السياسة الخارجية – سلامة البلجيك
كانت بلجيكة ولا تزال إحدى نقاط الخطر من فقدان التوازن الأوروبي وهي مركز حساسية قوية على الحدود بين فرنسة وألمانية.
وكان موقفها قبل الحرب وأثناءها موقفاً صعباً على الألمان ومن أكبر عوامل النجاح للحلفاء. وكانت علاقاتها مع فرنسة علاقات وحدة اتجاه واشتراك في المصالح الإنترناسيونية تقويها اللغة الفرنسية التي كانت لها السيادة في بلجيكة.
على أنّ موقف بلجيكة وسياستها الخاصة لم يلبث أن طرأ عليهما تعديل في السنوات الأخيرة. وقد أدى هذا التعديل وموقف ألمانية الأخير إلى أعلان المذكرة الفرنسية ـ البريطانية القائلة بضمان هاتين الدولتين استقلال بلجيكة وسلامة أراضيها.
السبب في ظهور بلجيكة بهذا المظهر الجديد التطور الداخلي الذي طرأ عليها. فهي تتألف من عنصرين أساسيين: الفلمنك والوالون. الأول جرماني اللغة، ووالثاني لأتينيها يتكلم الفرنسية. ومنذ مدة والعنصر الفلمنكي يستيقظ لخصائصه ويطالب بإعادة لغته إلى الاستعمال وجعلها رسمية على قدم المساواة مع اللغة الفرنسية. فاثارت هذه المسألة قضية نفوذ التأثير الثقافي السياسي لمن يكون، للوالون واللغة الفرنسية والعلاقة مع فرنسة؟ أم الفلمنك واللغة الفلمنكية الجرمانية والعلاقة مع ألمانية؟
وألمانية الباحثة عن العالم الجرماني وصلاته لتجمعها تحت رعايتها لم تترك فرصة ثمينة كهذه تمرّ لتوثيق العلاقات بين نهضتها وذهنية بلجيكة. فكان من وراء ذلك أنّ صراعاً فكرياً داخلياً أخذ يجتاح هذه الدولة وأخذ الأدب البلجيكي يعج بالأبحاث حول الفلمنك والوالون يتنازعه الميل إلى فرنسة وإلى ألمانية.
والظاهر أنّ السياسة الألمانية لم تغفل عن مركز بلجيكة بعد المذكرة الفرنسية ـ البريطانية فأخذت أسلاكها الدبلوماسية تجتهد في العمل للتقرب من بلجيكة. ويظهر أنّ السياسة الألمانية كانت موفقة حتى أنّ ألمانية أصدرت مذكرة تؤمن فيها حياد بلجيكة وسلامة أراضيها.
والمشادة الآن ستكون بين أي المذكرتين لها القيمة العليا في السياسة الإنترناسيونية وتقرير مصير بلجيكة؟ أهي المذكرة المزدوجة الفرنسية ـ البريطانية أم المذكرة الألمانية؟
وينتظر أن تتبع المذكرة الألمانية مذكرة إيطالية بالمعنى عينه. فتصبح بلجيكة بين ضمانين: ضمان فرنسة ـ بريطانية وضمان ألمانية ـ إيطالية.
تميل وجهة نظر الصحافة الفرنسية إلى عدّ المذكرة الألمانية وثيقة قليلة القيمة بالنظر لخرق ألمانية الماضي حياد بلجيكة. ولكن المسألة ليست في الوعد نفسه، فمن هذه الجهة تكون الوجهة الفرنسية على حق، لأن لا ثبات للوعود السياسية في العالم إلا إذا دعمتها المصلحة الثابتة.
ولكن الوعود ذات مغزى سياسي خطير في الوضع السياسي الحاضر وتوازن القوى الأوروبية.
إن الفاعلية السياسية تشتد في أوروبة يوماً بعد يوم. وابتكار الأساليب السياسية للتغلب على صعوبات الحالة الراهنة يجري بسرعة غريبة. وما حادث المذكرة الألمانية ورفيقتها الإيطالية العتيدة سوى مظهر لامع من هذه الفاعلية.
ومما لا شك فيه أنّ المذكرة الألمانية أهم حادث سياسي سجلته الأنباء في الآونة الأخيرة.
أنطون سعاده
النهضة، بيروت
العدد 4، 18/10/1937