الغرب الأميركانيّ ـ الأوروبيّ
تحت العباءة الإسرائيليّة
الأمين أحمد أصفهاني
ما ارتكبته آلة الموت الإسرائيليّة في فلسطين في الحرب الأخيرة صادم فعلاً، لكنّه ليس حدثاً استثنائيّاً في تاريخ الدّولة اليهوديّة، بل هو نمط راسخ في قلب مشروع الحركة الصّهيونيّة منذ بداياته الأولى. إنّ مبدأ إيقاع أكبر وأفظع الخسائر بين السّكان المدنيّين يشكِّل جزءاً من فلسفة الحرب عند الإسرائيليّين. ولسنا بحاجة إلى تعداد المجازر الّتي تعرّض لها شعبنا على مدى القرن الماضي، فهي لا تُحصى، وفي معظم الأحيان لم يكن لها مردود عسكريّ… اللّهم إلّا التّرهيب وزرع الرّعب في صفوف المدنيّين العزل.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة، لا أريد أن أتوقّف طويلاً عند المجازر المُرتكبة في غزّة خلال الحرب الفائتة. فالعدوان الأخير هذا، ليس الأوّل، وأظنّ أنّه لن يكون الأخير. طبعاً من المهمّ جدّاً إيصال الصّورة الحقيقيّة المرعبة إلى المجتمع الدّوليّ، وتحريك الرّأيّ العامّ للضغط على حكومات ما تزال تغضّ النّظر، أو تتواطأ مع ما تقوم به سلطات الاحتلال في فلسطين. لكن إلى جانب ذلك، نحن الآن أمام وقائع أخرى شديدة الحساسيّة يجب أن لا تغيب عن خطابنا السّياسيّ والتّعبويّ، وبهذا نكون قد حافظنا على اتجاه البوصلة الصّحيح في صراعنا الوجوديّ مع المخطّطات اليهوديّة.
خلف دخان الدّمار المُمنهج الّذي تعرّضت له فلسطين، خصوصاً قطاع غزّة، نستطيع تلمُّس ثلاث مسائل أعتقد بأنّها على قدر كبير من الأهمّيّة، أو أنّها في الطّريق لكي تصبح ذات أهمّيّة قريباً جدّاً:
المسألة الأولى ـ صحيح أنّ بنيامين نتنياهو يتحمّل مسؤوليّة مباشرة عن جرائم الحرب المُرتكبة في فلسطين. غير أنّ هذا لا يعني أنّ قيادات “إسرائيليّة” أخرى قد تكون أقلّ عنفاً ووحشيّة! إنّ تجربتنا التّاريخيّة مع اليهود، قبل قيام دولة الاغتصاب وبعده، تُظهر أن العنف والإرهاب والتّهجير والإبادة هي صفات عامّة “تمتّع” بها كلّ الّذين تولّوا السّلطة من بن غوريون إلى نتنياهو، مروراً بغولدا مائير ومناحيم بيغن وآرييل شارون… فالممارسات الإرهابيّة الدّمويّة لا تنفصل عن البنية الاستراتيجيّة للقوّات اليهوديّة. ولمواجهة هذه المسألة، من الضّروريّ تحريك دعاوى قضائيّة من خلال القانون الدّوليّ ضدّ كلّ مجرمي الحرب، إذ حتّى لو لم ننجح بسبب التّدخّلات السّياسيّة، فإنّ مجرّد إبقاء سيف العدالة مسلّطاً فوق رؤوسهم يعتبر إنجازاً مفيداً.
المسألة الثّانية ـ إنّ الرّأيّ العامّ العالميّ، أو غالبيّته العظمى، يدين الارتكابات اليهوديّة، ويتعاطف بصدق مع شعبنا في فلسطين، كما وأنّ هناك بعض الشّخصيّات السّياسيّة والفكريّة، من دول معروفة بتأييدها المطلق لـ”إسرائيل”، يملكون من الشّجاعة ما يجعلهم ينتقدون علناً وبشدّة “السّياسات الإسرائيليّة”. وهذا أمر مفيد على المستوى المعنويّ، وله تأثيرات عميقة في حال ترافق مع الالتزام بحملات المقاطعة للبضائع الإسرائيليّة. ومن الممكن التّنسيق مع هذا الحراك العالميّ، ووضع خطط مشتركة هدفها كشف الحقيقة العنصريّة للكيان اليهوديّ… وصولاً إلى نزع الشّرعيّة القانونيّة والمعنويّة عن “الدّولة اليهوديّة”.
لكن علينا ألّا نتوقّع المعجزات من الرّأيّ العامّ في الغرب الأميركانيّ ـ الأوروبيّ، بل العمل الدّؤوب على برامج محدّدة تتراكم تدريجيّاً لتصل إلى الغاية الأعلى، فإذا استثنينا الحراك الشّعبيّ العالميّ الّذي عرّى الحرب الأميركانيّة في فييتنام، وكذلك الحملات الدّوليّة ضدّ نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقية، فأنا لا أذكر حالات أخرى تمكّن الرّأيّ العامّ فيها من تغيير سياسات الدّول، خصوصاً ما يتعلّق بالدّولة العبريّة. بل يمكنني القول أنّ الرّأيّ العامّ لوحده ما كان ليوقف حرب فييتنام لولا أنّ ثوار “الفيتكونغ” أعادوا إلى الأراضي الأميركانيّة عشرات الألوف من جثث الجنود الأميركانيّين القتلى.
المسألة الثّالثة، وهي مرتبطة بما ذكرناه في الفقرة السّابقة ـ إنّ أوروبّة (الإتّحاد الأوروبيّ، الحلف الأطلسيّ، بريطانية) باتت متماهية مع الموقف الأميركانيّ الدّاعم لـ”إسرائيل” بمطلق الأحوال. كانت أوروبّة لسنوات خلت، تحاول أن تظهر بصفة الاعتدال بين “أطراف النّزاع في الشّرق الأوسط، وحرصت دائماً على إبقاء مسافة ملحوظة تميّزها عن انحياز واشنطن الأعمى لكلّ ما يرتكبه اليهود في بلادنا، وقد طرح مسؤولون أوروبيّون في مراحل متعدّدة صيغاً مختلفة للتعاون مع العالم العربيّ، على أمل أن يؤدّي ذلك إلى انخراط “إسرائيل” لاحقاً في سوق شرق أوسطيّة واسعة وشاملة، ولكن لم يحدث قطّ أن أقدم الإتّحاد الأوروبيّ على فرض عقوبات ضدّ الدّولة اليهوديّة ردّاً على خرقها للقوانين الدّوليّة، ورفضها كلّ قرارات مجلس الأمن الدّوليّ، وممارستها التّمييز العنصريّ بحقّ شعبنا في فلسطين. (كان قرار الرّئيس الفرنسيّ الأسبق شارل ديغول بمعاقبة إسرائيل بعد حرب حزيران سنة 1967 الاستثناء الوحيد حتّى الآن، على حدّ علمنا).
و على الرّغم من التلكّؤ الأوروبيّ في محاسبة “إسرائيل” ردّاً على ممارساتها العنصريّة ضدّ شعبنا في فلسطين، إلّا أنّ الاتّحاد الأوروبيّ من حيث أنّه مؤسّسة جامعة للدول الأعضاء، كان ـ على الأقلّ ـ يصدر بيانات تنديد ومناشدة وإدانة، تبقى كلّها مجرّد كلام بكلام، ووثيقة لا تأثير لها تنضمّ إلى مئات الوثائق الّتي تزدحم بها أدراج الاتّحاد في بروكسل. وكانت تلك المواقف الكلاميّة تخدّر دول العالم العربيّ، فينام مسؤولوها على حرير الوعود المتكرّرة.
إنّ إحدى النّتائج المذهلة للارتكابات اليهوديّة الأخيرة في فلسطين (وبالتّحديد في قطاع غزّة المحاصر)، كشف لنا أنّ أوروبّة تخلّت حتّى عن بيانات التّنديد الّتي لا تقدّم ولا تؤخّر، وباتت في سرير واحد مع واشنطن وفي خندق واحد مع “إسرائيل”. وهذا الموقف يتوّج خططاً نُفذّت خلال السّنوات القليلة الماضية، حيث كانت أوروبّة تتبنّى شيئاً فشيئاً وجهة النّظر اليهوديّة، فقد تمّ سنّ مجموعة من التّشريعات القانونيّة، ظاهرها الحدّ من نزعة “معاداة السّاميّة”، أمّا باطنها فهو حماية “إسرئيل” وقادتها من النّقد والمحاسبة، واستهدفت القوانين الجديدة أيضاً الحملات الشّعبيّة الدّاعية إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيليّة باعتبارها أحد مظاهر “معاداة السّاميّة”. ومن ناحية موازية، تقرّر تصنيف القوى الرّافضة للمشروع اليهوديّ على أنّها “منظّمات إرهابيّة”!
كلّ ذلك كان يجري علناً، لكن من دون ضجيج صاخب. ولعلّ “هيصة التّطبيع” مع الدّولة اليهوديّة غطّت نسبيّاً على المضامين الخطيرة لتلك التّشريعات… إلى أن جاء العدوان الإسرائيليّ الأخير على شعبنا في فلسطين ليضع توجّهات الغرب الأميركانيّ ـ الأوروبيّ تحت المجهر، لقد تعرّت الحكومات حتّى من ورقة التّين الأخيرة، إنّ دولاً تفتخر تاريخيّاً بأنّها ملتزمة بـ”الحياد”، مثل النّمسا، لم تجد حرجاً في رفع الأعلام الإسرائيليّة على بعض مبانيها الحكوميّة في خطوة “تضامنيّة” مع إسرائيل!! في حين واصلت دول أخرى شحن السّلاح إلى الدّولة اليهوديّة، وقتما كانت القاذفات الأميركانيّة الصّنع تلقي صواريخها الأوروبيّة الصّنع لتحصد المدنيّين الأبرياء في القطاع المنكوب.
فبعد توقّف العدوان الإسرائيليّ، بدأ شعبنا الصّابر في فلسطين بناء ما تهدّم، إنّ الثّمن الباهظ الّذي دفعناه، وسندفعه، يفرض علينا واجب عدم إضاعته هباءًا، فالعدوان المستمرّ يكشف لنا عن عالم يتغيّر قوميّاً وإقليميّاً وعالميّاً، لذلك فإنّ استيعاب هذا التّبدّل، وبناء سياسات مضادّة له، هما الشّرط الأوّل للانتقال من مرحلة الصّمود إلى مرحلة الانتصار.