الضلال البعيد
قلنا في المقال المتقدم إننا لا نصدق أن مسلماً واحداً مدركاً لحقيقة رسالة النبي العربي يقبل كلام الخوري الذي ظاهره تأييد الإسلام، وباطنه هدم للعقائد الإسلامية الصحيحة، ووعدنا القرّاء بتبيان ذلك في ما يجي من هذا البحث (الصفحة 79 أعلاه).
قلنا أيضاً إن رشيد سليم الخوري ليس من أهل العلم ولا من أهل الفلسفة والتفكير، ولا من أهل الأدب الصحيح إذا اتخذنا مقياساً للأدب غير الألفاظ والأوزان. وإن تناوله دينين جليلين كالمسيحية والإسلام ليس سوى وغول على العلم والفلسفة، في حين إن قصده الحقيقي هو مدح الإسلام وهجو المسيحية.
يتظاهر رشيد الخوري في بدء حارضته التي أسماها، جهلاً منه، محاضرة بأنه قد آمن بالإسلام، ثم يأخذ في الخلط بين كلام رجل متدين ورجل يبحث في طبائع الأديان من دون تحيّز أو انحراف، اجتهاداً منه في إلباس مدحه وهجوه لباس البحث.
فإذا كان الخوري قد أسلم حقاً، اعتقاداً منه بصحة الدين الإسلامي وكلامه المنزل، فإن «محاضرته» لا تدل سوى على رجل أسلم عن جهل بحقيقة الإسلام ونصوصه المنزلة، أو رجل يتظاهر بالإسلام نفاقاً في الدين ليشتري بآياته ثمناً قليلاً1.
أول ما نطق به الخوري المتظاهر بالإسلام في مدح هذا الدين كان كفراً به وبآياته، قال في بدء حارضته: «لما فضلت الإسلام على المسيحية في خطابي العام الماضي، إلخ». فأخذ نقطة الابتداء تفضيل الدين الإسلامي على الدين المسيحي وجعل هذه النقطة مدار كلامه فنطق بكلمة الكفر من حين فتح فاه أو جرّ قلمه على القرطاس، فحق عليه قول الآيات: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً}1 ومن سورة البقرة2: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} ومن سورة النساء3: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أُنزل من قبلك}.
فمحاولة مدح الإسلام بالمفاضلة بينه وبين المسيحية وبالتفريق بين محمد والمسيح هي محاولة كفر بكلام الله المنزل بالوحي على محمد رسوله، والذين يشايعون رشيد الخوري في قوله ويؤيدونه من المسلمين ليسوا بالحقيقة سوى زنادقة في أثواب مؤمنين يتظاهرون أمام المؤمنين البسطاء الودعاء القلوب أنهم يغارون على الدين، وما غيرتهم إلا على زينة الدنيا وأعراضها.
لو لم يكن رشيد الخوري واغلاً على الفلسفة والدين والعلم لما كان تجاسر على اقتحام هذا الموضوع الخطر والخبط في مسالكه، ولكنه يظن أنه إذا التقط أشتاتاً من الأقوال الواردة لغيره وحشاها بهذر من عنده، ووقف في جمهور من عامة الناس وأخذ يتشدق بهذه الأقوال فقد صار «عالماً جليلاً» كما صار بمثل هذا الخلط «شاعراً مفلِقاً». وظن فوق ذلك أنه إذا سنَدَه سياسي من سياسيــي الدين والأدب كشكيب أرسلان فقد ربح الخلود «كمدافع عن شريعة محمد وخلفائه في الأرض» الذين يمنّي شكيب أرسلان نفسه بأن يكون واحداً منهم.
وفيما الخوري يخلط ويخبط وينافق في الإيمان إذا به يحاول الظهور بمظهر العالم الذي يقلب الأديان على وجوهها ويدرس طبائعها، والفيلسوف الذي يعطي القيم الفكرية مواضعها وهو يفعل ذلك من غير أن يحتاج إلى بحث واستقراء بل بالاستبداد بالمنطق، وبتسخير القيم والمواضيع لأغراض هجوه ومديحه.
ولما لم يكن من أهل العلم والفلسفة ولا من أهل الأدب الصحيح، كما بيّنا آنفاً، فقد وقف في تفكيره ونظره في المسيحية والإسلام عند حدود التفكير العامي المنحط الخالي من كل ثقافة ودراسة صحيحة.
وليس أدل على خلطه وخبطه في ما لا يعلم من قوله:
«لو كنت في هذا البحث الديني اسما والاجتماعي فعلاً أعرض لمسائل الآخرة والجنة والنار لحقّ لكل أديب أن يلحاني، ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة وأشرت إلى علاقته بالحياة الدنيا وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل السليم».
فقوله: «ناحيته الدينية البحتة» مجرداً هذه الناحية من مسائل الآخرة والجنة والنار ليس سوى جهل بما هو الدين وما هو العلم وما هي الفلسفة، إذ لو جردنا الدين من مسائل الآخرة والعقاب والثواب لما بقي له شي من «ناحيته الدينية البحتة»… ولكن من أين لرجل واغل على هذه المواضيع السامية أن يعلم ما هو من طبيعة الدين، وما هو من طبيعة العلم، وما هو من طبيعة الفلسفة؟
لا يعرف رشيد الخوري غير المثل الدنيا ولا قدرة له على تناول غير الفكر العامية، السطحية. والعامة تخبط في الشؤون الفلسفية الأساسية خبطاً، ولذلك نشأت عند عامة المسيحيين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في الدينين المسيحي والإسلامي، أقل ما يقال فيها إنها جزئية أو سطحية. هكذا أخذت تؤول تعاليم المسيح بأنها تعاليم توحي الذل لإساءتهم فهم أقوال المسيح التي منها القول: «من ضربك على خدك فحوّل ل الآخر»1. و«إنه لأسهل أن يدخل جملٌ في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت السموات»2.
وهذه العامة نفسها، نظراً لجهلها وما ورثته من عصور الانحطاط، أخذت تؤول تعاليم الإسلام من غير درس لها وتدين محمداً والمسلمين ببعض آيات التقطتها اتفاقاً ولم تحسن تأويلها، كالآيات المتعلقة بأزواج النبي والنكاح وصور الجنة المادية، ناسية قول المسيح: «لا تدينوا لكي لا تدانوا»3.
وكذلك نشأت عند عامة المسلمين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في الدينين الإسلامي والمسيحي، أقل ما يقال فيها إنا جزئية وسطحية. هكذا أخذت تؤول آيات القرآن تأويلاً يوافق هواها فأخذت ببعض الآيات وأهملت البعض الآخر.
وهذه العامة نفسها، نظراً لجهلها وما ورثته من عصور الانحطاط، أخذت تؤول تعاليم المسيحية من غير درس لها، وتدين المسيح والمسيحيين ببعض آيات التقطتها اتفاقاً ولم تحسن تأويلها كالآيات المتعلقة بملكوت السموات وكيف يدخلها الإنسان، ناسية قول القرآن: {آمن الرسول بما أنزل من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}4.
وقسم كبير من عامة السوريين المسيحيين والمسلمين لم يعد مؤمناً الإيمان الديني ولكنه يتشبث بعنعنات من التحزبات الدينية، فهو قد فقد إيمانه الديني ولم يحصل على ثقافة وعلم يرسخانه في المعرفة ويهبانه نظرة شاملة في الحياة، ويساعدانه على فهم الدين وتأويله على الوجه الأصح، ونتج عن ذلك كله انحطاط كبير في الإدراك والتأويل وفساد في الاستنتاج وتصادم في النفسيات وفوضى في المنازع وتخبط في المذاهب. من هذا الباب العامي ما حبشه رشيد الخوري ليلقي على مدحه للإسلام وهجوه المسيحية صفة البحث، وبهذا التفكير العامي الضعيف الإدراك قال إن الناحية الدينية البحتة لا تتناول مسائل الآخرة والجنة والنار التي بها، لا بغيرها، صار الدين ديناً، ولولا مسائل الآخرة وخلود النفس والثواب والعقاب لما امتاز الدين بشيء لما زاد شيئاً على التعاليم الفلسفية السامية التي قال بها فلاسفة عظام، والتي لم تأخذ في قلوب عامة البشر المكان الذي أخذه الدين بسبب عدم نسبتها إلى قوة إلهية خفية وعدم إسنادها إلى الاعتقاد بحياة أخرى بعد الموت تحاسب فيها الأنفس على ما تقيدت به من التعاليم المذكورة وما لم تتقيد به، فالوجهة الدينية البحتة هي العكس تماماً مما ذكره رشيد الخوري في حارضته الهجائية أي أن بلا الآخرة والجنة والنار لا تبقى للدين وجهة دينية بحتة.
ومن بدائع بيان هذا الناثر الهاجي أنه يُدخل المواضيع بعضها في بعض، فيشوش ذهن القارى الذي لا يكاد يشعر أنه يتتبع فكرة حتى يرى الكاتب قد أزاحها من أمام عينيه، كما يزيح صاحب صندوق الفرجة صورة «صاحب الخضراء» من أمام عيني الطفل قبل أن يستوعب جمال شكلها ليضع في محلها صورة «صاحب الأبجر». فبينما الخوري يحاول التنصل من تبعة إثارة التعصبات الدينية المريعة، إذا به يقطع حبل الفكر في هذه الناحية بغتة ويُدخل موضوع الدين الإسلامي في موضوع «الناحية» التي يعالجها على هذا الشكل:
«ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة وأشرت إلى علاقته بالحياة الدنيا وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل الليم فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتى تتقطع بينهما الأسباب، إلخ».
إن القارى ذا المنطق السليم يتوقع من «المحاضر» أن يعود بعد تمام جملة «العقل السليم»، فيعطف على نفسه ومبرراته ويقول مثلاً: «وإني أجد تبيان ذلك من الأمور الضرورية، إلخ»، ويختم هذا الموضوع معدّاً فكر القارى للانتقال إلى موضوع آخر. ولكن أصحاب الخلود الدنكيخوطي [Don Quixote] لا يفتأون يأتون بالمعجزات التي لم تخطر على قلب بشر، فليس للقارىء حيلة غير التسليم لسحر بيانهم الخاطف الأبصار والمحير العقول!
المهووس بالخلود مستعجل فافسحوا له المجال، لا تظنوا أن لجميع حدود المنطق قدرة على كبح جماحه، إنه أرعن، مُلحّ، لاجٌّ يقتحم سياجات العقل ويقفز من النوافذ إلى المجامع ويدخل بلا استئذان، إنه هاجٍ سفيه، من يقدر أن يقف أمام شتمه وسبابه؟
ذهب الحديث عن نوع الموضوع وتحديده وجاء الموضوع نفسه، ولا تسل كيف حدثت هذه العجيبة، ألم يأتك أن من البيان لسحراً، هكذا يكون السحر: {فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر؟}1.
قال صاحب الحارضة الهجائية من فيض علمه:
«فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتى تتقطع بينهما الأسباب ولم يباعد بين الجسد والروح في هذه الحياة، وهما وحدة لا تتجزأ إلا بالموت، ولم ينسَ العقل الذي يجمّل ويكمّل بناء البشر السوي بل لقد قدمه النبي2 على شريعته نفسها بقوله: الشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل، وقوله: دين المرء عقله فمن لا عقل له لا دين له، وقوله: لا يتم دين المرء حتى يتم عقله، فشُرِّف الدماغ البشري بهذه الآيات البينات أعظم تشريف… ولقد أشاد بذكر العلم وفضل العلماء وقال في هذا المعنى من الحِكَم ما يكاد يجمع كتاباً. ونحن لو بحثنا في الإنجيل لما وجدنا أي واحدة تذكر العلم بخير أو بشر».
هذا هو الموضوع وهنا بدء تفضيل الإسلام على المسيحية الذي قلنا إنه كفر بالإسلام الذي يتظاهر رشيد الخوري أنه آمن به. وبما أن الخوري قد خلط بين الدين والطريقة العلمانية في الكلام الذي شاء أن يسميه بحثاً، فلا بد من اقتفاء أثره في اعوجاجه والتوائه، إنه جعل هذا الكلام «بحثاً اجتماعياً فعلاً» فلنوافقه من أجل البحث.
جعل صاحب الحارضة أول تفضيل للإسلام على المسيحية ما ورد في الحديث النبوي من الأقوال عن العقل واتصاله بالدين، وإشادة النبي بذكر العلم وفضل العلماء، فارتكب عدة جرائم ضد الدين الإسلامي وضد الدين المسيحي وضد العقل الذي عرف محمد قدره فوصفه بما عرف. وأول جريمة ضد الدين الإسلامي أنه قدّم الحديث الشريف على القرآن وجعل هذا تابعاً لذاك ووضع كلام الرسول قبل كلام الله في تبيان جوهر الإسلام. والجريمة الثانية الكبرى هي أنه جعل الحديث النبوي حداً للآيات المنزلة وحكماً عليها، فإذا كان محمد قد قدّم العقل على الشريعة المنزلة، كما يقول هذا المنافق الدجال، فالشريعة قد أصبحت منقوضة وأصبح العمل بها على جهة التسليم بأحكام الله وحدوده باطلاً، وإذا أصبح العقل هو المقدم على الشريعة المنزلة فأية قيمة إلهية بقيت لتلك الشريعة؟، وأول جريمة ضد الدينين الإسلامي المسيحي.
معاً هو مقابلته الإنجيل على الحديث النبوي، والإنجيل كلام إلهي في عرف الدينين المسيحي والإسلامي، فمن حيث المسيح هو عن المسيحيين ابن الله وروحه كان كلامه كلام الله ، وفي القرآن إنكار لكون المسيح هو الله أو ابنه من صاحبة ومشاركاً له في الحكم يوم الدينونة ولكن فيه إثبات لكون كلام المسيح كلاماً إلهياً باعتباره منزلاً عملاً بقوله: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك…}1 وجاء قول الله في سورة مريم2 {فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً. وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً… والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً. ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}. وفي سورة النساء3 {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته يوم القيامة يكون عليهم شهيداً}. وفي آل عمران4 {نزَّل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان..}.
كان الصحيح، من حيث البحث، أن يقابل القرآن على الإنجيل مقابلة كلام إلهي لكلام إلهي فلا يزين للمؤمنين أن يتبعوا غروره ونفاق، بهذا يقضي منطق العقل، ولكن الذي اختل منطقه واضطرب شعوره أيعرف الدين أو المنطق؟
بقي أن نعلّق على قول صاحب الحارضة المتقدم تعليقاً أوسع في ما يختص بما جعله أساس المفاضلة. إن وصف محمد الشرع بأنه عقل من خارج ووصفه العقل بأنه شرع من داخل إنما هو شي من التعليل الشعري الذي لا يعيّن تعييناً جازماً مركز العقل البشري من الشرع. وقوله: «لا يتم دين المرء حتى يتم عقله»، و«من لا عقل له لا دين له»، هو حثّ على عدم الجهل بالدين. ولا يشتمل على أية نظرة فلسفية شاملة في العقل. ولو اشتمل على هذه النظرة الشاملة وجعلها محمد قاعدة دعوته لكان اكتفى بأن يكون فيلسوفاً يذهب مذهب الفلاسفة المحكّمين العقل في كل الظواهر، الجاعلينه جوهر الطبيعة وميزة الإنسان فيكون، في هذا الباب، تلميذاً من تلامذة المدرسة السورية الفلسفية التي وضع قواعدها الفلسفية الفيلسوف السوري العظيم زينون وهو قبل محمد وقبل المسيح بزمان. ومن هذا الوجه ما كان يكون لمحمد فضل، إذ هو لم يزد مقدار ذر ة على مذهب الرواقيين في الفكر، إن ميزة محمد هي في أنه نبي لا في أنه فيلسوف، وميزة الإسلام هي في القرآن والشريعة الواردة فيه، لا في الحديث الذي هو من مجمّلات النبي وحسن نظره وسلامة فطرته..
هاني بعل
للبحث استئناف
،الزوبعة، بوينُس آيرس
العدد(18)، 15/4/1941