الحالة السياسية – الحربية الحاضرة
منذ مدة طويلة لم نعد إلى هذا الباب بسبب اهتمامنا يشؤون حالتنا الداخلية أولاً، ولأن الحوادث الحربية والسياسية التي عقبت احتلال الأنكلوسكسون جزيرة صقلية وحصول الانشقاق الإيطالي كانت حوادث سياقية. لا شيء خارق فيها إلى أن كان مؤتمر موسكو بين وزراء خارجية بريطانية وأميركانية وروسية، ومؤتمر القاهرة بين رئيس أميركانية ورئيس الصين ورئيس الوزارة البريطانية. ومؤتمر طهران بين رئيس أميركانية ورئيس روسية ورئيس الحكومة البريطانية. وفي هذه المؤتمرات كانت الزوبعة تنتظر رأي مرجع رسمي للنهضة السورية القومية الاجتماعية لتعرف موقف سورية، وتتمكن من تعيين أهمية هذه الحوادث السياسية. وقد نشرت الزوبعة منذ عددين خطاب الزعيم فى بدء العام الثاني عشر لنشوء الحركة السورية القومية الاجتماعية الذي اشتمل على موقف الحركة من المؤتمرات المذكورة وأهمها مؤتمر موسكو بين الدول الثلاث الكبرى التي خصّت نفسها به وقررت نطاق الأمور التي يجب أن يتناولها (أنظر ج6 ص 451). وفي صدد هذا المؤتمر اعلن الزعيم في خطابه المذكور، أسفه وأسف الحركة السورية القومية الاجتماعية أن لا تكون هذه الحركة من التكامل والقوة بمكان يخوّلها المطالبة بإيضاح عما يمسّ سورية ومستقبلها القومي من مقررات مؤتمر موسكو ومؤتمر طهران الذي كان تثبيتاً له.
بعد هذه المؤتمرات ومن سياق الحوادث التالية ابتدأت تظهر نتائج سياسية وحوادث ذات بال وسنحلل أهم هذه الحوادث في ما يلي:
قلنا في الأعداد السابقة إنّ احتلال الأنكلوسكسون شمال أفريقية كله وبلوغهم صقلية وشواطئ إيطالية وخسارتهم جيشهم في جبهة ستالينغراد قد غيّرت الحالة الحربية تغييراً ظاهريًّا كبيراً، فصار المد في الجانب الأنكلوسكسوني – الروسي، وصار الجزر فى الجانب الألماني. ولكننا تساءلنا هل يكون هذا الانقلاب نهائيًّا أم ينتظر حصول تغيير جديد بعد أن يفند قسم من زخم الهجوم الروسي، وبعد أن تحشد ألمانية قوات ومعدات حربية جديدة وتتمكن من ربح معارك كبيرة وتوقيف المد المعاكس. والجواب كان يتوقف على معرفة أشياء كثيرة عن حالة ألمانيا الداخلية ومقدار إنتاجها الحربي ومدى التجنيد الجديد.
الحقيقة أنّ عدم تمكن المجهود الحربي الألماني الأخير من الاستيلاء على كل منطقة القوقاز وقطع نهر البلقا عند ستالينغراد دل على أنّ المجهود الحربي الألماني بلغ في سنة 1942 معظم مدى امتداده، إذ لو كان في مقدور القوة الألمانية زيادة ضغطها في جنوب روسية من غير تعريض مواقفها في الجبهات الأخرى للخطر لما كان هنالك مبرر لتوقيف الهجوم قبل الاستيلاء على منطقة القوقاز كلها وكل مدينة ستالينغراد وما جاورها على مجرى نهر البلقا. وزاد الحالة وضوحاً عدم تمكن القوات الألمانية من الثبات إلى أن يمكن إنقاذ الجيش القائم فى ستالينغراد، فكان فقد ذلك الجيش نكبة جندية من الطراز الأول.
بقيت هنالك مسألة مقدرة ألمانية على التعويض عن خسائرها في الرجال والعتاد بمقدار يسمح لها في مدة معينة من ردّ ضربات أعدائها. ولما كانت هذه المسألة تحتمل شكوكاً كثيرة بإمكان انتصار ألمانية، وصارت دول مثل إسبانيا وتركية تعدل موقفها وسياستها كما يتفق مع الحالة الجديدة.
مما لا شك فيه أنّ أهم ظاهرة حربية سياسية في هذه الحرب هي ظاهرة القوة الروسية الحربية التي جاوزت تقديرات حلفائها أنفسهم. فقد تمكنت هذه القوة من تجهيز احتياطي كثير، والاستفادة من نفاد قوة الهجوم الألماني لتطويق ستالينغراد، وأسر جيش ألماني بكامله، والقيام بهجوم مستمر شمل الخطوط الحربية في روسية كلها.
ولكن الالمان تمكنوا من تعديل للموقف كثيراً في إيطاليا والبلقان، وجعلوا التقدم الأنكلوسكسوني في إيطاليا بطيئاً جدًّا وأوصلوه أحياناً على حالة الجمود. وعلى نسبة تعاظم شأن القوة الروسية أخذ يتعاظم نفوذها السياسي تجاه بريطانية وأميركانية وفي مناطق كثيرة من أوروبة، حتى ليمكن القول إنّ روسية قد فرضت سياستها على شرق أوروبة وجنوبها، وأدخلت ضمن نطاقها شؤون البحر المتوسط. ويمكن القول إن سياسة التراجع الألماني في روسية فيها بعض التفضيل والاختيار من جهة الألمان لوضع سياسة بريطانية وأميركانية تجاه المطامح الروسية ولتقليل نفوذ بريطانية في أوروبة.
في جميع القضايا والمسائل السياسية الجوهرية في حالة أوروبة الشرقية والجنوبية يظهر فوز السياسة الروسية. في قضية بولونية (أو بولندة) ومسألة حدودها، وفي قضية صقالبة الجنوب (يوغوسلافية) وفي مسائل الفرنسيين المحاربين وإيطالية وإسبانية يشتد التدخل الروسي.
إنّ أتعس حالة هي حالة بولونية التي تدفع اليوم ثمن السياسة الخرقاء التي سلكتها حكومتها برفضها أن تكون إما مع ألمانية أو مع روسية جارتيها القويتين. ففي حين كانت بولونية تريد مقاومة مطاليب الألمان في دنتزغ ومحاربتهم من أجل الاحتفاظ بالممر البولوني إلى البحر، كانت ترفض المساعدة الروسية إلا على شرط أن لا يدخل جيش روسي أرضها. والآن تدفع بولونية ثمن غلطها الفاحش وتعلم بالاختبار إنه حين لا يدخل أرضها جيش روسي يدخلها جيش ألماني، وحين لا يدخلها هذا يدخلها ذاك، والجيش الروسي يسير في أراضي بولونية أشاءت الحكومة البولونية أم لم تشأ، وحدود بولونية إذا لم تقصر في الغرب تقصر في الشرق. وبريطانية التي أعلنت الحرب على ألمانية “قياماً بتعهدها لبولونية” تجد أنه يجب قبول وجهة النظر الروسية، وانّ روسية على حق في تعديل الحدود البولونية من الشرق لتحصين جوانبها.
وحكومة الملك بطرس في صقالبة الجنوب التي انتقضت على الاتفاق الذي عقدته حكومة الوصي على التاج مع ألمانية بالسماح للجيوش الألمانية بالمرور بأرضها إلى ألبانية، تجد أنها لن تفوز بشيء من انتصار بريطانية وروسية، لأن روسية قد فرضت سياستها في بلاد صقالبة الجنوب، ومنذ مدة اختفى من البرقيات والصحف اسم القائد ميخائيلوفش الذي يشغل وظيفة وزير الحربية في حكومة الملك بطرس اللاجئة إلى بريطانية أولاً وإلى مصر ثانياً، وحلَّ محله إسم القائد تيتو الذي تبنته روسية.
مع جميع هذه التغييرات التي لا تودها السياسة البريطانية والسياسة الأميركانية، فإن هاتين الدولتين لم ترتكبا الغلط الذي ارتكبته ألمانية بمهاجمتها روسية قبل القضاء على بريطانية بالاستيلاء على إنكلترة واسكتلندة. فبريطانيا وأميركانية تجاريان السياسة الروسية الآن إلى أن يكون قد تم القضاء على ألمانية، ثم تتفرع كل منهما لمعالجة المشاكل الناشئة عن امتداد النفوذ الروسي. وفي هذه المسألة ظهر في الأخير تفوّق السياسة البريطانية أو الانكلوسكسونية على السياسة الألمانية، وفيها يظهر مقدار غلط ألمانية السياسي الذى لم يكن فقط في مهاجمة روسية. بل أيضاً فى إغفال قواعد علاقات سياسية أخرى مع أمم ودول غيرها. وقد سترت انتصارات ألمانية الأولية أغلاطها السياسية، حتى ارتكبت الغلط الأخير بالإقدام على مهاجمة روسية قبل تقرير مصير بريطانية، فانكشف ضعف سياسة هتلر أو سياسة ألمانية الاشتراكية القومية التي لم تختلف عن سياسة ألمانية السابقة إلا في تفاصيل جزئية. بينما ظل أساسها الاعتماد على القوة الحربية الخاصة لتغيير وضع العالم. واعتمادها القوة الحربية جعلها تهمل ضرورة الحلفاء والأعوان، وتستخف بقضايا أمم لو تجمعت لكان لها شأن. وكانت حليفتها الكبرى في أوروبة، إيطالية، مغترَّة بخيالات تاريخية قديمة وذات مطامع أوسع مما في مقدرتها الاستيلاء عليها. فكانت سياستها في المتوسط تجاه سورية استعمارية بحتة فلم تتمكن من التفاهم مع الحركة السورية القومية الاجتماعية العاملة لتوحيد سورية والنهوض بها إلى السيادة والاستقلال وفضَّلت المناورات الاستعمارية القديمة فقربت إليها البطريرك الماروني، وأقامت لنفسها عمالاً كالأستاذ يوسف السودا وجواسيس عديدين وأخذت تنشىء في المناطق المسيحية مدارس إكليريكية تزاحم المدارس الإكليريكية الفرنسية الصبغة. ثم جاء الحاج أمين الحسيني إيطالية هارباً من وجه الإنكليز في العراق فاحتضنته. وألمانية لم تتدخل تدخلاً يمكن أن يعدّل مجرى السياسة الإيطالية. فكأن الدولتين اتفقتا على أن تطلق كل منهما يد الأخرى في الدائرة التى تحسبها “المجال الحيوي لها”.
رأت سياسة ألمانية الاستغناء عن الأحلاف وعلى نقيضها سياسة بريطانية التي لا تكلّ عن طلب الأحلاف حتى في صفوف أعدائها. وقد تحملت بريطانية صفعة روسية لها ولفرنسة سنة 1939 حين اتفقت سرًّا مع ألمانية على اقتسام بولونية بينما كانت تتظاهر بالعمل للتحالف الحربي مع بريطانية وفرنسة. وبعد انقطاع العلاقات بين الدولتين عادت بريطانية إلى التقرب إلى روسية والطلب إلى هذه الدولة السماح لها بإرسال مندوب فوق العادة إلى أن تم لها ما أرادت، وأرسلت سر ستافورد كرفس الذي نجح في مهمته ولم يلاقِ من الجانب الألماني صعوبات ومناورات جدية لإحباط مساعيه. فكأن ألمانية كانت راغبة، بعد سحقها فرنسة، في حصول أسباب تؤدي إلى نقض المحالفة بينها وبين روسية لتنقضَّ على هذا الخصم وتحقق عقيدة “الزحف شرقاً”.
بعد سحق هولندة وبلجيكة وفرنسة ظنت ألمانية أنّ الغرب قد أصبح مأموناً
ولكي تزيد الوقاية أخذت تنكّل بالمدن الصناعية البريطانية واحدة بعد الأخرى وفي الوقت عينه تتأهّب للانقضاض على روسية. ولكن بريطانية بقيت حرة وشيئاً فشيئاً أخذت تعيد صناعتها وصارت تصل إليها القوات الأميركانية وتحتشد فيها إلى أن تمكنت من تشكيل جيش مختلط كبير واجتياح أفريقية وجزيرة صقلية وشواطئ إيطالية.
ومع كل مظاهر التراجع الألماني لا يمكن الجزم بمبلغ ضعف ألمانية او قوّتها. فقد يكون بعد هذا السكون هبوب عاصفة حربية شديدة و لكن المواقع الاستراتيجية صار معظمها في جانب أعدائها. ويجب أن لا يفوت الناقد أنّ ألمانية لم تتمكن من حمل شعوب البلطيكي على التجند بكثرة في صفوفها، ولا من استمالة الشعب الفرنسي إليها، ولا من حمل إسبانية على شهر الحرب على بريطانيا وتقوية جبهة المتوسط وأفريقية، فلم يكن لنجاحها السياسي الأولي استمرار منطقي وعملي.
أما إيطالية فحالتها شاذة ولا وجود لها كقوة عاملة حربيًّا أو سياسيًّا. وقد صحَّ في ملكيتها ما كانت الزوبعة أول صحيفة في العالم تنبأت بحدوثه إذ قالت، بعد تحليل إنشقاق الملك وحزبه عن الموقف السياسي المتّخذ سابقاً، أنّ عمل الملك قد فتح مسألة الملكية في إيطالية، ووضع على بساط البحث أمر تقرير مصيرها، فلم تمضِ أشهر أو أسابيع قلائل، حتى أعلن كبار مفكري الجبهة اللافاشستية أيضاً وسياسييها وجوب تنازل الملك فكتور عمانوئيل الثالث وولي عهده. فكان خلع الحزب الفاشستي الملك وإعلان الجمهورية معبّراً عن إرادة الأكثرية الساحقة من الشعب الإيطالي. ولكن تضارب المصالح الإنترناسيونية قد أبقى على الملكية الإيطالية حتى الآن.
وأمَّا في المحيط الهادئ فاليابان أيضاً تتقهقر في الجزر الأمامية بعد أن بلغت معظم امتداها في جزيرة غينية الجديدة أمام أسترالية. ولكن اليابان تمكنت من إنشاء دول حرة تحت نفوذها في الفيلبين وغيرها، وأوجدت حلفاء لها تجد فيهم ولو بعض المعاونة الحربية والحرب معها ستكون مضنية.
العالم ينتظر الآن قيام الأنكلوسكسون بالهجوم على غرب أوروبة. فإذاحدث هذا الهجوم قريباً فسيظهر ما تخبئه ألمانية من قوة وضعف. ويبعد، على الغالب، حدوث انهيار سريع في ألمانية.
بعد كتابة ما تقدم تتابعت البرقيات المعلنة أحداثاً ذات أهمية سياسية – حربية، فقد أرسلت ألمانيا فيالق من جيشها لأخذ مواقع استراتيجية هامة في بلاد المجر، وعزّزت قواتها قي رومانية وبلغارية. وتقول برقيات المحور البريطاني – الأميركاني إنّ هذه التدابير هي تدابير احتلال عسكري للمجر ورومانية وبلغارية. أما إذاعات برلين
فتقول إنّ هذه الحركات العسكرية هي جزء من المساق الواجب تنفيذه لمواجمهة الأخطار المقبلة التي لا تتمكن المجر وحدها ولا رومانية وحدها ولا بلغارية وحدها ولا هذه الدول الثلاث مجتمعة من دفعها. فاقتراب الجيوش الروسية من البلقان يقتضي اتخاذ الجيش الألماني التدابير التي يراها أفضل لمقاومة العدو الزاحف من الشرق.
مما لا شك فيه أنّ تدابير ألمانية العسكرية المذكورة. سواء أكانت احتلالاً عسكريًّا لبلاد الدول الصغيرة الحليفة، أم إنجاداً لها بالجيوش والعتاد، تدل على أنّ ألمانية تريد أن تسبق الحوادث المقبلة، وأن لا تنتظر حدوث مثل ما حدث في إيطالية حين اقترب الجسر البريطاني – الأميركاني من شواطئها.
أهم ظاهرة في هذه التدابير هي أن ألمانية لم تفقد حيويتها ولم تتضعضع، وأنه لا تزال لها مقدرة حربية لا يستهان بها. والظاهر أنّ ألمانية تتأهب لمواجهة المجهود الحربي المقبل حين يقرر الأميركان والبريطانيون الهجوم على شواطىء أوروبة الغربية. وفي هذه الحالة يصح توقع حصول مفاجآت حربية ذات بال.
ومن أهم الأخبار الأخيرة الفاسحة المجال لتكهنات جديدة، ما ورد عن الحملة اليابانية على الهند برًّا من بورمة. هذه الحملة هى ذات مغزى خطير لأنها جاءت بغتة بينما اليابان متخذة خطة الدفاع بحراً في الجزائر الصغيرة المنتشرة في جنوب المحيط الهادىء الغربي.
إنّ طريقة هذه الحملة اليابانية الجديدة وكيفية حدوثها لا تدلاّن على خطة اليأس، بل على تدبير هادىء محكم. لقد أحرزت هذه الحملة نجاحاً أوليًّا خطير الشأن. وهذه النتائج الأولية هي أعظم خطراً من نتائج الحملة البريطانية – الصينية المزدوجة على بورمة. فالحملة اليابانية تتقدم في بلاد أظهرت اشتياقها إلى التخلص من
النير البريطاني وأعلنت بواسطة حزب المجمع الهندي رغبتها في الاستقلال التام ومقاومة بريطانية للوصول إلى غايتها. أما النير الياباني في بورمة فلا يزال جديداً والسياسة اليابانية تعتني بجعله خفيف الوطأة، خصوصاً في هذا الطور الأولي.
بعد كتابة القسم الأكبر من هذا المقال أخذت الحالة الحربية في أوروبة تتطور بسرعة رائعة كما كانت تتطور في بدء هذه الحرب الطاحنة. فقد وصلت الجيوش الروسية إلى رومانية وتشكوسلوفاكية، وأحدق الخطر بألمانية من جهة الشرق. وبعد أن اكفهر وجه الغرب منذ ابتدأت الغيوم تتلبد في هذه الجبهة منذرة بعواصف وأعاصير. ولما كنا لا نعرف، حقيقة، ما تخبئه ألمانية للأيام العصيبة المقبلة فلا يمكن التكهن بأكثر مما قلنا في سياق هذا المقال.
هاني بعل
الزوبعة، بوينُس آيرس،
العدد 75، 15/4/1944