صناعة العقائد المزيفة (2) القاعدة الانتحالية الذهبية!
لمَّا كانت الغاية الحقيقة من إنشاء التشكيلات الطائفية المارونية المسماة “باللبنانية” محاربة الحركة السورية القومية الاجتماعية، كما بينّا في المقال السابق (راجع العدد 16 من الجيل الجديد)، فقد اكتفت تلك التشكيلات في بادىء أمرها باقتباس بعض الأشكال التنظيمية عن هذه الحركة، وبتغذية الشبان بالتعصب للانعزال اللبناني، وبكره القومية السورية التي خفقت بحبها قلوب الأجداد ووضحت بها مواهبهم وثبتت مفاخرهم، لنسخوها وينسخوا بنسخها آباءهم وأجدادهم، وبتشويه حقيقة النهضة السورية القومية الاجتماعية وإيعاز صدوور الأحداث ضدها. وهذا العمل التأسيسي العظيم كان يكفيها “في خدمة لبنان”، ويكفي الاحتلال الأجنبي المنتدب في عمله لتحقيق أغراضه الاستعمارية!
فجأة زال الاحتلال الفرنسي، وكانت قد سبقته إلى الزوال تشكيلتان من تشكيلات التعاون معه على توطيد استعماره وهما” تشكيلة “حزب الوحدة اللبنانية” وتشكيله “السباقة اللبنانية”، ولم يبقَ من هذه التشكيلات إلا تشكيلة الشبان الرياضيين، الفلانج أو “الكتائب” التي دعاها موفدوها إلى المهججر حين زاروا المكسيك “الطلائع”. وكان يجب أن تبقى تشكيلة واحدة، على القل، من تلك التشكيلات لتكون شاهداً حياً على مبلغ نجاح الاستعمار “الحنون” في إنشاء أعداء للأمة من أبنائها! فلما رأت تشكيلة “الكتائب ـ الطلائع” أنّ الاحتلال الفرنسي الذي كان يسندها ويعدّها ربيبته والذي حوّرت نصوص “مبادئها” سنة 1939 للخروج بالتعاون معه من الباطن إلى الظاهر، ومن السر إلى الجهر قد زال، وجدت هذه التشكيلة أنّ ما اقتبسته من اشكال التنظيم التي ظهر بها الحزب القومي الاجتماعي ومحاولتها تقليد بعض تصريحات زعيمه ومعاونيه لا يكفيان أساساً وسبباً لبقائها بعد زوال الاحتلال الفرنسي الذي جعلت التعاهد معه في صلب غايتها ـ غاية وجودها وعملها. كان الفراغ الذي أحدثه زوال الاحتلال الفرنسي، في حياتها عظيماً جداً، فلم يكن بد من سد هذا الفراغ العظيم بشيء من “عقيدة” وإن تكن مزيفة، ومن هالة من المجد المزَّيف، فأخذ الماهرون في انتحال المبادىء والتعاليم القومية الاجتماعية يفرغون جهدهم في صناعة “عقيدة وتعاليم” يتخذونها مبرراً لبقاء “الكتائب ـ الطلائع” بعد زوال الاحتلال الفرنسي ومستنداً لشبه دعوة توجه إلى الشباب للانضمام إليها على أساس “قضية” غير قضية الصداقة والتعاهد مع الدولة المحتلة!
بين الذين أخذوا على عاتقهم صناعة “عقيدة وتعاليم” لـ”الكتائب ـ الطلائع” الأستاذ المحامي عبيد عيسى عبيد والسيد جميل جبر يساندهما جوزف شادر. وقد أعلنت جريدة “الكتائب ـ الطلائع” العمل في عدديها الصادرين في 17 نيسان/ أبريل وأول أيار/ مايو 1949، أنّ هذين المفكرين في صناعة العقائد يعدّان كتابين: الأول منهما للأول موضوعه “الحزب والإنسان:، والثاني للثاني موضوعه “الحركة الكتائبية”. والموضوعان في حد تسميتهما يدلان على قفزة رياضية صناعية في ميدان الاقتباس، فـ “الكتائب ـ الطلائع” تعرف الآن باسم “حزب وحركة” بعد أن كانت تسمي نفسها “منظمة” أي تشكيلة، ترجمة للفظة “فورمسيون”. وهذا النعت الجديد يدل دلالة واضحة على أساليب الصناعة العقدية الجديدة!
يمكننا أن نرى، بوضوح أكثر، المجهود الثصناعي العقدي الكتائبي ـ الطلائعي وخططه في ما نشر السنة الماضية بالفرنسية ليقدم إلى مؤتمر المؤسسة الثقافية في منظمة الأمم المتحدة الذي عقد خريف السنة الماضية في بيروت، وفي ما نشر مرخراً في جريدة العمل. فقد أعد صناعي العقائد الجديد الأستاذ عبيد خطاباً عقدياً ألقاه في حفلة حلف اليمين لأفراد انتموا مؤخراً إلى “الكتائب ـ الطلائع” ونشر في جريددة العمل في 3 نيسان/ أبريل الماضي. وفي هذا الخطاب أوصى الخطيب الكتائبيين الطلائعيين الوصية الجوهرية التالية: “لا تدع حزباً إلا تتعرف إلى حقيقته. حاربه إذا كان فاسد الأساس سيِّىء النيَّة، واقتبس من حسناته إذ اوجدتها لا تتنافى وروح عقيدتك وتنظيم منظمتك”.
لا بدّ من الاعتراف للأستاذ عبيد ببعض اللباقة في جعل الانتحال المستند إلى أسلوب الاقتباس الإكلكتي (الاختياري) قاعدة عقدية ثابتة. ولكنها، في كل حال، لا تخرج عن كونها لباقة شفافة لا تقدر أن تغطي الزيف العقدي ولا أن تحجب قباحة الانتحال الذي بلغ بالسيد عبيد حداً أقدم عنده على انتحال عبارة الزعيم القائلة بتغيير وجه التاريخ! وقد التقى مؤخراً الأمين عبد الله قبرصي رصيفه المحامي عبيد فصاح الأمين قبرصي به: “ولو يا عبيد!” أإلى هذا الحد وصلتم، فلم تعودوا تكتفون بنقل الأفكار والأشكال، بل صرتم تأخذون عبارات الزعيم كما هي، وتنتحلونها لأنفسكم! من هو الذي اضطلع بقضية تغيير وجه التاريخ وأنشأ رسالة غيّرت وجه التاريخ، أسعاده أم أنتم؟” فأجابه الأستاذ عبيد بالسذاجة عينها التي أعلن بها أنّ مهمة الكتائبيين الطلائعيين هي “تغيير وجه التاريخ” قائلاً “إنّ تفكير سعاده قد أصبح تراثاً إنسانياً فماذا يمنع من الاقتباس والاستفادة منه”؟ فردّ عليه الأمين قبرصي: “واين تذهبون بالأمانة لمصدر الأفكار؟” فقال السيد عبيد: “أيجب أن يقال دائماً عن المبادىء الماركسية إنها ماركسية مثلاً”؟ فصاح به الأمين قبرصي: “نعم يجب أن يقال عن المبادىء الماركسية إنها ماركسية، وعن المبادىء السعادية إنها سعادية لكي لا يغش الناس ويخدعوا بالتراكيب الزائفة”.
هذا الحوار القصير بين الأمين قبرصي والسيد عبيد يكشف عن الناحية الهامّة من الموضوع: ناحية الحقيقة وتزييفها وانتحالها. فلو أنّ الكتائبيين الطلائعيين، الذين يتوصلون إلى حد تزييف اسم تشكيلتهم حسب الظروف، وتزييف مبادئهم ومقاصدهم المعلنة، كانوا يلزمون شيئاً من الأمانة للحقيقة كما كان يفعل أعضاء “حزب الوحدة اللبنانية” وجريدة الوحدة اللبنانية لهان الأمر.. فإنّ جريدة الوحدة اللبنانية التي كانت تنشر أفكار تشكيلة الوحدة المذكورة كانت تعلن صراحة أنّ الشباب اللبناني (الماروني خاصة) قد أخذ يتعلق بمبادىء سعاده القومية الاجتماعية، ويريد تحقيقها ويريد سعاده قائداً له بشرط أن يجعل قضيته مقتصرة على الدولة اللبنانية والفكرة الانعزالية.
كان شباب “الوحدة اللبنانية” يعترفون بالمبادىء السعادية، وبأنهم يريدون اتّباع سعاده وتحقيقها، ولكنهم كانوا يشترطون حصرها في لبنن فقط. أما شباب “الكتائب ـ الطلائع” فإنهم لا يذكرون لا سعاده ولا الحركة القومية الاجتماعية مصدراً لأفكارهم ومبادئهم بل ينتحلون التعاليم والأفكار والتخطيط القومية الاجتماعية انتحالاً، أي أنهم يزعمون أنها تعاليمهم وافكارهم وتخطيطهم ويمسخونها لأغراضهم وهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يتعدونه إلى القول إنّ لهم حقاً في هذا الانتحال المعيب، وإنّ الأصول والقيم والحقوق يجب أن تضيع بمجرّد أنها صارت من “التراث الإنساني”! فيجب أن لا نعترف لروسو وفولتير وهوبز وكانت وهيغل وغيرهم بما قدموا للفكر من قضايا، لأنّ ما قدّموه صار من “التراث الإنساني! والغريب أنّ من يقول هذا القول مخرّج في الحقوق ويدرس لينال درجة دكترة فيها!
هذا التفكير الغريب الشاذ هو القاعدة العقدية في صناعة العقائد المزيفة، والأستاذ عبيد صار من أشد دعاة هذه القاعدة، لأنه بها يتمكن من الدخول في “التراث الإنساني”! وهو قد مارس هذه القاعدة بأمانة فأخذ يحتك ببعض القوميين الاجتماعيين المطلعين في العقيدة القومية الاجتماعية ويدرس حججهم “ليقتبس من حسناتها” وطلب أن يقابل الزعيم في صيف 1947 بواسطة الرفيق طالب الحقوق إدمون كنعان. وقد كان هذا الرفبق يعتقد أنّ الأستاذ عبيد على وشك ترك الحزبية الكتائبية الطلائعية لعدم وجود عقيدة لها، على ما فهم من بعض مباحثاته معه، وألحّ بضرورة السماح له بمقابلة قد يكون من ورائها اقتناعه الأخير بأنّ الأصل أفضل من الارتحال والاقتباس ومحاولة تركيب “عقيدة” لـ “الكتائب ـ الطلائع”. وبالنظر إلى هذا الإلحاح من جانب الرفيق إدمون كنعان ضرب الزعيم موعداً لاستقبال السيد عبيد في مخيم ضهور الشوير فحضر برفقة الرفيق إدمون كنعان، وكان مع الزعيم الأمين فريد الصباغ والرفيقان هشام شرابي وفؤاد نجار، وحضر أخيراً الأستاذ نقولا الشويري. وبعد كلمة أولى من الزعيم اتخذ الأستاذ عبيد صفة الجدل والمقارعة. وكان الزعيم يظن أنه لا يزال طالب حقوق فسأله ليتأكد فأجابه السيد عبيد أنه محام، فقال الزعيم: “إذن جدلك ينطبق على صفة المحامي فأنت تتكلم بأصول المهنة كأنك تدافع في دعوى موكلة إليه لا بضرورة الفهم والبحث عن الحقيقة”. وكانت طريقة المجادلة التي سلكها الأستاذ عبيد سقيمة فمن حججه “أنّ لبنان أقدم من سورية لأنه مذكور في التوراة قبلها، وأنّ لبنان ينتسب إلى الفينيقيين”. أما الفينيقيون فقد نبّه الزعيم إلى أنهم كنعانيون، وأنّ أصولهم وبقاياهم هي فلسطين، أرض كنعان، فقال عبيد “لماذا نرجع إلى الوراء كل هذا الشوط؟” فأجابه الزعيم: “إما أن نبحث في الحقيقة الإتنية التاريخية كلها وإما أن نتركها”. وأما قول السيد عبيد إنّ لبنان أقدم من سورية لأنه مذكور في التوراة قبلها فقد صعق له الزعيم ولم يكن يظن أنه يصدر عن شاب درس شيئاً من المنطق والتاريخ، ولذلك انقطع عن متابعة البحث مع السيد عبيد تحاشياً من النزول إلى الدرك المحقر للمدارك الإنسانية. والأستاذ عبيد يتباهى بأنّ الزعيم ترك له الكلام وحده ولم يعد يجيبه، فهو يقول لبعض معارفه “إني ناقشت الزعيم نفسه وكانت الكلمة الأخيرة لي!”
مع كل ذلك فإنّ القاعدة الإكليكتية في البحث عن الحسن عند الأحزاب الأخرى لتركيب العقيدة الجيدة، دفعت الأستاذ عبيد إلى حضور بعض محاضرات الزعيم أوائل سنة 1948 وإلى تتبع كل ما يصدر عن الحزب القومي الاجتماعي من نشرات ودروس. وسنرى فيما بعد قيمة النتائج التي بلغها المجتهدون في صناعة العقيدة الكتائبية ـ الطلائعية.
للبحث صلة[1]
[1] لم يستكمل البحث.
الجيل الجديد، بيروت،
العدد 24، 6/5/1949