كنا وسنكون.. الخيانة تتكلم (وتتفلسف)
من دائرة الإنشاء:
تصدر في بيروت، منذ سنة 1936، مجلة تحمل إسم الجمهور صاحبها ميشال أبي شهلا، الذي كان قديماً شريكاً للمرحوم ميشال زكور في مجلة المعرض وهي الآن، أي الجمهور، مجلة تخدم الدعاوات الأجنبية بغير تحفّظ فتخصص أعداداً لخدمة أغراض الديغوليين الذين لهم ظل في بلادنا، وأعداداً أخرى لخدمة المرامي التركية الطامعة في أرضنا التي اتفقت مع فرنسة، وبإغضاء «الكتلة الوطنية» وانتزعت من بلادنا بقعة من أغنى بقاعها ومن أعظمها مستقبلاً، نعني الإسكندرونة.
وهكذا دواليك.
صاحب الجمهور حاول أن يمشي مع جميع الأعمال الماشية بدون تمييز، بين مبدأ ومبدأ، وبين غاية وغاية، فتظاهر بالتلبنن مدة، ثم لما ظهرت معنويات الحزب السوري القومي الاجتماعي انخرط في سلك هذا الحزب، بينما الزعيم في سجنه الأول ثم قَبِل هو وبرلماني عتيق معروف هو الشيخ يوسف الخازن وأحد أبناء عائلة الصلح المدعو تقي الدين وغيرهم دعوة إيطالية وإسبانية لزيارة إيطالية وإسبانية ومراكش من غير أخذ رأي مراجع الحزب.
وعاد مع الجميع إلا الشيخ الخازن الذي بقي في روما ليجدد علاقات قديمة للعائلة الخازنية في خدمة المصالح الإيطالية، كما في خدمة المصالح الفرنسية.
وكان المطرود من الحزب السوري القومي الاجتماعي المحامي صلاح اللبكي إبن المرحوم نعوم اللبكي يتردد قبل طرده من الحزب على إدارة الجمهور ويعاون في الكتابة والتحرير فيه.
وصلاح اللبكي انضم إلى الحزب سنة 1935 ودعي ليكون في اللجنة الإذاعية المركزية الأولى التي تشكلت تحت إشراف عميد الإذاعة الأول الأستاذ المحامي الأمين عبد الله قبرصي، ثم بعد حل اللجنة المذكورة أعطي صلاح اللبكي وظيفة ثانوية في عمدة الداخلية.
فلم يكن له شأن لا في اللجنة المذكورة ولا في الوظيفة.
وبهذه الحقيقة اعترف صلاح اللبكي أمام قاضي المحكمة المختلطة، بصوت خافت، متهدج، قائلاً:
«إنّ الزعيم حل اللجنة، لأنها لم تكن لها فاعلية، وفي الوظيفة التي كنت أحملها لم أنل من الزعيم غير اللوم والتقريع».
ثم تقدم للدفاع عنه المحامي الأستاذ شارل عمون صاحب جريدة لجور التي تصدر في بيروت بالفرنسية، فسرد تاريخ أبيه نعوم اللبكي في السياسة اللبنانية وأمنته لخطط الانتداب وتأييده الانفصال اللبناني، وأظهر أنه لا يحمل مسؤوليات باعترافه أنه لم يكن من الرجال الأساسيين في الحركة الجديدة ولا ولا من العاملين الغيورين وأنه، لذلك، يستحق عطف القضاة، الخ.
ولكن ما كاد يذاع دفاع الزعيم في المحكمة ويُحدث ذلك التيار الكهربائي الذي اجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها ويبتدىء تحرك ألوف الشباب في مختلف الجهات نحو طلب الانضمام إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي حتى رأى صلاح اللبكي أنّ من المناسب الاهتمام بالقضية.
فأخذ يتدخل أكثر في الأمور ويظهر غيرة غير معتادة على الأعمال.
ولا شك في أنه رجل ذكي ومثقف. فرشّحه بعض الرجال المركزيين لنيابة الزعامة أثناء وجود الزعيم في السجن، وعُرضت هذه الفكرة على الزعيم في أثناء سير المحاكمة التي استغرقت ثلاثة أيام، فقبل الزعيم هذه الفكرة، لعدة أسباب:
أولاً، لدفع الشبهة عن العاملين الأساسيين أمثال الرئيس الأيمن نعمة ثابت والأمين مأمون أياس. ثانياً، ليعطي صلاح اللبكي فرصة جديدة لإظهار معدنه. ثالثاً، لأن المدة ليست كبيرة.
رابعاً، لأن الزعيم كان أمّن الاتصال من السجن بالإدارة المركزية بحيث يمكنه وضع حد لنيابة الزعامة عند أول بادرة خلل أو خيانة.
إنّ الدور الذي حاول صلاح اللبكي أن يلعبه منذ ذلك الحين هو دور طويل لا مجال له الآن.
وبالاختصار انفضح صلاح اللبكي انفضاحاً كلياً حين أخذ يجعل مطامعه الانتخابية، التي كان يجد فيها مصالحه الرئيسية، فوق الإخلاص لعقيدة الحزب ونظامه. فأحضره الزعيم مرة أمام مجلس العمد وأوضح له سوء سلوكه الذي لا يتفق مع الروحية القومية وما يمكن أن ينتج عنه من الأضرار وأمره بالتوقف عن الأعمال والحركات الانتخابية التي كان قائماً بها ومساوماً فيها على قوة الحزب، التي كان يدّعي ويشيّع أنه يستند إليها.
فأبدى اللبكي الإذعان وأضمر الاستمرار واستمر فعلاً.
أصدر المكتب السياسي في الحزب بلاغه بعدم وجود مرشحين رسميين له وبعدم صحة بعض الإشاعات عن وجود مرشحين للحزب لم يعلنهم الحزب.
كان بلاغ مكتب الحزب السياسي ضربة قاضية على آمال صلاح اللبكي وعلى عبثه بنظام الحزب ومعنوياته، فجاهر بخروجه على النظام، مستنداً إلى وعود «الكتلة الدستورية» أو حزب المعارضة اللبنانية الذي يرأسه الشيخ بشارة الخوري. فأصدر الحزب مرسوماً بطرده مبنياً على مداولات اقتراحات مجلس العمد فطُرد وأذيع طرده.
وكان بعد ذلك أنّ الفرنسيين وفّقوا بين حزب إميل إده وخير الدين الأحدب وحزب بشارة الخوري وجماعته أمثال سليم تقلا وحميد فرنجية وشارل عمون فأسقط حزب بشارة الخوري صلاح اللبكي من قائمة مرشحيه. فأصبح صلاح اللبكي لا مع الحزب السوري القومي الاجتماعي ولا مع الكتلة الدستورية ولا مع أحد.
اهتمّ بعد سقوطه لاستعاده بعض المنزلة بالضرب على وتر «العروبة» في خطاب ألقاه في مدرسة طرابلس، فقال الناس:
أيمكن تصديق هذا المتملق المفضوح؟
ويعود صلاح اللبكي الآن إلى الغيرة على لبنان فيبرهن أنّ طرد الحزب السوري القومي الاجتماعي له كان بحق، لأنه لم يكن من رجال العقيدة أي أنه كان بلا مبدأ.
ونحن نثبت في ما يلي مقالاً حديثاً له نشره في مجلة الجمهور المأجورة استعار في بعضه التعابير الروحية التي هي من خصائص النهضة السورية القومية الاجتماعية التي نبذته ليخدع بسطاء المتلبننين «بصحة لبنانيته»، كما حاول أن يخدع الحزب السوري القومي «بصحة سوريته».
ولكن ختام المقالة يفضح نفاقه ويظهر تملقه الفرنسيين باعترافه بأن «صداقتهم» هي التي «تضمن للبنان البقاء، من الوجهة الدولية وتضمن للبنانيين المساواة في نواحي الحياة جميعاً».
فتباً لهذا النفاق ولهذه الوطنية الزائفة الذليلة، وإليك المقالة النفاقية الغريبة:
«يقول قائل:
كيف تستطيع بلادي أن تكون دولة ذات سيادة، فهي صغيرة وضعيفة لا أساطيل ولا جيوش عندها ولا أمل في أن يكون لها جيوش وأساطيل. أفلا نرى كيف تقهر الأمم الصغيرة وتغلب على أمرها وتضمحل. أفليس من الخفة أن نتحدث بكيان لنا مستقل وبدولة محترمة لا يؤيدهما السيف ساعة الكلمة الفصل، على ما رأينا، للمدافع، والقنابل وساعة لا يجدي الأمم غير القوة المادية بأقسى وأجلى معانيها؟
«وأقول (ما شاء الله!) ــــ بلى، لو كنا نطمح في أن نكون دولة من دول الفتح. ثم أنّ في هذا العالم دولاً أضعف وأصغر من لبنان وأقل قيمة جغرافية منه (ما أكبر نفس الرجل وما أعظم هذه الفلسفة!) قامت وتقوم إلى جنب الدول الكبيرة ذوات المطامع والبأس.
«وشيء آخر مقتبس من تاريخنا: أنّ بلادنا هذه الضعيفة الصغيرة لم تنشأ أمس كدولة لها كيانها الخاص، ولم يمنّ بها القدر صدفة وفجأة (يا سلام!).
«إنّ هذا الجبل، على ما هو اليوم دولة صغيرة من غير أساطيل جبارة، وجيوش كرارة، لأقدم عهداً وأعرق حضارة من غير واحدة من كبيرات الدول.
(الزوبعة: الهامّ عند الكاتب المتحفز للوثوب على كرسي فارغ في مجلس عبودية ليس حياة الشعب ووسائل تقدمه وحصول الفلاح الجدير به، بل الهامّ هو أن يكون الشعب الذي يخاطبه جزءاً من أمة عريقة في الثقافة ولو مات هذا الشعب ولو ذلت وفنيت هذه الأمة جوعاً وسد الاستعمار كل طرق التقدم في وجهها، كما هي الحالة في ذلك الشعب المنخدع!
فما هي هذه الأريحية؟).
«إذاً نحن عكفنا على الأسباب التي أفضت في غالب الأحيان إلى نشوء الدويلات التي قامت إلى جنب الدول الضخمة فلم تبتلعها هذه، وجدنا بين أوائل الأسباب إثنين خطيرين:
أولهما أنه كان لهذه الدول الصغيرة مميزات ثقافية أو اجتماعية أو عنصرية وثانيهما أنّ التفاعل الدولي كان يقضي ببقائها فبقيت (فلسفة الذل).
«ولم يشذ لبنان عن القاعدة.
فالرئاسة اللبنانية العامة التي وضع أسسها في التاريخ الحديث فخر الدين المعني الكبير (ما أقبح هذه الجهالة!) والتي اتّبع أثرها الشهابيون قامت على الاستفادة من التفاعل الدولي.
ولبنان، بعد، كان وما زال يحتفظ في هذا الشرق العربي بمميزات اجتماعية ثقافية واضحة.
فإذا نحن نظرنا إلى هذا، ونظرنا ثمة إلى أهداف الدول الديموقراطية من الصراع الهائل الدائر اليوم، وإلى شرعة الأطلنطيك، وإلى تصريحات الفرنسي المقاتل الأول، والبريطاني الأول (دبلوماسية ماهرة في العبودية) وأخذنا بمبادرة فرنسة في إنفاذ ما وعدت به، وإذا نحن نظرنا إلى جميع ذلك وأخذنا به فقد اطمأن الوجدان إلى حسن المصير.
«بقي علينا في حدود لبنان الذي كان، والكائن والذي سيكون، أن نخلص نحن اللبنانيين إلى أنفسنا وإلى مريدينا (أيُّ إخلاص، أيها المارق المنبوذ؟).
«بقي علينا أن نحتفظ بإرادة البقاء، فإن استقلال الدول لا يظل استقلالاً صحيحاً مستمراً، مهما كانت العوامل الدولية الخارجية (هذا الدرس هو طبعاً للدول التي تعتمد على العوامل الدولية الخارجية، يا ذكي!) التي أفضت إليه، إلا باستمرار الإرادة على الرغبة فيه.
بقي علينا أن نؤمن إيماناً مخلصاً مستمراً بكفاءتنا على البقاء.
وبقي علينا، أخيراً أن نفهم فهماً أنّ لبنان للبنانيين جميعاً وأن لا تفاوت بين لبناني وآخر لا في الحقوق ولا في الواجبات.
«والأغلبية من اللبنانيين تريد وتؤمن وتفهم ما ينبغي أن يراد وأن يُؤمن به وأن يُفهم، ما يشذ منهم غير النزر ممن يقدمون المصالح الفردية (نظيرك، أيها المنافق!) على المصالح العامة وممن منّوا باللامبالاة وممن توهموا أنهم لسبب من طائفية أو غيرها لن يكون لهم الشأن الذي يجب لهم في لبنان.
«أما أهل المصالح الفردية فالبلاد تتنبه لمساعيهم الخاسرة وسيعلمون أي منقلب ينقلبون (أجل. إعلم ذلك واستعدّ لذلك اليوم، إذا كان في الاستعداد نفع!).
«وأما اللامبالون فسيجرفهم التيار جرفاً. وأما الواهمون فعلينا أن نزيل أوهامهم، وعليهم هم أن ينظروا إلى حقائق الأمور بإخلاص فتقع الغشاوة عن بصائرهم.
«وبعد فإن الصداقة الإفرنسية التي تضمن البقاء للبنان من الوجهة الدولية تضمن للبنانيين المساواة في نواحي الحياة جميعاً.
فلنعمل إذن متكاتفين للنهوض بلبنان في مدارج العمران والتمدن والثقافة والاقتصاد فلن يكون لنا كرامة في غير هذا».
أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،
العدد 63، 15/7/1943