المتآمرون يعودون إلى التآمر
في العدد السابق من هذه الجريدة نشرنا تعليقاً على محاولة رشيد سليم الخوري القدوم إلى الأرجنتين حاملاً كتب تفويض من بعض أشخاص ومن بعض جمعيات غير موجودة بالفعل، ليقوم بشعوذة من شعوذات سياسة العهد البائد، فيدّعي بالاستناد على الكتب التي معه وهي عديمة القيمة المجموعية، أنه قادم لتمثيل الجالية السورية في البرازيل. وقلنا في التعليق المشار إليه إنّ هذه المحاولة ليست سوى نتيجة مؤامرة واسعة النطاق بين عدد من العاملين بالنفسية العتيقة لاستغلال الشعب السوري بانتهاز الأحداث الإنترناسيونية التي يقع الشعب غير المنظم ضحية أمام صورها الخادعة، التي يصورها المشعوذون المستخدمون من قبل دول أجنبية معينة. فقد تبين لنا من الإطراء الذي أسبغه المير شكيب أرسلان على رشيد الخوري في إحدى مقالاته الأخيرة لِــ«العلم العربي»، التي يقال إنّ لبعض عمال الإذاعة الألمانية علاقة وثيقة بها، ومن مقالات «العلم العربي» في مديح هذا الخوري التي لم يخفَ أنها نشرت بإيعاز ومن الكتب التي أخذ بعض المشتغلين بسياسة الجالية السورية في هذه البلاد يرسلها سراً إلى أشخاص وجمعيات هنا وفي الداخلية، أنّ هنالك شبكة واسعة يحوكها الرجعيون النفعيون المتمرنون على تهييج الغوغاء واستغلاله ليصطادوا بها الشعب هذه المرة أيضاً كما اصطاده زملاؤهم في الحرب الماضية.
قلنا في العدد الماضي إنّ مؤامرة هؤلاء الرجعيين الذين يعتمدون على النعرة الدينية في بعض الأوساط المتعصبة قد حبطت، والحقيقة أنها حبطت بالفعل. فقد كان رشيد الخوري عزم على المجيء إلى بوينس آيرس بصحبة علي الحاج في أواسط شهر ديسمير/كانون الأول الماضي ولكنه لم يلاقِ التلبية والتشجيع اللذين كان ينتظرهما بسبب ظهور حقيقة أمره بواسطة المقالات الدراسية التي ينشرها في «الزوبعة» هاني بعل، فأجّل سفره حتى أواسط يناير/كانون الثاني الماضي. وفي هذه الأثناء بذل جهده للحصول على وثائق اعتماد من جمعيات كثيرة وأشخاص، ولكنه خاب هذه المرة فلم يتمكن من تحقيق غايته.
وقد بلغنا أنّ مؤتمراً سورية عقد في البرازيل بإدارة رجال الفكرة السورية القومية الذين ننتظر ورود أسمائهم وتقرير أعمالهم لننشرها في «الزوبعة» وكان موعد انعقاد هذا المؤتمر في أواسط ديسمبر/كانون الأول الماضي فتناول مسألة الحركة السورية القومية وانتشارها ودرس مساعي الرجعيين والمشعوذين، وقرر استنكار محاولاتهم وإعلان شعوذتهم وعدم تمثيلهم سوى أنفسهم ومآربهم النفعية وقرر أيضاً قبول تأييد العناصر الواسعة المحبّذة للحركة السورية القومية التي أعلنت بوثائق رسمية أنها لا تقبل غير الحزب السوري القومي ممثلاً لحقوق الأمة السورية ومصالحها.
كان لانعقاد هذا المؤتمر ولنتائجه الباهرة تأثير عظيم في جميع أوساط الجالية السورية في البرازيل، إذ أجمعت على استحسانه واستصواب قراراته. فكان ذلك ضربة قاضية على آمال رشيد الخوري وأضرابه المستغلين الانشقاقات الدينية في الشعب، المتوددين إلى فئة دينية معينة ضد فئة دينية أخرى معينة لغاية في نفوسهم.
ولكن هؤلاء النفعيين الانتهازيين قرروا السير بمحاولتهم إلى النهاية فقد وردنا من البرازيل أنّ رشيد الخوري وشفيق عماد الذي لا يزال يدّعي أنه «سكرتير جمعية الرابطة الوطنية السورية» وهي جمعية منحلة منذ نحو ثلاث سنوات، ونفراً لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة اجتمعوا وعزموا على القيام بأعظم شعوذة «وطنية» في تاريخ المهازل السياسية في المهاجر السورية. فنشروا باسم جريدة «الرابطة» التي يستغلها شفيق عماد ما سموه «نداء»، ادعوا فيه باطلاً، أنه «قد عقد فريق من الأحرار السوريين الذين يمثلون مختلف الهيئات الوطنية اجتماعاً في مركز الرابطة الوطنية السورية وقرروا بالإجماع الاشتراك في المؤتمر العربي المذكور»، أي المؤتمر الذي يحاول المتآمرون على قضية الأمة عقده لأخذ وثيقة منه يساومون بها بعض الدول الأجنبية على حقوق الشعب السوري كما أخذ في الماضي شكري غانم وجميل مردم وغيرهما كتباً واحتجاجات وبرقيات من جمعيات موجودة وغير موجودة ادّعوا بها تمثيل الشعب السوري لدى بعض الدول الأجنبية وفي مؤتمر الصلح.
في عهد الحرب العالمية الماضية قام كل كسول من السوريين متبجح بحب الاستقلال يؤيد مساعي أولئك المشعوذين الذين لا يفهمون شيئاً من حياة الأمم وكيفية نهوضها، وهو يظن أنه بهذا التأييد يصبح رجلاً من رجال تحرير الوطن، لأنه يتناول من المشعوذين المذكورين كتباً يزينون له فيها كسله بطولة، وجهله علماً، وسذاجته حكمة فائقة. واليوم نرى بقايا الكسالى تأخذ في تمثيل الدور عينه.
مشعوذو العهد الماضي قاموا يستغلون نقمة الشعب على تركية. ومشعوذو العهد الحالي قاموا يستغلون نقمة الشعب السوري على فرنسة وبريطانية، ولكن من هو الذي جلب فرنسة وبريطانية إلى بلادنا؟ أليس النفعيون السياسيون، الذين قالوا للشعب تعالوا نؤيد الحلفاء الذين يعطوننا تصريحات بحبهم لنا، ورغبتهم في حريتنا واستقلالنا؟
ومن هم الذين يريدون أن يجلبوا غير فرنسة وغير بريطانية إلى بلادنا؟ أليسوا هم الذين يقولون: إنّ دولاً أخرى تعطينا اليوم تصريحات بأنها تحبنا وترغب في حريتنا واستقلالنا؟
جميع هؤلاء السياسيين المعفنين يغشّون الشعب لمآربهم ويجعلونه يعتقد أنّ حريته واستقلاله متوقفان على وعود بعض الدول الأجنبية التي تعرف أيمتى تعطي تلك الوعود ولماذا تعطى تلك الوعود وتقطع تلك العهود.
أما النهضة السورية القومية التي يقودها زعيم وقف نفسه على تنظيم الشعب وتدريبه على الصلاحيات والمسؤوليات التي بها تقوم الأعمال الجديرة بإنالة الشعب استقلاله، ويعمل في تأسيس دعائمها رجال أحبوا شعبهم أكثر كثيراً مما أحبوا أنفسهم وذويهم وعدد من عظمائهم، هم الآن في سجن المحكمة العسكرية الأجنبية التي حاكمتهم من أجل إخلاصهم لشعبهم ــــ أما هذه النهضة التي وضعت قواعد وحدة الشعب السوري فيحاربها أولئك الرجعيون بكل قواهم، لأنهم يعلمون أنّ بانتصارها فُقِدَ كل أمل باستمرار الشعوذة.
إنّ «النداء» الذي أذاعه دجالو الأعمال السورية القومية في البرازيل اقتصر على إعلان هذه «الكليشه» العتيقة أو الماركة المسجلة للمشعوذين: «عقد فريق من الأحرار السوريين الذين يمثلون مختلف الهيئات الوطنية». كل عشرة سوريين يجتمعون في قهوة أو نادٍ أو منزل أو إدارة جريدة هم «فريق من الأحرار السوريين الذين يمثلون مختلف الهيئات الوطنية» ذلك لأن الفوضى المنتشرة خارج الحركة السورية القومية تسمح للمشعوذين بادعاء كل أمر وانتحال كل صفة، لأن جميع أمورهم قائمة على الخداع ولأن الفوضى لا ضابط لها. ولكن هل يصح، إذا اجتمع عشرة أو عشرون رجلاً يتبجحون «بالوطنية» وينشرون أحياناً بعض مقالات أو قصائد سخيفة، أن يقال إنّ هؤلاء المجتمعين باتفاق سري بعضهم مع بعض يمثلون «مختلف الهيئات الوطنية»؟
ومن هم هؤلاء الرجال المجتمعون، وما هي هذه «الهيئات الوطنية» التي يمثلونها؟ الحقيقة أنه لو كانت هنالك هيئات وطنية صحيحة تعترف الجالية السورية في البرازيل بأنها تمثل رأيها وموقفها، لما كان لجأ المشعوذون إلى صيغة الإغفال والنكرة، بل كانوا يسمّون هذه «الهيئات» هيئة هيئة ليكون كل شيء واضحاً أمام الناس ولا تكون المسألة مسألة «لعبة غميض» تذهب فيها مصالح أمة بأسرها.
نأخذ مثالاً لما يعنونه «بالهيئات الوطنية» الجمعية المسماة «الرابطة الوطنية السورية». فهذه الجمعية كان قد أسسها زعيم الحركة السورية القومية نفسه سنة 1925 ووضع مبادئها وغايتها. ولكنه أعطاها صفة جمعية سرية اقترح اسمها السابق أحد الأعضاء وقُبِل. ثم غلبت محبة الظهور والتبجح بالأعمال السخيفة التي تخدع الناس على معظم أعضائها، فتركها سعاده واجتمع الباقون وأدخلوا تعديلاً طفيفاً على قانونها وبقيت غايتها كما رسمها سعاده. ونمت الجمعية بعض النمو. ولكن عددها ظل محدوداً ثم حصل انشقاق في أعضائها فانسحب معظمهم ولم يبقَ أعضاء فيها سوى نحو عشرين شخصاً، وعضويتهم اسمية، ولا يحضر أكثرهم سوى اجتماع انتخاب أو ما أشبه. ثم جاء قرار الحكومة البرازيلية سنة 1938 بحلّ الجمعيات الأجنبية فانحلت هذه الجمعية من الجملة ولكن شفيق عماد الذي كان يحمل صفة «سكرتير الرابطة» بقي محتفظاً بالجريدة التي صدرت عنها وأبقى عليها اسم المرحوم الوطني الكبير الدكتور خليل سعاده للمتاجرة باسمه الشهير الكبير.
هذا هو كل شأن هذه الجمعية المسماة «الرابطة الوطنية السورية»، فهل يصح أن يقال إنها والجمعيات الأخرى التي على شاكلتها تمثل الجالية السورية في البرازيل، أو قسماً هاماً في تلك الجالية النشيطة؟
ولكن المشعوذين يعلمون أنهم لا يحتاجون لأكثر من أسماء بعض جمعيات، مهما كانت عديمة القيمة، ليخدعوا المهاجرين المنشغلين في متاجرهم عن الشؤون السياسية. وبهذه الصورة يريدون أن يوهموا الجالية السورية في الأرجنتين أنّ الشخصين القادمين من البرازيل إلى هذه البلاد، اللذين لا يمثلان سوى شخصيهما ونفر يُعدّ على الأصابع، آتيان لتمثيل العنوانات المغفلة التي سمّوها «الهيئات الوطنية المختلفة» كما لو كانت حقيقية.
وقد وردنا من البرازيل، في رسالة إخبارية، أنّ أحد شبان الجالية المثقفين الذي له معرفة جيدة برشيد الخوري سأل هذا: «هل تعتقد أنك ستنجح في الأرجنتين بعدما لاقيته في البرازيل من عدم الاكتراث؟» فأجابه الخوري: «مؤكد، لأن المسلمين في الأرجنتين أكثر ويكفي أنني مدحت النبي محمد لهم ليهتموا. وقد أرسل المير شكيب أرسلان يوصي بي عندهم. وهم جماعة إذا جئتهم عن طريق الدين نلت منهم كل ما ترغبه»، ولا ندري إذا كان شعر أنه يهين السوريين المسلمين بهذا القول.
ويقال الآن إنّ مساعدة مالية وصلت إلى رشيد الخوري من خارج البرازيل ليتمكن من تنفيذ مآرب شعوذته، وأنه ينتظر أن يكون قريباً في هذه البلاد. ولكن أوساط الجالية السورية هنا ستكون بعيدة عن مساعيه إلا فئة تقول في سرّها: اليوم يوم البيع والشراء والسوق قائمة. فيجب اغتنام الفرص قبل فواتها.
ولكننا نؤكد لهؤلاء أنّ موجة الاستياء من حركات الرجعة إلى الفتنة الدينية التي يقوم بها رشيد الخوري آخذة في الامتداد في كل مكان، وأنّ عقلاء السوريين من مسلمين ومسيحيين الذين يريدون أن يروا شعبهم موحداً في المبادىء السورية القومية سيقفون في وجه هذه الشعوذات التي تنزل قيمة الشعب السوري أمام الشعوب المتمدنة التي تعرف أصول الحقوق وكيفية التعبير الصحيح عن إرادة الشعب.
الزوبعة، بوينس آيرس،
العدد 14، 15/2/1941