المقالات السياسية: سورية تجاه بلفور
صحَّ الصحيح وزار بلفور سورية لكي يهلل مع أصحابه الصهيونيين أثناء الاحتفال بإقامة المعهد اليهودي العلمي الأول من نوعه في فلسطين، التي وعدهم بجعلها وطناً قومياً لليهود، للحالة المرعبة التي تتهدد ذلك القسم الكبير من سورية بويلات ستكون في صفحات التاريخ لعنة أبدية على بلفور والسياسة الإنكليزية.
كنا قد كتبنا في الجزء الأول من سنة المجلة الحالية شيئاً عن امتداد الصهيونية المرتبطة ببلفور بعهد أقل ما يقال فيه إنه أسوأ العهود الدنيئة في تاريخ الدول لأنه، فضلاً عن أنه عهد غيرمبني على شيء من العدل الإنساني والحق الطبيعي، جاء طعنة من الوراء في ظهر الشعب السوري الذي قدّر أمانة سياسيــي الحلفاء وسلامة نيتهم تقديراً سليماً انتهى بهذا الغدر الذي قلّما سُمع بمثله، وهو غدر صادر عن أسمى مقام سياسي في أوروبة بوقاحة وصلابة جبين يخجل عن إتيان مثلهما البرابرة فضلاً عن المتمدنين الذين يفهمون الحقوق الإنسانية.
ذكرنا في ما كتبناه عن الصهيونية وامتدادها في الجزء المذكور من المجلة استفحال الحركة الصهيونية، وأشرنا إلى الخطر الذي يتهدد سورية من وراء ذلك، وقلنا با لعدول عن الموقف المخجل الذي وقفه السوريون تجاه محاولة الصهيونيين امتلاك فلسطين وتهديد سورية كلها بخراب اقتصادي وسياسي مؤكد. وأوضحنا أنّ محاربة الحركة الصهيونية لا يجب أن تقتصر على فلسطين التي هي جزء من سوريةا، بل يجب أن تتناول سورية كلها التي يجب أن لا يحول دون تضامنها الفعلي لحفظ كيانها ونيل استقلالها التام التقسيم السياسي الذي وضعه سياسيو أوروبة وفقاً لأغراض ومقاصد دولهم التي أخفوها تحت أسماء الوصاية والانتداب وما شاكل تسهيلاً لتنفيذها. ويسرنا أن تكون زيارة بلفور لسورية قد جعلت السوريين جميعهم يظهرون نوعاً من التضامن، الذي قلنا ولا نزال نقول بوجوب التمشي عليه إذا كنا نرجو لأنفسنا حرية تستحق الحياة.
لم يلاقِ بلفور في زيارته لسورية سوى تيار عام من الاستياء والسخط العظيمين. وهذه هي بارقة الأمل الأولى التي بدت في غياهب اليأس من تكوين رأي سوري عام. فهي المرة الأولى التي تبدو فيها أقسام سورية كلها متفقة على رأي واحد فيما يختص بالقضايا السياسية التي لها مساس بحياة سورية، وهي المرة الأولى التي نشعر فيها بفرح واستبشار من وجهة قضيتنا الوطنية.
كان أعظم استياء في سورية اتخذ وجهة خطرة هو الاستياء الذي حدث في دمشق عاصمة سورية وكعبة الحركة الوطنية السورية. فإن ما جرى في دمشق على أثر وصول بلفور إليها لمما يستحق التسجيل في بطون التاريخ. وإننا عند اطلاعنا على تفاصيل ما حدث في دمشق كما نشرتها جريدة «ألف باء الدمشقية»، لم نتمالك من الهتاف لدمشق وحياة دمشق.
بيد أنه رغماً من كل ما حدث في طول سورية وعرضها من المظاهرات الدالة على استياء السوريين من بلفور وكرههم لوعده التاريخي السيء الطالع، لا يمكننا أن نهرب من وجه الحقيقة التي لا تقبل جدلاً، وهي أنّ كل ما حدث كان أقل شيء يمكن سورية أو أية أمة أخرى أن تفعله. ونريد بهذا أن نقول إنّ سورية لم تفعل ما يجب فعله لإدخال قضيتها الوطنية في طور جديد، يكون من الخطورة بمكان يدعو إلى جعل المسألة السورية مسألة يجب حلها على ما يتفق مع رغائب السوريين الوطنية.
إنّ ما حدث، مع اعتبار وجهته الحسنة، هو على الحقيقة غير ما كان يجب أن يحدث. وإننا نعترف بأننا عندما بلغنا خبر سفر بلفور إلى سورية، رجَّحنا أنّ بلفور سيبقى هناك إلى الأبد، وتوقَّعنا أن تظهر الوطنية السورية في هيئة بركان يقذف على الصهيونيين ومعاضديهم حمماً قتّالة. وإننا بعد التفكير توصلنا إلى الاعتقاد بأن ذلك كان يكون أفعل كثيراً من كل شيء آخر. أما الأسباب التي تحملنا على هذا الاعتقاد فنبديها في الفقرات التالية.
إننا قبل كل شيء من الذين يعتقدون بتأثير الجمعيات السياسية السرية. فلما جمعتنا الظروف ببعض الأصدقاء، لم نتمالك من إبداء رأينا بترجيح القيام بحركة فعلية لا تكون أقل من ثورة تديرها جمعية أو جمعيات تعمل في الخفاء لإنقاذ الوطن من الطامعين فيه المعتدين على حقوقه الاجتماعية والطبيعية. قلنا إنه سيقع لبلفور وصهيونييه حوادث مؤلمة تكون قصاصاً لهم وعبرة لمن ينوي أن يأتي بعدهم ويتمم العمل الشائن الذي ابتدأوا فيه. ويكون للناظرين إلى أحوال العالم صورة حقيقية لما يجرّه على الأمم مثل وعد بلفور. ولكن أولئك الأصدقاء أظهروا من المخاوف من مثل ما ارتأيناه ما جاوز حد الاعتدال فضلاً عن أنه ليس في محله. وإننا نفصح عن ذلك الآن ونبدأ بهذا السؤال: ماذا كان يحدث لسورية لو أصاب بلفور مكروه مقصود فيها؟
نعتقد أنّ ما يحدث لسورية حينئذٍ يتوقف على المكان الذي يحصل فيه المكروه. فإذا كان ذلك في فلسطين، فإن المعقول أنّ الحكومة البريطانية تسأل حكومة فلسطين عن ذلك، وهي حكومة يرأسها يهودي. ثم يأخذ في الفحص والاستقصاء عن مسببي ذلك، وما هي الأسباب التي حملتهم على القيام بفعلهم لكي تجري بحقهم المحاكمات اللازمة. وقد يكون من وراء ذلك القبض على كثيرين من زعماء الحركة الوطنية في فلسطين، إلى أن تكون الأمور قد عادت إلى مجاريها من السكينة. أما إذا حدث المكروه في دمشق أو أية بقعة أخرى تحت النفوذ الفرنسي، فإن المفوضية الفرنسية السامية لسورية تكون هي المسؤولة في الدرجة الأولى عن كل ذلك. فيكون من شأن هذه أن تصل إلى اتفاق مع حكومة بريطانية بهذا الصدد والقيام بالتحريات اللازمة لمعاقبة مرتكبي الجرم. ولا تتعدى الحال أكثر من ذلك، إذ لا يخشى في مثل هذه المسألة على استقلال سورية كما يخشى على استقلال مصر. فسورية لا استقلال لها، ولا يمكن الأجانب أن يستبدوا بها أكثر مم هم مستبدون.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ننظر إلى الوقع الذي يكون لهذا الحادث في نفوس الصهيونيين في العالم كله، وإلى ما يكون من التأثير والتغيير في موقف الحركة الوطنية السورية. وهنا نسأل سؤالاً آخر هو: ماذا كان يحدث للحركة الصهيونية لو أصاب بلفور مكروه في سورية؟
بعد الاجتماع الذي أتينا على ذكره، جمعتنا الظروف بصديق آخر رزين هادىء يفكر في الأمور ملياً قبل إعطاء حكمه. وكان مدار كلامنا بلفور وزيارته لسورية. قال الصديق إنّ بلفور كان يجب أن يلاقي في سورية حتفه «إذ لا يخيف اليهود شيء مثل الموت».
أجل، لا يخيف أصحاب الحركة الصهيونية التهويل من بعيد والجعجعة، بل الشيء الحقيقي الذي يخيفهم هو الموت، ولو وُجد في سورية رجل فدائي يضحي بنفسه في سبيل وطنه ويقتل بلفور، لكانت تغيّرت القضية السورية من الوجهة الصهيونية تغيّراً مدهشاً. فإن الصهيونيين عندما يرون أنّ واعدهم بفلسطين قد لقي حتفه، يعلمون أنهم يواجهون ثورة حقيقية على أعمالهم غير المشروعة ويوقنون أنّ سورية مستعدة للمحافظة على كل شبر من أرضها بكل ما لها من القوى وما لديها من الأسلحة العصرية والقديمة.
إنّ المعارك التي حدثت بين السوريين والصهيونيين في أول مايو/أيار من سنة 1922 في حيفا وأماكن أخرى من فلسطين وقتل فيها عدد غير قليل من اليهود، لم تكن بلا تأثير بل أدَّت إلى نتائج هامة وألقت على الصهيونيين عظات بليغات، كان من ورائها أنّ عائلات كثيرة تركت فلسطين وعائلات كثيرة رجعت عن عزمها على استيطان تلك البقعة السورية. أما احتجاجات السوريين على وعد بلفور أثناء زيارته لسورية فلم تأتِ بنصف التأثير الذي أتت به حوادث سنة 1922.
هنا نرى أنه لا بدّ من العودة إلى تكرار ما قلناه سابقاً عن الاعتماد على القوة المنظمة لا على الضعف المنظم. فكل أمة تريد أن تحافظ على كيانها المستقل، يجب أن تعلم أنّ ذلك يتوقف على استعدادها هي لدفع كل اعتداء بكل ما لديها من الوسائل والممكنات. المحافظة على كيان أمةٍ ما علم حربي من الطبقة الأولى، كما أنه علم سياسي من الطبقة الأولى. وبدون الاعتماد على هذين العلمين يكون كل تعب للمحافظة على الحرية والاستقلال أو لنيل الحرية والاستقلال باطلاً.
نحن لا نقول بالأعمال الجنونية لأننا لا ندعو إلى الانتحار الوطني، لذلك نرجو القرّاء أن لا يسيئوا فهم ما نقول. فما حدث في فلسطين سنة 1922 لم يكن عملاً جنونياً قط، بل كان في غاية الحكمة. وقد يوجد كثيرون يفسرون الحكمة بالجنون، ولكن الحقيقة لا يغيّرها كلام الجهال الذين أجهل منهم من يسمع لهم.
كنا ولا نزال وسنظل نقول إنه لا خلاص لنا إلا بالقوة المنظمة. فنحن ندعو إلى تنظيم جمعياتنا وأحزابنا الجهرية والسرية وجعلها كلها تسير على هذه القاعدة التي برهن التاريخ أنها أفعل القواعد في المحافظة على حقوق الأمم وحياتها الاستقلالية. ولو كان عندنا أحزاب وجمعيات قوية تسير على هذا المبدأ، لكانت حالنا على غير ما هي عليه الآن.
إنّ تاريخنا الماضي يدلنا على أنّ موضع الضعف في حياتنا الوطنية هو هنا، أي في عدم وجود أحزاب وجمعيات قوية علنية كانت أم سريّة تضع نصب أعينها العمل بمبدأ القوة المنظمة. ومن هنا نرى أنّ واجبنا صريح لا يقبل جدلاً، ونعني بهذا الواجب أن نكون مؤلفين أحزاباً وجمعيات قوية تعتمد على المبدأ المذكور في تأييد حقوقنا واستقلالنا. ولا عبرة بما يقوله الكسالى الذين يظنون أنهم أفهم الناس ويصرّحون علناً بأنهم يريدون تهذيب سورية، وكان الأحرى بهم أن يذهبوا هم أنفسهم إلى مدارس يتلقنون فيها مبادىء التهذيب الأولية. فأولئك من الجهال الذين يدَّعون المعرفة والحكمة كما ادَّعى العلم قارىء الصحيفة الصفراء.
إننا نوجه كلامنا هنا إلى الشبيبة السورية خصوصاً، فإن المسؤولية الملقاة على عاتقها مسؤولية كبرى ويُنتظر منها أن تقوم بواجبها نحو وطنها بكل أمانة وإخلاص غير مصغية إلى أقوال فلاسفة الكسل والخمول أو إلى أقوال المضلِّلين والمرجفين. فإذا عقدت الشبية السورية عزيمتها على بذل كل قواها لإنقاذ وطنها، أتمت ذلك فعلاً. فما عقدت شبيبة بلادٍ ما عزيمتها على أمر إلا وفعلته. إنّ الشبيبة العزومة تتغلب على كل المصاعب التي يحجم الشيوخ عن مواجهتها بحكمتهم.
إنّ الذين يقولون إنّ الشبيبة مجنونة دائماً يخطئون كثيراً، فإن للشبيبة حكمة فائقة إذا كان لا يدركها الشيوخ فلأن العصر القديم لا يفهم العصر الجديد تماماً.
لو كان كل ما يقوم به الشبان جنوناً، لما كانت الثورات العظمى في العالم التي قام بها الشبان أتت بنجاح باهر في سبيل تأييد الحقوق الطبيعية ونيل الحرية والاستقلال. إذا كان كل عمل تقوم به الشبيبة جنوناً، فكل عمل يقوم به الشيوخ خرف. ولكن ما لنا ولهذا، فالحقيقة هي أنّ للشيوخ حكمة الاختبارات الطويلة وللشبان عزم الفكر الوقاد والنفس العزيزة. فليستعمل الشيوخ حكمتهم لعضد عمل الشبان لا لإقعاد هؤلاء عن العمل!
إني أنادي شبان سورية كلهم أينما كانوا وحيثما وجدوا، وأستحلفهم بكل عزيز لديهم أن يكونوا يداً واحدة لإنقاذ وطننا من المعتدين عليه. وعسى أن نرى قريباً الوحدات السورية قائمة بالعمل العظيم المطلوب منها بكل دقة وشجاعة! أما الذين يقعدهم الجبن عن تمام واجباتهم تجاه الوطن والإنسانية فإن عار جبنهم يكون عليهم مدى الحياة. وليكن ختام هذه العجالة تلك العبارة الخالدة «إلى الأمام!»، فهي لذيذة على سمع الأحرار.
أنطون سعاده
المجلة، سان باولو
السنة 11، الجزء 4، 1/5/1925