الحرب الرّوسيّة – الأوكرانيّة وتداعياتها: الاقتصاد العالميّ على المحكّ؟
عميد الاقتصاد الرّفيق فادي قانصو
خلال الأشهر القليلة المنصرمة، اتّجهت أنظار المحلّلين والخبراء حول العالم نحو القارّة الأوروبيّة في ضوء الصّراع المحتدم بين روسيا وأوكرانيا الّذي تمخّص عنه حرباً عسكريّة مستمرّة منذ أكثر من أسبوعين، أرخت بثقلها بشدّة على الواقعين الجيوسياسيّ بشكلٍ عام والاقتصاديّ بشكلٍ خاص، وهو ما حمل في طيّاته تداعيات جمّة على أسعار السّلع والطّاقة الّتي ارتفعت بشكلٍ ملحوظ، عزّزت معها لجوء المستثمرين نحو الملاذات الآمنة، وأرخت بثقلها على العُملات كاليورو بشكلٍ خاص وعلى أسواق الأسهم العالميّة بشكلٍ عام.
عالميّاً، كان للحرب القائمة وقعاً ملحوظاً على أسعار السّلع والمواد الخام من الطّاقة إلى القمح والمعادن المختلفة الّتي ارتفعت أسعارها العالميّة إلى أعلى المستويات منذ عدّة سنوات، حيث عطّلت العقوبات الغربيّة الشّحنات الجوّيّة والبحريّة للسّلع الّتي تُنتِجها وتصدِّرها روسيا. في الواقع، ارتفعت أسعار خام برنت بأكثر من 50 في المئة لتخترق حاجز الـ140 دولار للبرميل وذلك للمرّة الأولى منذ العام 2008، قبل أن تعاود تراجعها بعض الشّيء إلى حدود 120 دولار للبرميل بفعل تحرير جزء من مخزونات بعض الدّول الكبرى لتهدئة السّوق. وقد تفاعلت الأسواق مع اضطرابات الإمدادات النّاجمة عن الحرب الرّوسيّة واحتمال فرض حظر على النّفط والغاز الطّبيعيّ الرّوسيّ، حيث تجنّب المشترون والشّاحنون بشكلٍ متزايد إمدادات النّفط الرّوسيّة. في موازاة ذلك، سجّلت أسعار الغاز البريطانيّة والأوروبيّة والأميركانيّة مستويات قياسيّة مع الفوضى القائمة في أسواق الطّاقة، إذ ارتفعت أسعار الغاز الأوروبيّ من حوالي 1,000 دولار لكلّ ألف متر مكعّب في كانون الثّاني الفائت لتلامس اليوم عتبة الـ4,000 دولار لكلّ ألف متر مكعّب، ممّا يهدّد بتفاقم أزمة تكلفة الإنتاج والنّقل والتّدفئة، مع الإشارة هنا إلى أنّ روسيا تعدّ ثاني أكبر منتِج للخام في العالم ومزوِّد رئيسيّ للغاز الطّبيعيّ إلى أوروبا حيث توفِّر حوالي 35 في المئة من إمدادات أوروبا بالغاز. كما وتمتلك روسيا أكبر احتياطيّ غاز في العالم، وهي تستحوذ على ما نسبته 20 في المئة من الاحتياطيّات العالميّة من الغاز، وهي ثاني أكبر منتِج للغاز بعد الولايات المتّحدة الأميركيّة مع ما نسبته 17 في المئة من إجمالي إنتاج الغاز العالميّ. في حين أنّ روسيا تعدّ ثالث أكبر منتِج للنّفط مع ما نسبته 12 في المئة من الإنتاج العالميّ، وهي تستحوذ على ما نسبته 6 في المئة من احتياطيّات النّفط حول العالم، لتحتلّ بذلك المركز السّادس عالميّاً.
في المقابل، ارتفعت أسعار المواد الخام من القمح إلى المعادن المختلفة إلى أعلى مستوياتها منذ عدّة سنوات. إذ تعدّ روسيا وأوكرانيا من أكبر مصادر القمح في العالم، والّذي ارتفعت أسعاره إلى الذّروة منذ 14 عاماً، بعد أن ارتفعت بما يقارب من 60 في المئة منذ الحرب الرّوسيّة، لتلامس عتبة 124.9 دولار للبوشل (كل بوشل يساوي حوالي 27 كيلو). في الواقع، تستحوذ روسيا وأوكرانيا معاً على ما يقارب من 25 في المئة من صادرات القمح العالميّة، وحوالي 20 في المئة من صادرات الذّرة و80 في المئة من صادرات زيت دوار الشّمس. كما وتعدّ روسيا أيضاً مورداً رئيسيّاً لمجموعة كبيرة من السّلع، بما في ذلك الألومنيوم والنّحاس والنّيكل والبلاديوم. فقد سجّل الألمنيوم مستويات قياسيّة، بينما كان النّحاس حيث توفّر البلاد 3.5 في المئة من الإمدادات العالميّة، يقترب أيضاً من أعلى المستويات القياسيّة على الإطلاق. هذا وارتفعت أسعار الذّهب متجاوزة عتبة الـ2,000 دولار للأونصة ومتطلّعةً نحو أفضل مكاسب لها منذ مايو 2021.
إقليمياً، إنّ التّداعيات الاقتصاديّة للحرب تختلف من دولة إلى أخرى، وتحديداً بين الدّول المصدِّرة للنّفط وتلك المستورِدة له، مع الإشارة إلى أنّ حجم التّبادل التّجاريّ بين دول العالم العربيّ وروسيا وصل إلى 18 مليار دولار في العام 2021، وفق وزارة الصّناعة والتّجارة الرّوسيّة. ولكن ثمّة علاقات أخرى تشمل الاستثمار بين الطّرفين. إذ أنّه في العام 2019، نفّذت شركات عربيّة وروسيّة نحو 400 مشروع بتكلفة تبلغ 40 مليار دولار، كان نصيب المصارف الرّوسيّة منها 25 مليار دولار.
هذا ويُعدّ القمح وحديد التّسليح أهمّ سلعتين تستوردهما دول العالم العربيّ من روسيا وأوكرانيا، وتقوم بعض هذه الدّول، ومنها مصر، بتصدير بعض الفواكه والموالح والخضراوات إلى روسيا وأوكرانيا. في المقابل، من الطّبيعيّ أن تستفيد دول العالم العربيّ المصدّرة للنّفط والغاز من ارتفاع أسعار الطّاقة، فحصّتها من الصّادارت النّفطية على مستوى العالم تبلغ 24 في المئة، وهنا تشير تقديرات سابقة لصندوق النّقد الدّولي إلى أنّ سعر توازن موازنات الدّول النّفطيّة في العالم العربيّ يتراوح بين 45 دولار للبرميل في قطر كحدّ أدنى و100 دولار للبرميل في البحرين كحدّ أقصى، وبينهما الإمارات والسّعوديّة والكويت، في وقت يراوح سعر برميل النّفط حول الـ120 دولار. ولكن على صعيد آخر، فإنّ هذه الدّول النّفطيّة سوف تتأثّر سلباً بارتفاع معدّلات التّضخّم المستورد، النّاتج عن ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار الطّاقة، ولأنّ معظم الدّول النّفطيّة العربيّة تعتمد اعتماداً كبيراً على استيراد احتياجاتها من السّلع والخدمات، فسوف تدفع جزءاً كبيراً من مكاسبها النّفطيّة ثمن السّلع والخدمات الّتي تستوردها. أمّا دول العالم العربيّ المستورِدة للنّفط، فسيكون وضعها صعباً في المرحلة المقبلة، لاعتمادها على استيراد جزء كبير من احتياجاتها، وهذا يحمّلها أعباء فاتورة التّضخّم المستورَد ومن ثمّ زيادة أعباء المعيشة على مواطنيها.
محلّيّاً، من الطّبيعيّ أن يتأثّر لبنان، الدّولة المستورِدة للنّفط ولمعظم احتياجاته، سلباً بتداعيات الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة على مستوى الأمن الغذائيّ والنّفطيّ والمعيشيّ، لاسيّما على صعيد التّبادل التّجاريّ وارتفاع فاتورة الاستيراد النّاجمة عن تضخّم أسعار السّلع من القمح إلى الطّاقة، ناهيك عن الطّلب الإضافيّ المستجدّ على الدّولار وبالتّالي على احتياطيّات مصرف لبنان الخارجيّة وسعر الصّرف.
أوّلاً، على صعيد التّبادل التّجاريّ، لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ حجم واردات لبنان من روسيا وأوكرانيا بلغ 792 مليون دولار في سنة 2020، أيّ ما نسبته 7 في المئة من إجمالي وارداته (520 مليون دولار من روسيا و272 مليون دولار من أوكرانيا). في التّفاصيل، استورَد لبنان ما قيمته 355 مليون دولار من الحبوب في العام 2020، 46 في المئة من واردات الحبوب يتأتّى من روسيا وأوكرانيا، مع الإشارة إلى أنّ 40 في المئة من واردات الحبوب تشمل القمح الّتي تصل قيمة واردات لبنان منه إلى 148 مليون دولار سنويّاً، 96 في المئة من واردات القمح يتأتّى من روسيا (23 مليون دولار) وأوكرانيا (119 مليون دولار). أضف إلى ذلك، أنّ 60 في المئة من واردات لبنان من الشّحوم الحيوانيّة والنّباتيّة والزّيوت يتأتّى من روسيا وأوكرانيا، بمجموع يصل إلى 72 مليون دولار من أصل 127 مليون دولار سنويّاً. بالتّوازي، يستورد لبنان حوالي 187 مليون دولار من الحديد والفولاذ، ربعها يتأتّى من روسيا وأوكرانيا، في حين أنّ 7 في المئة من استيراد الحيوانات الحيّة يتأتّى من أوكرانيا. ما يعني بأنّ حجم الاستيراد من البلدين مهمّ نسبيّاً وهو ما يرخي بثقله على قدرة لبنان على تأمين احتياجاته الأساسيّة من سلع وزيوت وحبوب وقمح، وهو العاجز عن تخزين القمح والحبوب تحديداً بعد تدمير صوامع مرفأ بيروت جرّاء انفجار الرّابع من آب. وبالتّالي فإنّ فتح اعتمادات جديدة لاستيراده من دول أخرى، مثل أميركا والأرجنتين والهند وبلغاريا وفرنسا ورومانيا، سيترتّب عليه أعباء ماليّة من كلفة شحن تضاف إلى ارتفاع مؤشّرات الأسعار عالميّاً.
ثانيّاً، إنّ التّأثير المباشر للحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة يتمحور حول مؤشّر التّضخّم العالميّ المستورد والآخذ في الارتفاع بنسب مهمّة، خصوصاً على صعيد أسعار السّلع الأساسيّة مثل القمح والألمنيوم والحديد والنّحاس والذّهب وغيرها من السّلع الأخرى، من جهة، وعلى صعيد أسعار النّفط من جهة أخرى. وهنا بيت القصيد، لاسيّما وأنّ ارتفاعات أسعار النّفط المتتالية، سيكون لها انعكاسات هامّة على الاقتصاد الوطنيّ، وستؤدّي إلى ارتفاعٍ كبير في أسعار البنزين والمازوت والمشتقّات النّفطيّة الأخرى بشكلٍ عام، وبالتّالي على كلفة النّقل والإنتاج وفاتورة المولّدات، ما سيرهق كاهل المواطنين بشكلٍ كبير ويرفع من نسب الفقر. يجدر الذّكر هنا أنّ سعر طنّ المازوت قد ارتفع بنسبة 40 في المئة في غضون أيّام في حين أنّ سعر صفيحة البنزين قد تُلامس عتبة الـ500 ألف في وقتٍ قريب. وتجدر الإشارة إلى أنّ تسليم البنزين اليوميّ قد انخفض من 7 ملايين ليتر إلى 5,8 ملايين ليتر خلال شهر شباط، وفي ظلّ غياب البدائل للنّقل الخاصّ والمولّدات، فإنّ الطّلب على المحروقات هذا العام سيبقى مرتفعاً نسبيّاً، وسيتراوح بين 1.5 و2 مليون طنّ للبنزين وبين 4.1 و4.5 ملايين طنّ للمازوت، وذلك في ضوء زيادة بدل النّقل لدى العمّال الموظّفين في القطاعين العام والخاص إلى 65 ألف ليرة يومياً، وهذا ما أدّى إلى توفير تمويل لشراء البنزين، في حين أنّه في مقابل زيادة بدل النّقل ألزمت الدّولة والمؤسّسات الخّاصة الموظّفين على الحضور اليوميّ إلى المؤسّسات.
ثالثاً، إنّ اعتماد لبنان شبه الكلّيّ على الاستيراد وارتفاع أسعار السّلع عالميّاً سيؤدّي بطبيعة الحال إلى مزيد من الطّلب على الدّولار، وهو ما يشكّل عبئاً ثقيلاً على الإجراءات الّتي يحاول المركزيّ اتّخاذها للمحافظة على الاستقرار في سعر الصّرف من خلال التّعميم 161، ما يعني المزيد من الاستنزاف في احتياطيّاته الخارجيّة الّتي تراجعت بحوالي 900 مليون دولار منذ بداية العام، منها 292 مليون خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر شباط، لتصل إلى 11.9 مليار دولار حتّى نهاية شهر شباط. وبالتّالي فإنّ التّحدي الجديد يتعلّق بقدرة المركزيّ على الاستمرار في تأمين الدّولار للجميع وبدون سقوف من خلال التّعميم 161، وبالتّالي ما جرى في الأيّام الأخيرة لناحية رفع سعر منصّة صيرفة دليل على أنّ المركزيّ يبدو متّجهاً نحو فرملة تدخّله في عمليّة تثبيت سعر الصّرف عند حدود 20 ألف ليرة للدولار.
في الختام، لا شك في أنّ التّداعيات الاقتصاديّة العالميّة للحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة ستكون مُدمِّرة أكثر إذا تصاعد النّزاع، وسيكون للعقوبات المفروضة على روسيا تأثير جوهريّ على الاقتصاد العالميّ والأسواق الماليّة، مع تأثيرات جانبيّة على دول أخرى. فالارتفاع في أسعار السّلع والطّاقة سيكون له تأثيرات في جميع أنحاء العالم، لاسيّما على الأُسَر ذات الدّخل المحدود والّتي تكرّس للغذاء والطّاقة نسبة كبيرة من ميزانيّتها، ما يعني بأنّ ملايين البشر حول العالم قد يصبحون أسرى الجوع. إذ قريباً جدّاً، سيحاول المزارعون الأوكرانيّون بذر حقولهم الرّبيعيّة حيث كان برنامج الغذاء العالميّ التّابع للأمم المتّحدة يستحوذ على أكثر من نصف قمحهم. وأمّا إذا لم تُحرث الحقول الأوكرانيّة هذا العام ولم تُزرع، فإنّ المنظّمات الإغاثيّة والإنسانيّة ستضطرّ لإيجاد أسواق جديدة للتّعويض ولكن القيام بذلك سيكون بتكلفة مرتفعة جدّاً. عليه، فإنّ الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة بتداعياتها ونتائجها قد تضع الاقتصاد العالميّ على المحكّ وقد يتمّ خضّ مصير العالم والنّظام العالميّ الجديد وقد نكون أمام مشهد جديد سيتبلور حُكماً بعد انتهاء الصّراع القائم.