السياسة الخارجية – الشرق الأدنى – السيطرة التركية
استطاعت إيطالية أن توجد لنفسها مركزاً قوياً في البحر السوري، في غربيه وشرقيه. فإن انتصار القوات القومية في إسبانية سيوجد لإيطالية حليفة جديدة بحكم الواقع، فتصير جزائر البليار مراكز حربية في جانبها وتكون إسبانية والبرتغال أيضاً جزءاً من جبهة، واحدة ترتكز على محور رومة ـ برلين.
تمكنت إيطالية من الوصول إلى هذه النتيجة الكبيرة ورفع منزلتها بين الدول، حتى صارت ذات ضلع رئيسي في تسوية كل ما له علاقة بالسياسة الأوروبية بفضل قاعدة سياسية ثابتة هي: الانتهاز.
كل دولة قليلة الموارد المادية، قليلة المعادن الأساسية التي تقوم عليها الصناعات الكبرى، تحتاج إلى جعل الانتهاز قاعدة سياستها. فمصيرها متعلق أبداً باغتنام الفرصة أو تركها.
وقد لجأت إيطالية إلى هذه السياسة منذ زمان. وهي هذه السياسة التي جعلت موقفها أبداً متراوحاً بين كفه وكفة، وهي هذه السياسة التي جعلتها تنتقل في الحرب العالمية من جبهة دول أوروبة الوسطى إلى جبهة الحلفاء، ضاربة بالاتفاقية الثلاثية التي كانت تربطها بألمانية عرض الحائط. وهي هذه السياسة التي جعلتها تحتل جزر الدوديكانيز وتهاجم الحبشة وتفتحها وتضمها إلى أملاكها.
هذه السياسة عينها هي التي تريد أن تتبعها تركية، فهي تنتهز الفرص الآن لتبسط نفوذها في شرق البحر السوري. فهي قد انتهزت فرصة تحويل الانتداب الفرنسي على سورية إلى معاهدات لتستولي على لواء الإسكندورنة السوري، قبل أن تصبح الدولة الشامية ذات قوة تذكر ووسائل كافية لتثبيت سيادتها والدفاع عن حدودها.
وكما فعلت تركية في لواء الإسكندرونة تستعد للعمل في نواحي سورية الداخلية مبتدئة بخط حلب ـ الجزيرة. فإن الدعاوات تسير على طول هذا الخط بنشاط عظيم، لا ندري ما هي الوسائل التي أعدّتها حكومة دمشق الكتلوية لمحاربتها والقضاء عليها.
هذه السياسة تجعل تركية ندّة لإيطالية في البحر السوري. ففي الوقت الذي يقوى نفوذ إيطالية ويمتد، تنشط السياسة التركية للعمل على جعل شرق البحر السوري وما وراءه تحت نفوذها وسيطرتها.
وقد رأت تركية أن تثبّت سياستها في هذا الجزء من العالم فافتتحت عهد سياسة ودّية مع الإغريق ووثقت معهم. وهنالك اهتمام ظاهر من قبل هاتين الدولتين بالمسائل السياسية والحربية المتقاربة.
يظهر أنّ إيطالية تراقب حركات تركية وتَتَتَبّعُها في سياستها. ويظهر أنّ السياسة الإيطالية لم تهمل الإمكانيات المتعلقة بتركية. والدبلوماسية الإيطالية تحاول الآن أن تجسّ نبض تركية وتدرس إمكانيات التقريب بين سياستي الدولتين. وليست هذه المحاولة محققة الفشل فالسياسة الانتهازية التي تسلكها الدولتان تجعل كل اتفاقية موافقة قابلة التحقيق.
لا نظن أنّ تركية تطمح في السيادة القريبة على البحر السوري كله ولكنها تطمح أن يكون لها مركز سيطرة فريدة في شرقه. وما السياسة التي تنتهجها الآن إزاء الإغريق سوى خطة حكيمة القصد منها إطلاق يد السياسة التركية وتأييد موقف تركية.
مما لا شك فيه أنّ مصير دول الشرق المشمولة بالانتداب الفرنسي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه التطورات الخطيرة في البحر السوري. وإذا تمكنت الدبلوماسية الإيطالية من الوصول إلى اتفاق مع تركية فإن الحادث يكون ذا خطورة كبيرة.
إنّ حدودنا الشمالية قد أصبحت مركز خطرٍ عظيم قد يتحول إلى المداهمة في فترة قصيرة. وفي هذا الوقت الذي تنشط فيه السياسة المتكتمة نجد أنّ المراقبة والحذر والاستعداد تجدي.
إنّ مطامح تركية في السيطرة في الشرق الأدنى تستوجب القلق. واليوم يبتدىء الرأي العام يدرك قيمة الموقف النبيل الذي وقفه الحزب السوري القومي من مسألة الحدود الشمالية ومغزى مذكرته إلى الجمعية الأممية وكتابه التاريخي إلى المفوض السامي في بيروت.
والحقيقة أنّ تركية لا تجد في الشرق الأدنى قوة تخشى منها على سياستها سوى حركة الحزب السوري القومي، والنهضة التي أوجدها، والتنبّه القومي الذي ولده في الشعب السوري، حتى أصبح معنى الوطن ذا قيمة حقيقية.
ولو أنّ السياسة الفرنسية تضمن للمطامح التركية نجاحها التام لما كان للنهضة السورية القومية شأن كبير في صد المطامح التركية، لأن هذه النهضة لا تزال في بدء فاعليتها. فهل يكون من وراء مطامع تركية إيجاد سياسة جديدة في سورية؟
النهضة، بيروت
العدد 13، 28/10/1937