بينَ سجنِ الرَّملِ، ورملِ بيروت، وطنٌ دافىءٌ نلوذُ بِهِ!
الرّفيق جهاد الشّوفي ناظر إذاعة منفّذيّة حاصبيّا
من شَغفِ سورية، “أنطون سعاده، الصَّباحُ الجميلُ لكَ!
ولِدتُ ونشَأتُ في كنفِ جبلِ الشَّيخِ، وكانَ التُّرابُ في أعلى سُلّمِ أناشيــــدي، دفئاً وحنيناً وانتماءً، لكنَّ “أنطون سعـــاده”، عدَّلَ لُغتــي، فصرْتُ أستعذبُ الرَّمــلَ حيـنَ اغتسِلَ بِ”الشَّهادةِ”
في هذا الزَّمنِ الّذي ندفعُ فيهِ ثمنَ اللُّقمةِ الأخيرةِ، نتيجةً للميِّتينَ في الرُّطوبةِ، والمعلّبينَ في توابيتِ الهويَّةِ، والّذينَ سلّطوا علينا جـــرادَهم، فاستباحَ دمنا، وجعــلَنا نرقُــصُ فوقَ الوجعِ، أَسَرَّ لي “كاهِنُ” اللَّحظــــاتِ الأخيرةِ: “لا تجعـــلْ تموّزَ يَعبـــرُ منْ بيـــنِ ثُقوبِ الحجارةِ، مهما انسابتْ شَبابيكُ الحرمانِ، وعصفت ملامِحُ الغُربـةِ!!
أُدينُ لِ”سعاده” بِأنَّهُ حرّرني من سِجنِ القبيلةِ، وأعفاني من إلزاميّةِ الخدمةِ في عفنِ الطَّوائِف، وأبعدُ من ذلِكَ، علّمني: “حياةً في موتٍ، بدَلاً من موتٍ في حياةٍ”، وكتبَ شيئاً على ذلكَ “الرّملِ” صارَ مِفتاحَاً لكلِّ قصيدةٍ!!
شَهادةُ سعاده فوقَ “الرَّملِ”، هي خلاصةٌ منَ الوجعِ العذبِ نتوارثُهُ، كما تتوارثُ السَّنابِلُ حبَّاتِ القمحِ، بَعيدَاً عنِ الفوضى في زفيرِ الكلمات.
يَجِبُ أن نبتكرَ لِسعاده والرَّملِ “قاموساً”، لهُ مُفرداتُهُ ودلالاتُهُ الخاصّة. فالرَّملُ في الأصلِ مساحةُ “ظمأ وجدْبٍ”، ولكنَّ “سعاده”وحينَ “أراقَ” شَهادتَهُ جَعلهُ مِحوراً تتمظهرُ حولَهُ الحياةُ، وإماراتُها، فأفصحَ عنْ خَلقٍ لنورٍ في عتماتِ اللَّيلِ البهيمِ، صارَ الرَّملُ فضاءً/حياة، ولم يَعُدْ جَماداً، بلٌ سِياقٌ ثَقافيٌّ، إبداعيُّ يرفِدُ الحياةَ، بِكلِّ ما تحتمِلُ منَ القِيمِ، ومعهُ استعدنا كثيراً من خصوصيّةِ الفِداءِ والبُطولةِ، وما عدنا نقلقُ للمطرِ الشَّحيحِ الّذي قد يأتي، أو لا يأتي.
شَهادةُ سعاده حوّلتِ الرَّملَ الظامِىءَ، المُنغمسَ في الجفافِ والموتِ، والّذي يَحلُمُ بالسُّقيا إلى “آنيّةٍ “لانسكابِ “دَمِهِ”، فأمدّنا بذاكرةٍ خصبةٍ مرويَّةٍ، كُنا نَطمحُ إليها، وحقَّقَ أعظمَ أحلامه بالارتواءِ!
جعلَ سعـــاده منَ الرَّملِ فضــاءً للحياةِ، فأنسنهُ وجعلَ لهُ عُروقاً، تجــري فيها الولادات الطَّالعةُ منَ لُقاحِ الإثمِ القديمِ لاهثةً بالخيرِ والحقِّ والجمالِ.
دمُ سعاده فوقَ الرَّملِ، لم يكنْ إشارةً عابِرةً، فلقد ترَكَ الشَّاطىءَ ثَمِلاً، فأزالَ عنهُ عنهُ قِشرةُ اليَباسِ، لذلكَ يَعودُ الموجُ لِيشربَ منهُ، ونحنُ عُدنا لِنسهرَ معَ قمر “سورية”، وصارَ لنا شُهداءُ كثرٌ يديرونَ ليالي السَّمر.
ساعدنا “الرَّملُ” على انتقاءِ مفرداتِ الفداءِ، والبطولةِ، وغرسَ في نُفوسِنا أمطارَ آذار، وسَعّرَ فينا نارَ الشِّعرِ الأحمر، فبدَّل كثيراً من سُحنتِنا، وتجاسرنا معهُ على الانقلابِ على مصائرِ الرِّيحِ، وانتزعنا منهُ دور القيادةِ.
الرّملُ المغسولِ بدمِ سعاده، لهُ الأثرُ الكبيرُ في الرَّمزِ والحضورِ، ويجب أن يتجذّرَ في ذاكرتِنا، ووجدانِنا، فعليه استقرّت أعظمُ تجارِبنا، الّتي تركت فينا أثراً يُعادِلُ الوجودَ كلّهُ، ولا تستطيعُ قوّةُ في الأرضِ محوه.
سعاده المعلّمُ المؤسّسُ وباعثُ النَّهضةِ، خطَّ معظمَ مُدوّناتِهِ في “سجنِ الرَّملِ”، ووقّعها بدمِهِ على رملِ بيروت!!
حضرة الزَّعيم، في ذكرى الشَّهادةِ، يتكوّمُ قلبي الصّاخبُ هدوءاً، لقد وفّرت لنا الإطمئنانَ، وخرجنا منْ زمنِ القلقِ والرَّجفةِ!!!