجيّة مع الشّعوب، وهي نفسها أولبرايت حاولت ذلك مع الرّئيس المقاوم إميل لحّود أثناء ترسيم الخطّ الأزرق مع العدوّ اليهو-ديّ والواقعة يعرفها الجميع.

يبدو الآن أنّ ترسيم الحدود البحريّة والتّطبيع واستباحة الأراضي السّوريّة في الشّام والعراق وإذلال الأردن هو المطلوب. بمعنى آخر التّنازل عن السّيادة وسرقة الثّروات الطّبيعيّة والسّيطرة والهيمنة على كياناتنا استوجب قانون قيصر بعد فشل الحرب البربريّة في الشّام والعراق، بيد أنّ سقوط قانون قيصر بكسر الحصار أوجب الولايات المتّحدة الأميركانيّة عبر سفيرتها في بيروت اعتماد نظريّة “سبينوزا”، نظريّة العصا والجزرة وهي مضمون مشروع استجرار الطّاقة “كهرباء وغاز” من الأردن ومصر ظاهريًّا، ومن الكيان الغاصب فعليًّا.

فهذه الجزرة الّتي تقدّمها الولايات المتحدة الأميركانيّة في اليد اليسرى يرافقها عصا التّطبيع الاقتصاديّ في اليد اليمنى.

إنّ هذا التّطبيع الخجول عبر ربط أقلّ حاجاتنا بمزاجيّة الكيان الغاصب، سيعقبه تطبيع كامل عبر العصا الأميركانيّة الغليظة مع تنازل كلّيّ عن حقوقنا في الثّروة النّفطيّة والغازيّة برًّا وبحرًا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى