السياسة الخارجية – معاهدة حسن الجوار
وافق المجلس النيابي الشامي على معاهدة حسن الجوار المعقودة بين الشام والعراق. وحتى الان لم تُدفع نصوص هذه المعاهدة للنشر ليطّلع عليها الرأي العام والصحافة ويقول النقدة السياسيون رأيهم فيها.
وقد استلفت نظرنا ما طلبه المقرر النائب ناظم القدسي وهو أن يوافق المجلس على هذه المعاهدة من غير بحث وأن يحسب النواب أنّ المعاهدة عقدت بين إخوان “لنا ما لهم ولهم ما لنا” وكان تأثير هذه العبارة قوية حتى أجيزت المعاهدة بالإجماع من غير نقاش.
لا دخل لناقد في العاطفة العرقية أو السياسية التي دفعت النائب القدسي إلى هذا الطلب. ومن الوجهة العاطفية لا اعتراض عليه. ولكن أن يدخل مثل هذا الطلب في أعمال مجلس الشعب، الذي يجب أن يكون مجرّداً من كل عاطفة إلا عاطفة الأمانة للنيابة عن مصالح الشعب الذي انتخب النواب، وعاطفة الرفق بمصالح الوطن، فمن الأمور الغريبة التي لم يسبق لها مثيل.
نفهم أن تتقدم الحكومة بطلب إلى المجلس النيابي لترك المناقشة في مادة أو موضوع معين، لأن لها أسباباً كافية في مصلحة الأمة ستبديها فيما بعد. ولكن ألا يتقيد نائب بتمثيل مصلحة ناخبيه فقط فخروج من حقل النيابة إلى حقل السياسة المطلقة.
إنّ نهج الحكومة الشامية بعقد معاهدة حسن جوار مع الدولة العراقية نهج حسن تستحق عليه هذه الحكومة الشكر، وما استحقت حتى هذه الساعة من غير هذا العمل سوى النقد اللاذع على مناهجها الداخلية اللاقومية.
لا نريد، مع ذلك، أن نعلق أملاً كبيراً على معاهدة حسن الجوار. فقد تكون نتائجها الاقتصادية حسنة إلى حد ما. ولكن ما هي نتائجها السياسية وما هو وزنها السياسي؟
يريد رجال الحكم في الشام، ومن ورائهم “الكتلة الوطنية”، أن يعتقدوا أنّ عقد المعاهدات مع دول العالم العربي هو المخرج الوحيد للمأزق الإنترناسيوني الذي تجد الأمة نفسها فيه. وهم يبنون سياسة الدولة الخارجية على هذه القاعدة الوحيدة.
مما لا شك فيه أنّ توثيق العلاقات مع العراق والوصول إلى سياسة تعاون وتكاتف معه في الشؤون الإنترناسيونية من الأمور السياسية التي لها قيمتها الكبيرة؛ ولكن مثل هذه السياسة لا يمكن أن يقوم على العاطفة وحدها.
ومع أنّ معاهدة حسن الجوار هي اقتصادية في الدرجة الأولى فقد تكون مثيرة لتفاؤل سياسي في غير محله. لأنه قد يُظنّ أنّ هذه المعاهدة أو هذا التقارب بين سورية والعراق يمكن أن توجد حجر الثقل تجاه تركية. وهذا الظن واهٍ وبعيد عن الصواب فهذه المعاهدة هي بدء العلاقات الإنترناسيونية التي تقوم بها حكومة الشام، ولكن علاقات تركية الإنترناسيونية قد أصبحت واسعة بقدر ما هي وثيقة. وعلاقات تركية بالعراق قد سبقت علاقات سورية بمراحل. ومن الوجهة السياسية لا تزال سورية ضعيفة غير قادرة على جذب العراق أو غيره من نفوذ السياسة التركية.
ولا تزال سياسة حكومة الشام الداخلية تقيم العراقيل في وجه الممكنات الإنترناسيونية للأمة السورية، فإن التفسخ الداخلي والتمشي على سياسة العرق والنعرة الدموية، تثير قضايا داخلية تضعف فاعلية الأمة السياسية وتصرفها عن العناية بمصالحها تجاه الخارج إلى العناية بمنازعاتها الداخلية.
وفي كل حال، فالحكومة الشامية مشلولة الحركة في السياسة الإنترناسيونية. وفي القضايا التي مرت حتى الآن لم يظهر أنّ لسياسيي هذه الحكومة الحاليين المقدرة السياسية الكافية لمعالجة الموقف والتغلب على الصعوبات المتنوعة، وقسم كبير منها موروث من التاريخ السياسي الحديث المبني على أساس الحركة “الوطنية”.
يمكننا أن نُعدَّ معاهدة حسن الجوار السورية ـ العراقية فاتحة الحركة السياسية الخارجية. وهي على كل حال فاتحة خير. ولكننا على كل حال نرفض الموافقة على نظرية النائب المقدسي القائلة بعدم التدقيق في المصالح المؤسسة عليها هذه القاعدة أو غيرها.
ولو كانت نظرية السيد القدسي صحيحة لما كان هنالك لزوم للمعاهدة وما يسبقها من مفاوضات. وكانت الدولتان اكتفتا بتبادل مذكرتين تقول كل واحدة منهما في مذكرتها إنها تقبل أن تعامل الأخربمعاملة الجار الجيد العزيز. وهذا كلام غير سياسي وغير نيابي.
النهضة، بيروت
العدد 14، 29/10/1937