دفاع سعاده في المحاكمة الأولى
“نقلاً عن صوت الأحرار، بيروت، عدد 24/1/1936”
مقدمة
في السادس عشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1935 ألقي القبض على زعيم الحزب السوري القومي وعدد كثير من أعضائه.
وكان الناس يجهلون إلى ذلك الحين هذه الشخصية العبقرية تطلع عليهم فجأة بهذه القوة وهذا الجبروت.
وراح الناس يتسقطون الأخبار عن هذه النهضة المباركة وزعيمها ورجالها وينتظرون بفارغ الصبر محاكمة هؤلاء الشبان، وما تؤول إليه النتيجة.
وكان يوم المحاكمة يوماً مشهوداً في تاريخ الأمة السورية، فقد غصَّت بيروت يومئذ بوفود القوميين من جميع أنحاء سورية جاءوا يشهدون محاكمة زعيمهم المفدى ورجاله.
وأصغت الأمة كلها إلى الكلمة التي سيقولها هذا الفتى الكبير، وكانت كلمة كبيرة نبيلة تجلَّت فيها الجرأة والنبالة والعلم، وأدهش القضاة فصاحته ورباطة جأشه ومقدرته.
ونحن نثبت في هذه الصفحة الخطاب التاريخي، كما نشرته الزميلة الكبرى صوت الأحرار في تاريخ 24 يناير/ كانون الثاني 1936.
جواب الزعيم
ووقف الأستاذ سعاده وقال بلهجة هادئة وفصيحة مفنداً التّهم الموجهة إليه وإلى الحزب:
“إنّ الكلام الذي سأقوله الآن سيكون ضمن الحدود التي تكرمتم بالإشارة إليها.
إنّ كلامي لن يكون وسيلة دعائية للحزب، ولكنه سيكون كلاماً يتناول نظريات لا بد من الإشارة إليها لإيضاح العمل الذي قمت به، وإذا اتفق أن ورد في كلامي شيء يتعلق بالعاطفة أكثر مما يتعلق بالعلم والعقل فأرجو عليه المعذرة.
“لقد اعترفت وأكرر الاعتراف بأني وضعت مبادىء الحزب السوري القومي ودعوت إلى تأسيس الحزب عليها، وقد أسسته بالفعل وقمت على إدارته بمساعدة معاونيّ الذين اشتركوا معي في العمل كلٌ حسب صلاحيته، ومع أني أسست الحزب سَرّياً فسرّيته وقتية كما تنص على ذلك إحدى مواد دستوره.
ولما كان لا يمكن الفصل تماماً بين النظرة العامة على الحزب وبين النقاط الخاصة التي ذكرت على منبر رئاسة المحكمة، فسآخذ الموضوع بالإجمال وبالنسبة إلى التّهم الموجهة إليّ”.
وحدة سورية الجغرافية
“إني متهم بخرق وحدة البلاد الجغرافية وانتهاك حرمة الأرض.
فأراني مضطراً علمياً لا بالعاطفة للقول بأن خرق وحدة وطننا الجغرافية وانتهاك حرمة أرضنا قد تمّا بالفعل في سان ريمو وسيفر ولوزان”.
إعتراض النائب العام
وكان الترجمان ينقل للمحكمة أقوال الأستاذ سعاده بالفرنسية، فلما وصل إلى العبارتين الأخيرتين إعترض النائب العام على هذه (الآراء) وقال إنّ المتهم قد تجاوز حدود الدفاع إلى أمور لا ينبغي سماعها.
وأيّد الرئيس المسيو روسه ذلك فدعا الزعيم إلى الاقتصار على نقاط الدفاع فتابع يقول:
قلب الحكومة
“انتقل بناءً على أمر الرئيس إلى نقطة جديدة أعني قصد تغيير شكل الحكومة، وقد يكون هذا التغيير واجباً لمصلحة البلاد، فرغبات كل جماعة تتطور مع كل زمن ولكننا على كل حال لم نبحث هذا الأمر البتّة”.
لسنا نقلد الأجانب
“وبناءً على توجيه الكلام إليَّ بأن الحركة التي أقوم بها هي تقليد لحركات أوروبة، أقول أن لا تقليد عندنا مطلقاً ولسنا ممن يتبعون شارات الغير وبعبارة أوضح لسنا تحت تأثير أي عامل أجنبي.
“أما فيما يختص بالروح الاعتدائية الظاهرة في القانون فقد قلت في استنطاقي إن المبادىء الأساسية التي تكوِّن دستور الحزب هي الشيء الثابت الراهن، أما بقية المواد التي في القوانين فليست إلا وسيلة عملية موقتة، ولدينا براهين هي الآن في يد المحكمة تثبت أننا كنا على وشك تعديل هذه القوانين.
“أما فيما يتعلق بمسألة الأعضاء المنتمين إلى المهن الحرة فأقول إنّ لهؤلاء ملء الحق بممارسة حقوقهم المدنية والسياسية والاشتراك في الأحزاب، ولا يمكن أن نمنعهم من الدخول في حزبنا.
“وإذا كان أعضاء بعض المهن هم أكثر فائدة موقتة للحزب، فذلك قد يرجع إلى كثرة عددهم ونجاح انتشار فكرة الحزب بينهم”.
ظروف خاصة
“مما سألني إياه حضرة الرئيس مسألة ممارسة أبناء البلاد حقوقهم المدنية والسياسية، وكانت هذه المسألة مهمة جداً في الحزب، فإني أسمح لنفسي بالكلام فيها جواباً على كلام الرئيس.
“إنّ تأسيس الحزب السوري القومي قد تم في ظروف خاصة أوجبت الأسلوب والصيغة اللذين اتصف بهما، والحالة التي أوجبت نشوء الحزب على هذه الكيفية هي ظروف البلاد الحالية التي تضع مانعاً غير حقوقي يحول دون ممارسة أبناء البلاد حقوقهم السياسية لأن الأمة المعترف باستقلالها وبأهليتها لهذا الاستقلال، وتُمنع فيها الحرية التامة بإبداء الآراء السياسية والعقائد القومية… الأمة التي تخلو من منبر عام، ومن حرية تشكيل الأحزاب السياسية هي تحيا ولا شك في ظروف غير اعتيادية”.
لماذا كان الحزب سريّاً؟
“ولولا هذه الظروف لما كان ثمة مانع مطلقاً من نشر الحزب في الحال بصرف النظر عن العوامل الأخرى التي دعت إلى كتمانه.
“قد يقال إنّ البلاد تعيش في ظلال حريتها، وإنها تمارس حقوق سيادتها بواسطة مجالسها النيابية، وعلى هذا اضطر للقول بأن السيادة الفعلية وحقوق ممارستها هي في الشعب دائماً. فإذا وُضعت عوامل تمنع الشعب من ممارسة حقوقه كان من الواجب عليهم أن يبتكروا أسلوباً يتغلبون به على هذه الصعوبة وهذا ما فعلناه.
“وإنّ حقوق سيادتنا معترف بها رسمياً بنصوص دولية، ومعترف بها أيضاً من لدن الدولة المنتدبة، وإنّ حالتنا تحت الانتداب لتضع علينا مسؤولية مهمة جداً أريد أن ألفت إليها النظر بصورة خاصة، وهي أنّ الانتداب وجد ليعطينا المساعدة والمشورة الإداريتين، وهذا يحتم أنّ ما بقي من الصلاحيات حقوق محفوظة للشعب المعترف باستقلاله، فإذا كان الانتداب للمساعدة كما ذكرت، فالواجب الباقي علينا نحن المنتدب علينا هو واجب النمو القومي، نمو النضج الحقوقي، والقوة القومية على أساليب تحفظ لنا روحيتنا الأصلية فنحن إذ نقوم بالحزب السوري لا نكون قد فعلنا أكثر من معاونة الدولة المنتدبة في مهمة الترقية، وذلك بالارتقاء بأنفسنا؟.
لا نكره الأجنبي
“ليس في حركتنا كره للأجنبي ولا المبدأ المعروف في العالم، بالشوبينزم، كلا، مبادؤنا تعميرية بحت.
“إنّ البواعث الإيجابية التي دفعتني إلى إنشاء الحزب، عدا ما قلته عن مسألة ممارسة حقوق السيادة، هي وضع حد لفوضى العقائد القومية في المجتمع، وتوحيده في عقيدة كيانه ومصلحته، وصرفه عن التخيلات العقيمة إلى التفكير العملي والعمل، وتعويد النشء خصوصاً ممارسة الحقوق القومية والفضائل التي توحد المجتمع وترقّيه في نظرياته وأنظمته، وقيادة النشء إلى النظام والتمرن على استخدام مواهبهم في سبيل ترقية أمتهم وفي سبيل معرفة الواجبات العامة.
“وهذه النقطة المهمة هي ما دفعني إلى قصد جعل الحزب كله “ميليشيا” منظمة، وهذا هو الدافع الأولي لإنشاء هذه الدائرة الخاصة التي سميت بصورة مستعجلة ؟عمدة الحربية؟
“إنما أردنا النظام، والنظام لن يكون دون قوانين ولا يتم إلا بتعيين الحقوق والمسؤوليات؟.
هل شاغب الحزب؟
“والنظام من طبيعته الابتعاد عن المشاغبات ففي كل المدة التي مضت على إنشاء الحزب القومي حتى الآن لم يقم بأي عمل شغب، بل كان الحزب مانعاً وواقياً من المشاغبات المخلة بالأمن العام.
“انتقل الآن إلى بحث نقطة تتعلق ببعض ما هو مكتوب في أوراقي الخاصة وبعض رسائل واردة إلي.
“الحزب، من حيث هو حزب، لا يمكنه أن يحمل طابع رئيسه في نفسية كل فرد أو أي شخص بارز من أعضائه.
“الحزب يجمع عناصر متنوعة، ولا يمكن قتل هذا التنوع، لذلك كانت تردني من حين إلى آخر رسائل من أفراد هم شباب متقدرون ومتحمسون، ومن شباب تعلَّموا في المدارس السياسية القديمة أنّ السياسة هي فقط كره الأجنبي. ولذلك يتصورون أنّ كل عمل قومي سياسي لا يمكن أن يقوم إلا على كره الأجنبي.
“ومن هذه الرسائل ما كان يرد علي مشيراً بوجوب أخذ احتياطات حربية باعتبار أنّ الحرية بدون قوة هي شيء خدّاع كالسراب.
“وكان واجبي لا يسمح لي أن أرمي هذه الرسائل في سلة المهملات رأساً. بل كان واجبي يحملني على الاحتفاظ بها لدرسها لذلك كنت أدوّن كل ما ورد فيها وكنت أسجل كل نقطة ترد إلي.
“هنالك نقطة تتعلق بإصدار مرسوم في إنشاء شركة تجارية تمد الحزب وتغذيه ـ إنّ الورقة المطبوع عليها هذا المرسوم ليست من أوراق الحزب ولا تحمل توقيعاً ما. ولذلك فهي بدون قيمة، هي فكرة لم تخرج مني.
“أما الرسالة المنسوبة إلى الأمير أسعد الأيوبي فأقول إنها لم تذع بواسطة الحزب ولم تعرض عليّ بصفة رسمية، فإذا قلت إنها حسنة فذلك رأي إجمالي شخصي ولذلك لم أتبنّ هذه الرسالة”.
السلاح ووالفدائية
“ومن جملة النقاط الموضوعة في دفتري مسألة السلاح، ومسألة فرق الصيانة والفرق الفدائية في الحزب.
“وهنا يجب أن أقول إنّ هذه النقاط تخص ما ذكرته من الآراء المارة التي بلغتني. لم يكن لدينا في الحزب أي احتياط لإيجاد مكان لجمع السلاح. ولا أي رجال مخصصين لجمع السلاح ولا أي عمل مطلقاً يدل على البحث عن سلاح، فإذا كان قد وردني بعض آراء تتعلق بمسألة السلاح ودونتها في مذكرتي، ورأيت أن أشكر الذين أرسلوها إليّ فلا أرى في ذلك جريمة…”
لا علاقة للحزب بالأجانب
“أختم كلامي مكرراً أنّ الحزب لا علاقة له بأي نفوذ أجنبي البتة، ولقد قلت في خطابي الرسمي الموجود الآن بين أيدي المحكمة إننا ضد الدعوات الأجنبية وإننا نعمل في سبيل استقلالنا بصفتنا أمة معترفاً باستقلالنا.
“الحزب تعميري بحت نظاممي تام، غرضه ممارسة الحقوق المدنية والقومية في ظروف حرجة…
“ولم يكن القصد أن يكون حزباً سرياً مطلقاً. فهو ليس جمعية إرهابية ولا هو مجموعة أفراد عقائدهم تتعلق بهم وتتحدد بهم فقط. مبادؤنا هي للعموم، ونحن ننتظر إقبال العموم لأن التعمير من جهات أربع: الاجتماع والاقتصاد والنظام والسياسة، عمل جدير بأن يشجَّع، ووجوده ضروري وواجب وهو ضمن نطاق جميع الحقوق النظامية والسياسية.
“واشكر حضرة الرئيس لسماحه لي بالوقت الكافي لإبداء هذه الإيضاحات، وآسف أني لم أتمكن من إجابة طلبه في التكلم، باللغة الفرنسية”.
النهضة، بيروت
العدد 105، 1/3/1938