ثقافةُ العطاءِ
رئيس النّدوة الثّقافيّة الأمين ادمون ملحم
العطاءُ، هُوَ فِعلُ مَحَبَّةٍ وإيمانٍ تَتَسامَى فيهِ الأخلاقُ، أخلاقُ التَّراحُمِ والتَّعاوُنِ والتَّعاطُفِ الإنسانيّ. إنَّهُ الفِعلُ الأَسمَى الَّذي يَتَجَلَّى فيهِ الشُّعورُ النَّبيلُ والحِسُّ الاجتماعيّ. فِعلٌ، يَعكِسُ إيمانًا بالحياةِ الجميلةِ القائمةِ على المَحبَّةِ القوميَّةِ والإِخاءِ القوميِّ والحبِّ الكلي، من خلالِهِ يُمكِنُ أنْ نُحَقِّقَ المُعجِزاتِ وَنُسَاهِمَ في بِناءِ مُجْتَمَعٍ أفضلَ وأجملَ، وُصُولاً إِلى عالَمٍ انسانيٍّ أكثرَ تَعاطُفًا وتَراحُمًا وسَخاءً، وأكثرَ صِحَّةً وتَوازُنًا وَسَلامًا.
والعَطاءُ هُوَ فَضيلةٌ اجتماعيَّةٌ وانسانيَّةٌ عاليةٌ تَعني البَذلَ والتَّضحيَةَ والتَّجرُّدَ مِنَ الأَنانيَّةِ المُشْبَعَةِ غُروراً. وتَعني التَّحَسُّسَ بآلامِ النَّاسِ وَحاجاتِهِم، والشُّعُورَ بالمَسؤوليَّةِ اتّجاهَ المُجتَمَعِ والإنسانيَّةِ جَمْعَاء. وَهَذهِ الفَضيلَةُ هِيَ ركيزةٌ أساسيَّةٌ لِبِناءِ مُجتَمَعٍ قَومِيٍّ سليمٍ، وعالَمٍ أجمل.
العطاءُ الحقيقيُّ يبدأُ بالحبِّ الصَّادقِ العميقِ. فالحُبُّ هُوَ أجملُ الأشياءِ، وأعظمُ قُوَّةٍ في العالَمِ، ومن دُونِهِ لا تُبنَى الأَوطان، ولا يُمْكِنُ للإنسانِ أنْ يحيا بِسَعَادة. هو أَساسُ الحَياةِ، وَكَما يَقُولُ سَعاده: «مَتَى وَجَدَ الإنسانُ الحُبَّ، فَقَد وَجَدَ أَساسَ الحياةِ والقُوَّةِ الَّتي يَنتَصِرُ بِها على كلِّ عَدُوٍّ».
إنَّ المَناقِبَ الجَديدةَ الَّتي جاءَ بِها أنطون سَعاده تُوَجِّهُ النُّفُوسَ نحو غاَيَةِ الأُمَّةِ العُظْمَى، وَقَضِيَّتِها، وَتَدْفَعُهُم للتَّضحِيَةِ والبَذْلِ والعَطاءِ، وَلِمُحاربَةِ النَّزْعَةِ الفَردِيَّةِ والأَنانيَّاتِ الحقيرةِ «الَّتي تُريدُ أَنْ تأخُذَ ولا تُعْطِي». لِذَلِكَ، نَحْنُ مَعْشَرَ القوميّينَ الاجتماعيّين، تَرَبَّيْنا على أَنْ نُعْطِيَ بِصِدْقٍ وَفَرَحٍ وَإِخلاصٍ لِتَحْيا الأُمَّةُ حياةَ العِزِّ والحُرِّيَّة. إِنَّ الحُبَّ الكامِنَ في قلوبِنا يَتغَذَّى بِتَعاليمِ القَومِيَّةِ الاجتماعيَّةِ الصَّافيةِ وينمو بنظرتِها الجديدةِ إلى الحياةِ والكَونِ والفَنّ. هُوَ حُبٌّ يَنْعمُ بالحُرِّيَّةِ والجَمالِ، لِأَنَّهُ يُحَرِّرُ النُّفوسَ من عُبوديَّةِ «النَّزعَةِ الفَردِيَّة» وخُصوصيّاتِها المُظلِمةِ، ويرتَقي بِها إِلى رِحابِ المُجتَمَعِ الواسعةِ، حَيْثُ تَتَجَلَّى جماليّاتُ النَّفْسِ البَشَريَّةِ حُبًّا وتَعاطُفًا وتَعاونًا وَعطاءً. لِذَلِكَ إنَّ هذا الحُبَّ هُوَ بِمَثابةِ قُوَّةٍ هائِلةٍ تَسْكُنُ في النُّفوسِ والقُلوبِ، وتبتدئُ فيها ومِنها وتملأُها صدقًا وإخلاصًا ووفاءً، هِيَ قُوَّةُ عزْمٍ وإيمانٍ تَدْفَعُ الواحدَ مِنَّا لِأَنْ يكونَ شَمْعةً تُضيءُ الظُّلُماتِ وَتُنيرُ الدَّربَ للآخرين، قُوَّةٌ مُحرِّكَةٌ ودافعةٌ إلى البَذْلِ والتَّضْحِياتِ، إِلى الوقوفِ مَعًا بِتصميمٍ وإرادةٍ واعِيَيْن، من أجلِ تحقيقِ الغاياتِ السَّامية، بالعطاءِ والعَمَلِ والبِناءِ والإنتاجِ وبالصِّراعِ في سَبيلِ الارتقاءِ بِالأمَّةِ وتَحْسينِ حياتِها بجميعِ وُجُوهِها.
يَقولُ سَعاده إنَّ «النَّفسَ الكَريمةَ لا تَكُفّ عَنِ العَطاء». وهَكَذا فإنَّ نُفُوسَ القَومِيّينَ الاجتماعِيّينَ الخَيِّرةَ والكريمة، لا تَكُفُّ عَنِ العَطاء. فَبِداخِلِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُم تَشتَعِلُ رَغْبةٌ مُتأجِّجَةٌ لِلبَذْلِ والتَّضحِيَةِ والعَطاءِ في سَبيلِ قَضيَّتِهِم المُقَدَّسَة. فالقوميّونَ الاجتماعيّونَ يزرعونَ الأرضَ حبًّا وعَطاءً ووعْيًا وقيَمًا، ويعمَلونَ بكُلِّ عَزيمةٍ صادقةٍ ونكرانٍ للذّاتِ لانتصارِ مَبادِئِهم السَّاميةِ، ويَبْذُلونَ نُفوسَهم في سبيلِ إِحيائِها، وعزيمتهم، كَما يَقولُ سَعاده: «هِيَ عزيمةٌ تَطلَّبُ الموتَ متى كانَ الموتُ طريقًا إلى الحياة».
وعطاؤُنا ليسَ عطاءً موسميًّا، بلْ هُوَ عَطاءٌ سَخِيٌّ ودائمٌ ومتنوِّعٌ ويُعكِسُ وَعْيًا اجتماعيًّا عاليًا، لأنَّ دافِعَنا إليهِ هُوَ هَذِهِ “النَحنُ” الكامِنَةُ في نفوسِنا، هُوَ انتماؤُنا الاجتماعيُّ ومحبَّتُنا لأَبناءِ شَعْبِنا وشُعُورُنا بحاجاتِهِ ومصالِحِهِ وتَمَنّي الخيرَ لَهُ كَما نَتَمنَّى الخيرَ لأَنفُسِنا. فنحنُ نصارِعُ ونواجِهُ العَقَباتِ والشَّدائدَ، ونَتَحمَّلُ الآلامَ والأوجاعَ، ونقدِّمُ المالَ، ونُضحّي بأَوقاتِنا وراحتِنا، وندافِعُ عن حقوقِ النَّاسِ والمحرومينَ والضُّعَفاءِ والمظلومينَ، ونَمْنَحُ الأمَلَ والحُبَّ للنُّفوسِ البائسةِ، ونُمضي أوقاتَنا في محاربةِ الجَهلِ والظُّلمِ والمَثالبِ، وفي نَشْرِ المَعْرِفَةِ النَّافِعَةِ، وفي تَجسيدِ القِيَمِ والفَضائلِ الجميلةِ في حياتِنا، ولا نتردَّدُ لحظةً في تقديمِ الدِّماءِ الحارَّةِ الَّتي تَجري في عُروقِنا والَّتي هِيَ وديعةُ الأمَّةِ فينا. لِذَلِكَ يَقولُ سَعاده: «ها النَّهضةُ القوميَّةُ قَدْ جاءَتْ تُحْرِقُ وتُضيءُ، تُحرِقُ مَنْ أَتى بِها، وَتُحْرِقُ مَنْ يَقِفُ في سبيلِها، وتُضيءُ لِأُمَّةٍ ظَنَّها أَعداؤُها مُنقَرِضة».
وَنَحنُ، كُلَّما بَذَلْنا وقَدَّمْنا عطاءاتٍ وتضحيات، ازداَد شعورُنا بالسَّعادةِ، وازدادَ إيمانُنا بأنَّنا نصنَعُ فارِقًا إيجابيًّا في حياتِنا وفي حياةِ المُجتَمع. فالعطاءُ هُوَ شَرَفٌ وَوِسامٌ على صُدُورِنا. هُوَ قُوَّةٌ جميلةٌ تنبَعُ من قُلوبِنا وتُعطي حياتَنا مغزىً، وَتُثْري نفوسَنا غِبطةً وسعادةً، لأنَّ عطاءَنا هُوَ فِعْلٌ واعٍ ومقصودٌ، يعودُ مردودُهُ لغايَتَيْنِ ساميَتَيْن، هُما تحقيقُ الحياةِ الحُرَّةِ الجميلةِ لِأُمَّتنا، والوصولُ إلى عالَمٍ انسانيٍّ جديدٍ أفضلُ مِنَ المَوجود.