الفهم المُفْلِق
ليست الرسالة الإسلامية هذه الرسالة المادية التي يصورها رشيد سليم الخوري ويقال إنها أطلقت الشهوات والمآرب المادية من كل قيد وأزالت من أمامها كل حد، بل هي رسالة روحانية قبل كل شي ومتجهة في الاتجاه عينه الذي تتجه فيه المسيحية ولكنها اضطرت، بحكم البيئة، لأخذ تأخر أو جمود الثقافة المادية في العربة بعين الاعتبار.
ولما كانت الثقافة النفسية العالية لا يمكن أن تقوم بدون قاعدة ثابتة من الثقافة المادية، فقد رأت الرسالة الإسلامية أن تهتم بشؤون الثقافة المادية لكي تهيى الانتصار على المادة والتسامي في عالم الروح. ولم تكن الرسالة المسيحية في حاجة للاهتمام بشؤون الثقافة المادية، لأن البيئة السورية كانت قد بلغت بها أبعد شأو.
لم يقل محمد [الإمام علي] في حديث له «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً» فقط. وهو لو اقتصر على هذا القول، لكان مذهبه الفكري هو الإغراق في المادية اللامحدودة، كما يقول الخوري. ولكن محمداً [علياً] قال: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»، فأخضع بهذا القول المادية إخضاعاً كلياً للروحية. فغرض السعي والكسب لم يعد للبقاء في المادة اللامحدودة، بل صار للوصول إلى المستوى الروحاني الذي ذهب المسيح إليه رأساً، لعدم حاجته إلى إعداد الأساس المادي لأن هذا كان موجوداً بكثرة. وكل من قرأ كتاب الزعيم (نشوء الأمم) يعلم أن المستوى العمراني السوري كان أعلى مستوى في التاريخ الاجتماعي قبل عصر الآلة الحديث. وبهذا يشهد جمهور علماء الأقوام البشرية والجغرافية الاقتصادية أمثال ويدال دي لبلاش [Vidal De La Blach] . ولا نترك هنا التحفظ السابق من جعل الحديث في مقام الإسلام.
إن المادية هي إحدى القضايا التي كان لا بد للإسلام من مواجهتها، ليتمكن من تقريب النفس العربية التي جففتها الصحراء إلى الحالة الروحانية التي لا يمكن أن تنشأ في حالة مقيدة للنفس. الجائع يجب أن يأكل ليصبح قادراً على التفكير في شؤون أخرى. والذي لم يتمكن من سد جوعه المادي ــــ الفيزيائي لا يشعر بالجوع الروحي، والنفسية المثالية ترتقي بنسبة تأمين مقومات الحياة، إذا كانت النفس مؤهلة للارتقاء، أما المسيحية فلم تكن في حاجة إلى نظر في الحاجات المادية، لأن سورية كانت بلاداً يفيض الغنى فيها فيضاً. انظر ما جاء من نبوءة زكريا في التوراة: «وقد بنت صور حصناً لنفسها وكوّمت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق»1. فالبلاد التي كان الذهب والفضة فيها بكثرة التراب لم تكن في حاجة لمن يهديها إلى الكسب.
ولا شك في أن الرسالة المسيحية والإسلامية واحدة، وقد جاء محمد مصدقاً للرسالة المسيحية بكلام إلهي مثبت في القرآن وليس بمجرد حديث نبوي، ولو أن محمداً جاء قبل المسيح لكان المسيح صدّق الرسالة الإسلامية وعدّ رسالته مكملة لها من الحد الذي وقفت عنده، كما عدّها مكملة للرسالة الموسوية من عند الحد الذي وقفت عنده وهو الحد الذي يلتقي معه حد الإسلام في التشريع والقضاء والعناية بالعلاقات الاجتماعية من الدرجة الثقافية التي عليها الجماعة التي ظهرت فيها كل من الرسالتين المذكورتين.
ولقد كان التبشير والإنذار بعبادة الله وترك عبادة الأصنام جوهر الروحانية الإسلامية كما كانا جوهر الروحانية الموسوية. فصفة محمد في القرآن هي صفة «البشير النذير». وتلتقي الرسالتان الموسوية والمحمدية في البشارة والإنذار والتشريع. والآيات المتشابهة مبنى ومعنى من التوراة والقرآن كثيرة نقتصر على أمثلة قليلة منها: «فهوذا يأتي اليوم المتّقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي قال رب الجنود فلا يُبقي لهم أصلاً ولا فرعاً»2. {إن الساعة آتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}3. «اذكروا شريعة موسى عبدي الذي أمرته بها في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام»4. {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم}5. «وأقترب إليكم للحكم وأكون شاهداً سريعاً على السحرة وعلى الفاسقين وعلى الحالفين زوراً وعلى السالبين أجرة الأجير والأرملة واليتيم ومن يصد الغريب ولا يخشاني قال رب الجنود»6. {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}7. «هكذا قال رب الجنود قائلاً اقضوا قضاء الحق واعملوا إحساناً ورحمةً كل إنسان مع أخيه. ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير ولا يفكر أحد منكم شراً على أخيه في قلبكم»1 {ويسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم2 . {ولا يأتَلِ أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}3.
ومن يقرأ سفر تثنية الاشتراع في التوراة، وفيه حدود الله في المعاملات والعقود، وسورتي البقرة والنساء ولا يجد بينها علاقة وثيقة في التشريع والقضاء والأحكام؟، والحقيقة أنها متشابهة إلى حد بعيد جداً. وإليك شيئاً من هذه الموازاة الشرعية بين التوراة والقرآن:
«ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه لأنه يكشف ذيل أبيه»4. {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً}5. «وإذا اضطجع رجل من امرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه. إنهما يقتلان كلاهمان. دمهما عليهما. وإذا اضطجع رجل مع كنته فإنهما يقتلان كلاهما. قد فعلا فاحشة. دمهما عليهما»6. «وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة. بالنار يحرقونه وإياهما لكي لا يكون رذيلة بينكم»7. «وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورتها ورأت هي عورته فذلك عار يقطعان أمام أعين بني شعبهما. قد كشف عورة أخته. يحمل ذنبه. وإذا اضطجع رجل مع امرأة طامث وكشف عورتها عرى ينبوعها وكشفت هي ينبوع دمها يقطعان كلاهما من شعبهما.
عورة أخت أمك أو أخت أبيك لا تكشف. إنه قد عرى قريبته. يحملان ذنبهما. وإذا اضطجع رجل مع امرأة عمه فقد كشف عورة عمه. يحملان ذنبهما. يموتان عقيمين»8. {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللائي في حجوركم من نسائكم اللائي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً}9. «لا يقترب إنسان إلى قريب جسده ليكشف العورة. أنا الرب. عورة أبيك وعورة أمك لا تكشف. إنها أمك لا تكشف عورتها، عورة امرأة أبيك لا تكشف. إنها عورة أبيك.
عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجاً لا تكشف عورتها. عورة ابنة ابنك أو ابنة بنتك لا تكشف عورتها. إنها عورتك. عورة بنت امرأة أبيك المولودة من أبيك لا تكشف عورتها. إنها أختك. عور أخت أبيك لا تكشف. إنها قريبة أبيك. عورة أخت أمك لا تكشف. إنها قريبة أمك. عورة أخي أبيك لا تكشف. إلى امرأته لا تقترب. إنها عمتك. عورة كنتك لا تكشف. إنها امرأة ابنك. لا تكشف عورتها. عورة امرأة أخيك لا تكشف.
إنها عورة أخيك. عورة امرأة وبنتها لا تكشف. ولا تأخذ ابنة ابنها أو ابنة بنتها لتكشف عورتها. إنهما قريبتاها. إنه رذيلة. ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها. ولا تقترب إلى امرأة في نجاسة طمثها لتكشف عورتها. ولا تجعل مع امرأة صاحبك مضجعك لزرع فتنجس بها»1. ومن مقابلة هذه الآيات في التوراة القرآن نجد موضوع التشريع واحداً والحدود واحدة، فلنرَ أمثلة أخرى:
«وإذا باع رجل ابنته أَمَةً لا تخرج كما يخرج العبيد. إن قبحت في عيني سيدها الذي خطبها لنفسه يدعها تفك. وليس له سلطان أن يبيعها لقوم أجانب لغدره بها»2. والمحْصَنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محْصِنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليماً حكيماً}3 «إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها» . 4{وإن خفتم ألا تُقسِطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورُباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تَعُولوا}5 .
«إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شي وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست، لأن ذلك رجس لدى الرب»6. {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}7. والحكم في القرآن هو العكس تماماً لما في التوراة، ولكن مقصد الشارع واحد وهو تقييد الطلاق. وهكذا فسر مفسرو الإسلام حكم هذه الآية.
وورد في القرآن فيما يختص بالطمث الوارد عنه في التوراة، وهو مثبت فوق، هذه الآية: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}1 .
ووردت أيضاً متشابهات أحكام الزنى والربا والسرقة وما شاكل من قوانين الجزاء.
ولا نطيل الشرح في أن هذه الآيات التشريعية متساوية في الأساس متشابهة في الشكل فيما يختص بالحالة الشرعية للأزواج والإماء، وفيما يختص بالمحللات والمحرمات في المأكل. ونضيف إلى هذا الاتفاق بين الدينين في الأحوال المدنية، الشخصية، الاتفاق في شؤون الدولة الدينية:
«من وسط أخوك تجعل عليك ملكاً. لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبياً ليس هو أخاك (أي أخاك في ملتك)»2 ، وهذه الوصية من سفر التثنية الإصحاح (17ــــ 15). ويقابلها في القرآن: {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً}3 {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا الله عليكم سلطاناً مبيناً}4 .
في هذا القدر كفاية لإثبات اتفاق الدينين الموسوي والمحمدي في أساس تشريعي واحد، وسيأتي تبيان أسباب هذه الاتفاقات والمشابهات في ما يلي من هذا البحث.
هاني بعل
للبحث استئناف
،(الزوبعة)، بوينُس آيرس
العدد (20)، 15/5/1941