السياسة الخارجية – الحرب الصينية ـ اليابانية والنظريات الاشتراكية ـ الفاشستية
الحرب حيث لا حرب.
هذه هي القاعدة المتبعة في الحروب العصرية وهي آخر ابتكار حقوقي سياسي في العالم. فقد استولت إيطالية على الحبشة من غير حرب من الوجهة الحقوقية أي من غير إعلان حرب. وجيوش اليابان تتقدم في الصين من غير سابق إعلان حرب.
والحربان الإيطالية ـ الحبشية واليابانية ـ الصينية لهما صفة واحدة وأسلوب واحد، لأن غرضهما واحد. إنهما مظهر جلي لحاجة الجماعة التي تقرر كل اتجاه سياسي وتنازع الأمم على المواد الأولية والتفوق.
وقد كانت هاتان الحربان ذريعة لتنازع الأحزاب النظريات. فقد أخذت الأحزاب الاشتراكية الشيوعية تنسب الحربين إلى مبادىء الفاشستية وتتظاهر بالدفاع عن الصين، لا باسم حاجة الصين إلى الحياة من حيث هي إحدى الأمم التي لها كيان وحقوق، بل باسم الشيوعية أو الاشتراكية.
وتنسى هذه الأحزاب الاستعمار القائم في نواحٍ عديددة، والذي قامت به دول لا فاشستية ولا استبدادية.
وتنسى هذه الأحزاب أنّ اشتراكية بعض الأمم تقوم على الاستعمار، وأنه إذا زال الاستعمار من هذه الدول فإنها تكون في مقدمة الدول الطامعة بالاستيلاء على أراض جديدة.
الحرب والاستعمار ليسا خصائص فاشستية أو اشتراكية وإنما هما اتجاه للجماعات التي تطلب موارد تؤمن لها حاجات ارتقاء المعيشة وزيادة النسل.
إنه من السهل جداً أن يقال “ولماذا لا تحدد هذه الدول نسلها، بدلاً من أن تزيده وتطمع في ملك الغير؟” ولكن الجواب على مثل هذا السؤال يكون درساً من أهم الدروس السياسية الاجتماعية.
أن تمتنع أمة عن زيادة نسلها وعن الطمع، قد يعني في ظروف كثيرة امتناعها عن الحياة والارتقاء، بما تفسح لغيرها المجال لسبقها في مضمار التقدم.
إنّ هذا السؤال يوجب فتح قضية توزيع موارد العالم على الناس بالتساوي وأن توجد الطريقة لتأمين حق البعيد كحق القريب. مثال ذلك أن نكون نحن في وطننا آمنين على حقنا في فحم ألمانية وحديد فرنسة ونفط الولايات المتحدة وروسية وقطن مصر وبن البرازيل.
والأمم التي نالت حتى الآن، لأسباب الصدف، أعظم نصيب من ثروة العالم الطبيعية لا ترى نفسها مستعدة لجعل ثروتها مشاعاً.
إنّ جميع المؤتمرات التي عقدت بقصد الوصول إلى تسوية عامة لمشاكل العالم كانت عبارة عن مناورات قصد منها الوصول إلى اعتراف حقوقي يكفل قيام أو ثبات حالة قيامها أو ثباتها ليس في مصلحة الجميع بالتساوي.
وفكرة الجمعية الأممية، التي كانت فكرة نبيلة، تلاشت أمام الإجحاف الذي اقرته. وصارت هذه الجمعية عبارة عن جمعية لعدد من الأمم المتوافقة المصالح، تنتحل صفة تمثيل العالم والعدل الإنساني، وتقرر من عندها أشياء تجوز وقد لا تجوز، بالاستناد إلى الاعتراف الحقوقي الذي حصل عليه موقعو ميثاقها في ظروف معينة.
لم يبقَ أمام الأمم التي لا تريد أن تفنى سوى العودة إلى الاعتماد على نفسها، وفعل مصلحتها بصرف النظر عن الاعترافات الحقوقية التي تفتح لبعض الأمم مجالاً غير محدود، وتحدد لأمم أخرى نطاقاً ضيقاً يجب ألا تتجاوزه.
يجتمع مؤتمر الدول التسع الموقعة معاهدة الباسيفيكي ليبحث الحرب اليابانية ـ الصينية، ويتخذ في صددها مقررات. وقد تمنعت اليابان عن حضور هذا المؤتمر الذي يعقد من الدول الآتية: بريطانية، فرنسة، الولايات المتحدة، هولندة، بلجيكة، الصين، البرتغال. وحتى الآن لم تقبل إيطالية حضور هذا المؤتمر.
يلاحظ أنّ هذا المؤتمر يدعى مؤتمر الدول التسع. ولكنه، بالحقيقة، مؤتمر سياسي التفاهم البريطاني ـ الفرنسي ـ الأميركاني. والسيطرة فيه ستكونه لهذه الدول باعتبار الوضع السياسي، ولهذا ترفض اليابان حضوره. ولو كان المؤتمر مؤلفاً على هذا الشكل اليابان، إيطالية، ألمانية، النمسة، المجر، بريطانية، فرنسة، البرتغال، الصين، لما وجده اليابان صعوبة في قبول الدعوة، بل للبّتها لفورها.
والذي يحدو دول مؤتمر بلجيكة إلى الاهتمام بمسألة الحرب اليابانية ـ الصينية ليس عامل النظريات الاشتراكية أو غيرها، بل الخطر من فقد الرجحان في التوازن السياسي. ومتى استولت اليابان على الصين فإنها تكون في مقدمة الأمم المشجبة الحروب الاستعمارية، ولن يكون اليابانيون أقل رياء في السياسة من غيرهم.
النهضة، بيروت
العدد 15، 30/10/1937