السياسة الخارجية – العلاقات اللبنانية – التركية
قدم بيروت منذ أيام وفد تركي على رأسه وكيل وزارة الخارجية التركية. وجرى لهذا الوفد استقبال شائق دل على مبلغ الحفاوة التي أعدتها له حكومة لبنان والمفوضية التي كان لها اهتمام وعناية بالوفد.
وكان من المؤسف أن يصاب رئيس الوفد بدائه ويضطر إلى ملازمة الفراش في حين أنّ طقس بيروت كان معتدلاً منعشاً وحفاوة الحكومة اللبنانية رائقة.
ومهما يكن من الأمر فالوفد التركي لم يقابل بالمظاهرات والمظاهر العدائية بسبب مطامع تركية في أرض سورية وسعيها لضم لواء الإسكندرونة إلى أرضها. وكان الهدوء بهذه المناسبة شاملاً الجمهوريتين اللبنانية والشامية مما أدى إلى إعجاب الكثيرين وتعجبهم، إذ ليس من الأمور المعتادة أن يجيء وفد يمثل دولة طامعة إلى بلاد دولة مهددة بطمعها ويجد من أهل هذه البلاد هذا المقدار من عدم الاكتراث.
مما لا شك فيه أنّ اللبنانيين هم من أكثر السوريين إكراماً للضيوف ولكنهم ليسوا من أكثرهم تساهلاً في الحقوق القومية. ولذلك فإن الترجمة التي يحاول البعض أن يعطيها لحفاوة الحكومة اللبنانية بالوفد التركي ليست صحيحة.
فقد قيل إنّ اللبنانيين لا يهمهم أمر لواء الإسكندرونة وسلامة الحدود السورية في الشمال. وإنّ الاحتفاء بالوفد التركي دليل على أنهم راضون عن موقف تركية من بلادهم. وهذا غلط أو خطأ، فاللبنانيون يعدّون حدود سورية حدودهم هم الطبيعية بالتضامن مع سوريي الداخل ويحسبون كل اعتداء خارجي على أية بقعة سورية اعتداء عليهم. وبهذه المناسبة يمكن القول إنه إذا كانت حفاوة الحكومة اللبنانية دالة على ضيافة اللبنانيين فإن تصريحات زعيم الحزب السوري القومي بصدد قضية لواء الإسكندرونة تعبّر تعبيراً صادقاً عن شعور اللبنانيين، كما تعبّر تعبيراً صحيحاً عن شعور سائر السوريين.
ليس الانفصال الإداري بين لبنان والشام وفلسطين بمانع من الوحدة القومية السورية ومن تعاون جميع السوريين لرد كل اعتداء يقع على أرض سورية أياً كان مصدره.
الحقيقة أنّ اللبنانيين يراقبون تطورات الحالة على حدود سورية الشمالية بكل اهتمام! وإذا كانت المسائل الداخلية المستمدة من قاعدة سياسة القرية المبنية على الخصومات والمنازعات الشخصية قد صرفتهم حيناً عن الاهتمام بالمسائل القومية الكبرى، فإن وجود مثل الحزب السوري القومي الساهر على هذه المصالح الأساسية، غير المكترث كثيراً لخصومات المرشحين على الأساس الشخصي والطائفي لضمان كافٍ لوضع المسائل الأساسية قبل المسائل الشكلية.
إنّ القوميين يعرفون أنّ إيجاد كيان لبنان كان لمبررات وأسباب لا محل لذكرها هنا، ولكن هذه المبررات والأسباب لا تزيل الأساس القومي الذي يربط اللبنانيين والشاميين والفلسطينيين ولا تلغي المصلحة القومية الجامعة. ولذلك فاللبنانيون لا ينظرون إلى تهديد الحدود الشمالية بعين الرضى أو بعدم الاكتراث، لأن هذه الحدود هي حدودهم أيضاً، ولأن في تهديدها تهديداً للبنان وللمصالح اللبنانية، ولا يمكن اللبنانيين أن يكونوا أصدقاء لشعب يهددهم ويعتدي على أرضهم القومية.
نود أن نعتقد أنّ مجيء الوفد التركي إلى بلادنا ينطوي على درس إمكانيات إنشاء علاقات ودية ثابتة مع لبنان والشام. ونود أن يكون رجال الوفد شديدي التحسس فيدركون بدون عناء أن العلاقات الودية تقوم على انتهاج سياسية ودية من قبل تركية.
وإذا كان الوفد التركي سيعود إلى بلاده حاملاً لحكومته اقتراحات بتعديل سياستها فيما يختص بسورية وترك فكرة الاستيلاء على أرض سورية، فإنه يكون قد برهن على إدراك عال وبعد نظر وعمل على تقريب القلوب بين الأمتين الجارتين السورية والتركية وإيجاد علاقات جيدة بين تركية ولبنان والشام.
ولا شك في انّ علاقة تركية بلبنان لها ارتباط وثيق بعلاقتها بالشام، فلا تظن الدول الأجنبية أنّ تشكيلاتنا الإدارية والسياسية تساعد على ضرب بعض أجزائنا بينما بعض أجزائنا الأخرى تتلهّى بالمسائل العارضة.
النهضة، بيروت
العدد 29، 16/11/1937