السوريون في عالم الاقتصاد
لا بأس بأن أزج نفسي مرة في عالم الاقتصاد وألقي نظرة عامة على حالتنا والمركز الذي نشغله فيه. وأنا وإن أكن لم أطرق هذا الموضوع قبل الآن، أشعر أنّ الإعضاء عنه بعد أن رأيت المشتغلين بالاقتصاد، والذين من حقهم أن يتكلموا، وأن يتكلموا كثيراً عنه، لا يفوهون بشيء من هذا القبيل ولا ينبسون ببنت شفة، أمر يسم مجموعنا بطابع العجز ويحط من قدر جوالينا في البلدان التي ينزلونها لا سيما ونحن الآن أمام نهضة وطنية عامة للاقتصاد شأن كبير فيها. اللّهمّ إلا إذا انقلبت الأحوال ولم يعد الاقتصاد دعامة الأمم وهذا أمر غير منتظر الحدوث في الجيل الحاضر والذي يليه، هكذا تدل الظواهر وأنا عن علم الغيب بعيد.
كلنا يعلم أنّ زمن المعجزات والعجائب والخرافات قد مضى وأصبح الناس يسيرون على أنوار الحقائق بعد أن كانوا يسيرون في ظلمات الجهل. والذين لا يتبعون الحقائق خاسرون لا محالة. ونحن، السوريون، لكي نكون من الفائزين في نهضتنا الحديثة، يجب علينا أن نسير بموجب الحقائق الراهنة. أما إذا كنا ننتظر مسيحاً آخر آتياً من السماء، أو أماً حنوناً آتية من الأرض لتمنحنا ما نريد، فثقوا بأننا سننتظر إلى الأبد.
إننا مع كل تقدمنا في مضمار الرقي والتمدن، ومع كل ما هو مشهور عن الذكاء السوري، لا نزال نتلمس طرقنا تلمساً كالعميان رغماً من الأنوار المتألقة حولنا. فإن في شؤوننا الوطنية والعمرانية والاجتماعية نقصاً هائلاً، إنْ في الوطن أو في المهاجر، نشعر به كما يشعر النائم بكابوس شديد الوطأة ولكننا بدلاً من أن نستيقظ ونتخلص منه نسترسل في النوم ويسترسل الكابوس في الشدّة.
الحقيقة يجب أن تقال وإن كانت جارحة، والذي يرى في جسد أخيه سرطاناً آخذاً في نهشه ولا يقول له إنّ في جسده سرطاناً خوفاً من أن هذه الحقيقة تجرحه، فإن سكوته يعرّض أخاه للموت ليس إلا، وهذه الأسطر ليست إلا جزءاً يسيراً من الحقيقة الجارحة التي تتناول مجموعنا، فأنا لست بمتناول فيها جميع شؤوننا الحيوية بل بعض شؤوننا الاقتصادية التي تشغل قسماً كبيراً في حياتنا، وقد رأيت أن أبداً في البرازيل، البلاد التي تضم جالية سورية كبيرة، فنتمكن من رؤية الأمور فيها بوضوح.
والبرازيل، كما لا يخفى على أحد، بلاد متنائية الأطراف خصبة التربة غزيرة المياه، أسواق التجارة والزراعة والصناعة فيها مفتحة الأبواب، ومجال الرزق فيها واسع فسيح بحيث لا يعدم المرء إلى الإنتاج وسيلة وإلى الثروة سبيلاً. ولكن الذي يجري إلى الثروة عن غير طرق الاقتصاد سواءً كان في البرازيل أو في غيرها من البلدان لا يصيب نجاحاً، وإذا اتفق أن نجح فنجاحه محدود يزول عندما تثور زوابع الأزمات وتستحكم حلقات الضائقة. وهذا ما حدث لنا فعلاً في البرازيل فإن مخازننا الطويلة العريضة كانت مملوءة كمبيالات «فافور» ودفاتر ديون أكثر كثيراً من موجودات بضائعها فسقطت كسقوط بيت مبني على الرمال جرفته سيول الأمطار، أما أولئك الذين إلى الآن لم يسقطوا فهم سائرون بقوة الاستمرار فضلاً عن أنّ مراكزهم حرجة.
التجارة في يومنا الحاضر ميدان أفراسه الأمم لا الأفراد فنجاح الفرد الواحد من أمة ما لا يتعداه إلى سائر الأمة لأن الفرد لا يعبّر إلا عن نفسه. والغني الذي يعيش متنعماً في قصره الفخم لا يعبّر عن الفقراء الذين يتضورون جوعاً في الأكواخ المجاورة، ونجاح فرد واحد منا لا يعني نجاح كل السوريين، هذا إذا كان هنالك من نقدر أن ندعوه ناجحاً بكل ما في النجاح من المعنى. فنحن في هذا الميدان نرى بأعيننا ونشعر بأنفسنا ونلمس بأصابعنا أننا مقصرون.
ليس بيننا أغنياء ولا مثرون يمكن الاعتماد عليهم في شأن من شؤوننا الحيوية، أما أولئك الذين نطلق عليهم لفظة أغنياء فهم المكتفون فقط يدلّك على ذلك مشاريعنا العمرانية. فتفقّد اكتتابات المستشفى السوري أولاً وإذا كان لا يزال عندك شك فأنزل إلى شارع فلورنسيو دي أبراو وتفقد مخازن السوريين فيه، ثم أفعل مثل ذلك بشارع 25 دي مارسو ولكن لا تنظر إلى البضائع المكدسة فقط، بل أنظر إلى الدفاتر المكدسة أيضاً تبدو لك الحقيقة الناصعة.
كل هذه حقائق محزنة وجارحة ولكن لا يجب أن نترك هذه الحقائق وراء ظهورنا، بل لنضعها نصب أعيننا ولنعالجها إلى أن نحلّها كلها.
لا يعني كل ما تقدم أننا لم نجرب الوصول إلى النجاح بل بالعكس فإننا قد جاهدنا جهاداً يكلّ عنه غيرنا، ونحن قد دخلنا المعترك عزّلاً، في حين أنّ غيرنا دخله وقد هيأ له عدته. ولكن الغريب أننا بعد أن فزنا على غيرنا وسبقناه وتهيأ لنا بعد جهاد عنيف ما يمكنّا من أن نتقدم إلى الأمام توقفنا وعاد غيرنا فسبقنا بعد أن كنا سبقناه.
جاء في الأمثال «على الإنسان أن يسعى والتدبير على الله» وعندي أنّ السعي على نوعين: سعي الصواب وسعي الخطأ. فسعي الصواب يصل بالمرء إلى قنّة النجاح، أما سعي الخطأ فيؤدي إلى حضيض الفشل. ونحن كنا نعرج بين السعيين فلم نبلغ قنّة النجاح ولا حضيض الفشل ولكن بعضنا قد بلغ الحضيض وقلّما وصل أحد منا إلى قنّة النجاح.
ففي البرازيل، حيث باب التجارة مفتوح على مصراعيه، قد رسمنا لأنفسنا خطة لم نحِد عنها ونطاقاً تجارياً ضيقاً وإن كان واسعاً لا نتعداه، فحصرنا همّنا في تجارة البضائع القطنية والصوفية والحريرية وما شاكلها، فنتج عن ذلك مزاحمة بعضنا بعضاً. وقد شاهدت هذه المزاحمة في ذهابي إلى الداخلية لقضاء بعض أشغال الجريدة، ورأيت كيف يتزاحم المتجولون للمحلات السورية على زبون سوري فذاك يستميله برخص الأسعار وهذا يستميله بحسن التشكيلة وآخر بجودة البضائع، إلى آخر ما هنالك من عرقلة بعضنا بعضاً، وهم لو كانت بضائعهم متنوعة لما اضطروا إلى المزاحمة، ونحن لو انصرف فرق منا إلى المتاجرة بأشياء أخرى لكانت حالتنا غير حالتنا اليوم.
من المستحسن أن نكون نحن القابضين على زمام تجارة البضائع، ولكنه من العجز الفاضح أن ننصرف إليها بكليتنا. فإن هذا النوع من التجارة مهما كانت سوقه واسعة يضيق عن حاجتنا، ونحن إذا لم تكن أحوالنا الاقتصادية في تقدم وماليتنا في تحسين لا يمكننا أن نقوم بما تتطلبه حاجاتنا التي هي ضرورية لنا، فضلاً عما تتطلبه أوطاننا.
في البرازيل محاصيل تجارية كثيرة لو تداولتها أيدينا لكان لنا منها أرباح طائلة، منها: الأخشاب والجلود والشحوم والزيوت النباتية، كزيت جوز الهند وما أشبه، وغيرها أشياء كثيرة. ولجميع هذه [المحاصيل] أسواق كبيرة في الخارج والداخل، ثم إنّ انصراف بعضنا إلى الصناعة أمر لنا منه نفع كبير، فإنه يسد منا فراغاً غير صغير ويكون لنا عوناً كبيراً في شؤوننا الوطنية. ونحن لنا وطن إذا فقدناه فقدناه إلى الأبد. فالصهيونيون الذين عرفوا مفاعيل الاقتصاد على استعداد تام لأخذه وأن ينقدونا ثمنه متى أردنا.
وفضلاً عما تقدم فإن هنالك مجالاً واسعاً للزراعة قلّما انصرف إليه المواطنون مع أنّ له مورداً كبيراً من الأرباح. فالبرازيل في الدرجة الأولى بلاد زراعية إلى حد أنّ مورد البن فيها يقوم مقام الذهب في البلدان الأخرى، فحري بمواطنينا أن ينصرفوا إلى الشؤون الزراعية انصرافهم إلى الشؤون التجارية.
هذا وإنّ ما ذكرته يقاس على كل مكان نزل فيه سوريون، أما في الوطن فالحالة الاقتصادية هناك، خصوصاً الآن، تعسة للغاية.
أنطون سعاده
الجريدة، سان باولو
العدد 80، 10/6/1922