صناعة العقائد المزيفة (1) مثالب الذل ووالخداع
إنّ أعظم بلية حلَّت بالأمة السورية، نتيجة لعصور التقهقر والانحطاط بعامل فقد السيادة القومية، هي بليَّة الأمراض النفسية والانحطاط المناقبي، وقيام المصالح الخصوصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية، وتحجر المصالح الخصوصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية، وتحجر المجتمع السوري في قوالب الحزبيات الدينية المختلفة، فتفشّت في المتحد الاجتماعي المثالب الأخلاقية، وحلّت محل المناقب، فطغت نفسية الرياء والغش والتزييف والنفاق، يساعدها على الانتشار الجهل والفقر والذل التي تعرّض لها الشعب في سقوطه من سيادته وعزِّه.
تلك المثالب هي التي تزيّف اليوم حقيقة نفسية الأمة الأصلية وحقيقة قضيتها وغايتها العظمى، حتى إننا لم نكن نرى، قبل نشوء الحركة القومية الاجتماعية، إلا متزلِّفين إلى الدول الأجنبية يطلبون المصلحة الخصوصية بخدمة غاياتها ومطامعها في وطننا وإلا عاملين في الشؤون السياسية لمصالح الدول الاستعمارية الكبرى، وإلا العاملين لخدع الشعب بقضايا مصطنعة يشير الأجنبي بإنشائها وصرف مجهود الشباب التوّاق إلى الحرية والخير في أقنيتها المهيأة على قواعد الأمراض النفسية والفوضى الاجتماعية السياسية. ولذلك قال الزعيم في أحد مقالاته في كل شيء، إنه يحتقر دهاقنة السياسة الوطنية الرجعية الذين يظنون أنّ الغنم كل الغنم هو في الاستناد إلى دولة أجنبية تؤيدهم ليبلغوا قضاياهم الخصوصية ويخدموا مآربها، وإنه يحتقر أصحاب “السلطة الرابعة في الدولة” الذين يجدون الغاية العظمى في خدمة المطامع الأجنبية والمصالح الخصوصية ضد مصلحة الأمة وغايتها العظمى.
لعل أعظم فئات الشعب استحقاقاً للحقارة، هي الفئات التي لا تقتصر على العمل الضروري الحر في عملها ضد مصلحة الأمة، بل تتعدى ذلك إلى تنظيم العمل المجموعي لخدمة القضايا الرجعية والمصالح الأجنبية المرتبطة بها فتنشىء التشكيلات شبه الوطنية وشبه القومية وتسميها “منظمات”، وتبتدىء تبث في الشباب الذين تجمعهم باسم “الوطن” الطائفي و “القوية” الدينية أو اللغوية روح الغايات الملتوية، وتزّيف لهم المبادىء وتشوِّهه القيم، وتقدم لهم عقائد مزيفة تسجن نفوسهم في قوالبها، وتنشىء لهم حول الحقارة التي تتمرغ فيها وتنزل في مهاويها، هالة من المجد المزيَّف تخدع الشباب وتغرر بهم فيندفعون، بما في طبيعتهم السورية من نبل وخير، وراء سراب العقائد الزائفة والمبادىء المنتحلة، وينحدرون إلى حضيض المثل السفلى والقضايا الخسيسة وهم يظنون أنهم يرتقون إلى قنن المجد!
بعد أن نشأ الحزب السوري القومي الاجتماعي، على الرغم من قوانين منع الأحزاب في عهد الانتداب، وحين كانت الرجعة مسيطرة والمطامع النبيلة خامدة في الشباب، وأخذ يمتد في جميع المناطق اللبنانية التي رأت في مبادئه ونظامه عودة الحياة القومية إلى الشعب، ذهل الاستعمار وارتاع لهذا الحادث العظيم. ولما رأى أنه لا يستطيع قتل مبادىء الحياة القومية الجديدة وتعاليمها الاجتماعية بواسطة السجون والإرهاب والحديد والنار، أوعز إلى عماله بإنشاء التشكيلات الغرارة لتخدع الشباب وتسمم نفوس الأحداث بسموم القضايا الرجعية وروحية الاستسلام للاستعمار. فقامت حكومات دهاقنة السياسة في ذلك العهد، الذين يعرفون قيمة العمل للمصلحة الأجنبية في تحقيق الأغراض الخصوصية، تشجع إنشاء التشكيلات بقصد خدمة الاحتلال الأجنبي في غاياته الاستعمارية.
كانت أول تشكيلة نشأت في جو ثقافة الاحتلال وسياسة الاستعمار من أجل محاربة الحركة القومية الاجتماعية، تشكيلة “حزب الوحدة اللبنانية” الذي ابتدأه السيد توفيق لطف الله عواد، الذي صار فيما بعد، سنة 1937، “نائباً” بالتعيين! ولم يكن السيد عواد رياضياً بدنياً، ونظراً لبعده عن أوساط الرياضيين لم يتمكن من جمع عدد كبير من هواة الحركات البدنية المولعين بمظاهرها فلم ينجح حزبه كثيراً. حدثت حينئذٍ محاولة إنشاء الفلانج أو “الكتائب اللبنانية” في الأوساط الرياضية وكان الشيخ البرجوازي الرياضي بيار الجميّل متصلاً بتلك الأوساط وكان يهتم بلعبة الكرة بالرجل، وبما أنه من عائلة الجميّل المعرفة، وله أصدقاء في الأوساط الرياضية فقد وجدت الأسباب الكافية لتأسيس تشكيلة شباب طائية تكون على صداقة وتعاقد مع الدولة المحتلة! ثم جاء السيد يوسف السودا ينشىء “السباقة اللبنانية” ويسابق التشكيلتين المارونتين المذكورتين وعلى اساس “السباقة” حاول إنشاء جبهة تشكيلات طائفية باسم “الجبهة القومية اللبنانية” فقصر في السباق مع التشكيلتين الأوليين وحبط مشروع الجبهة وتعزَّى السيد السودا بوضع “مبادىء” الفلانج أو الكتائب أو الكتائب الطلائعية (والطلائع هو أحدث إسم تسمّت له الفلانج)، وهذا على الأقل ما ادعاه السيد السودا في بعض المقابلات في أميركة الجنوبية!
جميع تلك التشكيلات اللبنانية التي شوهت الحقيقة اللبنانية، وأخذت تنادي بفكرة تلبنن جديد، طائفي، إنعزالي، لم يكن يراود إحساس أحد من اللبنانيين الذين كانوا دائماً فخورين بحقيقتهم السورية وبمزايا أمتهم الممتازة، كانت تشكيلات مستحدثة على عجلة لقصد واحد هو: محاربة الحركة السورية القومية الاجتماعية التي أوجدت القضية القومية الاجتماعية العظيمة، ونادت ببطلان القضايا الرجعية القائمة على الحزبية الدينية والمصالح العائلية، التي استند إليها الأجنبي المحتل في إنشاء دول “اللوان”. وقد اعترف بهذه الحقيقة الرائعة التي تضم التشكيلات المذكورة بالمروق من القومية وبالسير ضد قضية الشعب، الرئيس الأول للتشكيلة الأولى السيد توفيق لطف الله عواد في خطابه في المجلس النيابي اللبناني سنة 1937، في جلسة محاسبة الحكومة على حلها التشكيلات اللبنانية التي سميت غلطاً “منظمات”. واعترف بهذه الحقيقة عدد من النواب الذين خطبوا في الجلسة المذكورة. فقد كانت الحقيقة مشهورة وهي أنّ الحكومة، ومن ورائها مفوضية الاحتلال الفرنسي، أوعزت بإنشاء التشكيلات اللبنانية وشجعت على تنميتها بماكانت ترسله من تعليمات إلى المحافظين والقائمقامين والمختارين وقيادة الدرك ورؤساء المخافر، حتى أنّ تشكيلة الفلانج قامت تحت رئاسة رئيس جمهورية الاحتلال السيد إميل إده. وكان واضحاً أنّ الغرض الرئيسي من إنشاء التشكيلات المذكورة سنة 1936 هو محاربة الحزب السوري القومي الاجتماعي في أوساط الشعب بإنشاء تكتلات شباب من المثقفين ثقافة أجنبية ضد القومية والوعي القومي تكون عوناً للدولة المحتلة على تنفيذ سياستها الاستعمارية.
وقد سارت التشكيلات المذكورة إلى تحقيق مهمتها بكل الرعونة التي تقتضيها طبيعة إنشائها، فأخذت تحارب الحقيقة السورية والحزب السوري القومي الاجتماعي، في الوقت عينه الذي كانت تقتبس من مبادىء هذا الحزب وتعاليمه كل ما وجدته جذاباً للجماهير المحتاجة إليه! وبينما كانت جريدة الوحدة اللبنانية تعلن أنه إذا اقتصر زعيم الحركة القومية الاجتماعية على لبنان فالشباب اللبناني (أي الماروني في عرفهم) يكون مستعداً للسير بقيادته، كان “رئيس الكتائب اللبنانية الأعلى” يعلن في خطاب أو تصريح في بكفيا، أنه يجب كسر رأس أنطون سعاده لإنقاذ لبنان الحزبية والطائفية من دعوته القومية الاجتماعية، ولم تكتفِ هذه التشكيلات بذلك، بل قامت تشوِّه البلاد والقومية اللتين حَيِيَ فيهما السوريون الذين يشكلون أمة حية عظيمة ومنهم آباء الموارنة وأجدادهم العظماء، وأخذت تبث بترتيب روح الكره للاسم السوري الجميل العظيم، وتعلِّم كره لبنان السوري القومية الاجتماعية، وتحبيب لبنان الأجنبي الثقافية، ولكي تضلِّل اللبنانيين وتخدعهم صارت تسمّي الثقافة الأجنبية الغريبة عن النفس السورية واصولها الثقافية العريقة: اقتراباً من الغرب والثقافة الغربية أي اقتراباً من حالة التقدم الغربي، مع أنّ الحقيقة هي بالعكس، اي أننا لا يمكننا أن نضاهي الأمم الغربية المتقدمة المتفوقة إلا بوعي حقيقتنا السورية الأصلية واستخراج نهضتنا من روح أمتنا ومواهبها كما ينص المبدأ الأساسي السابع من مبادىء النهضة السورية القومية الاجتماعية.
الجيل الجديد، بيروت،
العدد 16، 27/4/1949