محاضرة الزعيم الثامنة في الندوة الثقافية
تكلمت في الاجتماعات الماضية عن المبدأ الإصلاحي الأول القائل “فصل الدين عن الدولة” وعن المبدأ الإصلاحي الثاني القائل “منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين” وعن المبدأ الإصلاحي الثالث القائل “إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب”.
ننتقل اليوم إلى المبدأ الإصلاحي الرابع “إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة”.
نتابع الشرح المنصوص:
“هل في سورية إقطاع ونظام إقطاعي؟ لا ونعم. لا، لأن الإقطاع غير معترف به قانونياً. ونعم، لأن في سورية، في وجهات متفرقة، حالة إقطاعية من الوجهتين الاقتصادية والاجتماعية. إنّ في سورية إقطاعات حقيقية تؤلف جزءاً لا يستهان به من ثروة الأمة ولا يمكن بوجه من الوجوه حسبانها ملكاً شخصياً، ومع ذلك فهي لا تزال وقفاً على “بكوات” إقطاعيين يتصرفون بها أو يهملونها كيفما شاؤوا مهما كان في ذلك من الضرر للمصلحة القومية. ومنهم فئة تهمل هذه الإقطاعات وتغرق في سوء التصرف بها إلى حدّ يوقعها في عجز مالي ينتهي بتحويل الأرض إلى المصارف الأجنبية، يعتبر أنّ وضع حدّ لحالة من هذا النوع تهدد السيادة القومية والوحدة الوطنية أمر ضروري جداً.
“إنّ هذه الإقطاعات كثيراً ما يكون عليها مئات وألوف من الفلاحين يعيشون عيشة مزرية في حالة من الرق يرثى لها. وليست الحالة التي هم عليها غير إنسانية فحسب، بل هي منافية لسلامة الدول بإبقائها قسماً كبيراً من الشعب العامل والمحارب في حالة مستضعفة، وخيمة العاقبة على سلامة الأمة والوطن، فضلاً عن إبقائها قسماً كبيراً من ثروة الأمة في حوزتها وفي حالة سيئة من الاستعمال. إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يستطيع السكوت عن هذه الحالة”.
قد يتبادر إلى ذهن القارىء من قراءة هاتين الفقرتين بعض أسئلة: مثلاً سلامة الدولة؟ سلامة الدولة في بحث حالة اقتصادية؟ أية دولة هي هذه الدولة؟
الدولة هنا هي الدولة القومية فقط. الدولة التي يصح القول فيها إنها قومية تشمل المجتمع القومي كله، ذا الدورة الاقتصادية الكاملة التامة. الدولة التي تمثّل مصالح شعب تام كامل وليست الدولة هنا أية حكومة من الحكومات، ولدت في ضرورة معيّنة أو شاذة غير قائمة على أساس تمثيل مصالح معيّنة والتعبير عن إرادة مجتمع موحد وشعب واحد.
نحن نعتقد أنّ النظام السياسي الذي نحيا فيه ليس نظاماً قومياً بالمعنى الصحيح.
نحن نعتقد أنّ درساً اقتصادياً صحيحاً من الوجهة القومية على اساس نظام سياسي لا قومي صحيح هو درس عقيم لا يمكن أن يعطي نتائج صحيحة. ولكن يمكننا أن نتمثل، نتصور الدولة القومية وأن نتصور لها النظام الاقتصادي الذي يكوّن قوّتها الفاعلة ويعطيها الموارد ويعطيها المصالح العامة الكاملة التي تكون متممة لها، وقائمة بتنظيمها لتأمين الخير وحصول الخير في أحسن حالات العدل للمجتمع كله.
وواضح أنّ دولة من هذا النوع يجب عليها أن تنظر في حالة المجتمع الاقتصادية وفي النظام الاقتصادي الذي يوفر الاستقرار والطمأنينة والارتقاء وزيادة الخير. وحينئذٍ لا بد من النظر في الحالة العامة في الشعب.
وفي مثل هذه الحالة ننظر إلى المساحات الواسعة من الأرض التي نسميها سورية الطبيعية. نجد فيما نجد، الحالة الاقتصادية غير المعترف بها قانوناً والنافذة عملياً (De Facto).
وكما رأيتم من هذا الشرح أنّ هذه الحالة تمثّل تأخراً عظيماً من الوجهة الاقتصادية بالمعنى القومي، لأنها تضع مساحات واسعة من الأرض في أيد فردية، غير شاعرة بالمصلحة القومية والترابط القومي الاقتصادي، يتصرف الفرد بهذه المساحات من الأرض وفاقاً لنظرة فردية محضة، بصرف النظر عن أية فكرة اجتماعية أو معنى أساسي عام.
ومن هنا ينشأ إجحاف بالبلاد وإجحاف بفئات من الناس تعمل في الأرض تحت سيطرة وسلطة مطلقة من الإقطاعي الذي، وإن لم يكن معترفاً به إقطاعياً قانونياً، فإن الامتيازات التي يتمتع بها تجاه الحكومة وتجاه الشعب تجعله ذا سلطة مطلقة يتصرف بالناس في إقطاعه تصرّف المالك في ملكه أو السيد في عبيده.
يظن البعض أنّ هذه الحالة ليست موجودة في لبنان المترقي، وأنها موجودة فقط في بعض المناطق الداخلية، وهذا غير صحيح فهذه الحالة ممثلة في لبنان تمثيلاً محزناً جداً.
قصّ عليّ أحد صناع التبغ سابقاً الذين أزالت معاملهم اتفاقية “الريجي”، قصّ عليّ كيف كان يتجول في جهات جبل عامل لابتياع التبغ وكان يحتاج إلى الإقطاعي هناك ليرسل “زلمته” معه ليسهل له البيع بالأسعار المفروضة التي يأخذ عليها الإقطاعي ما يرى هو أنه يجب أن يأخذ عليها.
فإذا لم يكن له صلة بالإقطاعي ولم يمكنه أن يرضيه، لم يمكنه مطلقاً أن يتعامل مع الفلاحين المنتجين رأساً.
الحالة الإقطاعية موجودة حتى في لبنان، ويوجد ألوف وألوف من الناس يئنون من وطأتها، ومع أنّ الإقطاع لم يعد موجوداً قانوناً، لم يعد هنالك أشراف بالمعنى الصحيح، ولكن كل النتائج العملية لذلك النظام البائد لا تزال فاعلة في مجتمعنا. فالإقطاع موجود ويجب إزالته ليتحرر عدد كبير، جزء هام من الشعب، تحريراً اقتصادياً وتحريراً نفسياً وسياسياً أيضاً.
أما “تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج فهو الطريقة الوحيدة لإيجاد التوازن الصحي بين توزيع العمل وتوزيع الثروة. كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجاً بطريقة من الطرق”.
الإنتاج هو الأساس الهامّ للاقتصاد القومي. وبدون الإنتاج لا يمكننا مطلقاً التفكير برفاهية الشعب.
إذا كانت الثروة قليلة والناس كثراً لم يفد الناس كثيراً توزيع كمية قليلة عليهم، بالكاد تسد رمقهم.
لذلك كان الإنتاج مقصداً رئيسياً من مقاصد التفكير في الدولة القومية. وعلى أساس الإنتاج فقط يمكن النظر في إيجاد العدل الاجتماعي الحقوقي بين الذين يشتركون في الإنتاج.
“وفي حالة من هذا النوع يتوجب تصنيف الإنتاج والمنتجين بحيث يمكن ضبط التعاون والاشتراك في العمل على أوسع قياس ممكن، وضبط نوال النصيب العادل من النتاج، وتأمين الحق في العمل والحق في نصيبه.
“يضع هذا المبدأ حداً للتصرف الفردي المطلق في العمل والإنتاج، الذي يجلب أضراراً اجتماعية كبيرة، لأنه ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني”.
يوجد أشياء قليلة في العالم يمكن أن يتناولها الناس بدون أي مقابل. منها الهواء والشمس مثلاً. هذه منافع في متناول كل فرد وكل فئة من الناس. يتناولها راساً من الطبيعة بدون أي مقابل من عمل أو إنتاج. ولكن حتى هاتان المنفعتان أصبحتا في عالم تمدننا وفي كبر المدن واتساعها غير مؤمّنتين في حالتهما الطبيعية. صارتا مغشوشتين تقريباً ولذلك يحتاج ساكن المدينة إلى الذهاب إلى مكان يشعر فيه بالهواء الطلق مثلاً. ولذلك نتكلم عن أماكن يوجد فيها هواء طلق وعن أماكن لا يوجد فيها هواء طلق. وأحياناً يكلف الوصول إلى المناطق التي يوجد فيها الهواء الطلق بعض المقابل.
إذن كل شيء آخر هو نتيجة عمل الإنسان. وهكذا نعود أيضاً إلى الإنتاج.
الإنسان يجب أن ينتج وكلما ازدادت مطاليبه وحاجاته ازدادت حاجته إلى الإنتاج.
والإنتاج أساساً هو المفتاح للقضية الاقتصادية كلها. بدون الإنتاج لا يمكننا أن نحل مشكلة واحدة من مشاكل الاقتصاد في مجتمعنا.
كان الإنتاج قديماً يقوم على عمل واحد (فرد) أو عمل عائلي، يحاول “الفرد” بواسطته أن يصل إلى حاجاته الأولية. يعمل هو أو عائلته بنظام فردي ظاهر يقيمه لنفسه ويختار فيه نوع العلم، ولا يفكر إلا بالمحيط الصغير الذي هو ضمنه، ويعمل كاداً على هذا الأساس.
في تلك الحالة كان الاقتصاد شيئاً لا قومياً، فردياً، ومحيطه المجتمع. داخل المجتمع كان نظام الاقتصاد النظام الفردي الذي يبقى فيه الإنتاج ضمن المجتمع عينه ولا يخرج خارج المجتمع إلا بالتصرف يقوم به الفرد صدفة.
هذه الحالة، حالة الاقتصاد الفردي، قد زالت إلا من المجتمعات أو الجماعات المتأخرة التي لم تساهم في حالة التمدن. وقصدنا هنا التمدن العصري بعد نشوء الآلة الحديثة التي سببت ما يسمونها الثورة الصناعية.
في الإنتاج الفردي لم تكن هنالك حاجة إلى نظر الدولة. لم تكن هنالك دولة قومية بالمعنى الصحيح ولم تكن هنالك حاجة إلى النظر في نظام اقتصادي، يمكن أن يشرّع له الشرع أو يجب أن تسنّ له القوانين. الحالة التي تتوجب ذلك هي حالة الاقتصاد الاجتماعي أو القومي الاجتماعي، الذي يعني الإنتاج والتبادل الخارجي، وليس التبادل الداخلي.
التبادل الداخلي يتم ليس فقط في مدينة واحدة كبيروت، التبادل الداخلي يتم بين عدة مدن وقرى ومناطق.
يمكننا مثلاً أن نضرب نطاقاً حول منطقة معيّنة ونقول هنا دولة قومية وكل ما خرج من ضمن هذا النطاق إلى الخارج عدّ تبادل علاقات، تبادلاً خارجياً، وكل ما ظل ضمنه كان تبادلاً داخلياً.
إنّ التبادل بين بيروت ودمشق لا يمكن أن يكون تبادلاً خارجياً وليست له صفة الاقتصاد القومي لكل واحدة من هاتين المدينتين.
إن الاقتصاد القومي بالمعنى الصحيح هو نتيجة مجهود هاتين المدينتين، هذين المركزين، وبين مراكز أخرى تكون مجموعاً اقتصادياً يمكن لمجهودها مجموعة وإنتاجها المجموعي أن يتبادل مع الخارج، ويسمى تبادلاً خارجياً، بالمعنى الصحيح.
لذلك أرى أنّ الكلام على الاقتصاد القومي في دولة كدولة لبنان مثلاً غير ممكن إلا إذا وضعنا المقاييس الاقتصادية المحضة مكان المقاييس الاقتصادية والاقتصادية السياسية.
تكلمت في اجتماعات سابقة عن وحدة سورية الاقتصادية وخصوصاً الزراعية فإذا عاد الذين سمعوا الكلام بالذاكرة إليه أمكنهم أن يدركوا إدراكاً صحيحاً ما عنيت عن وحدة سورية الاقتصادية وعن الاقتصاد القومي الذي لا يمكننا التفكير بأي نتيجة اقتصادية متقدمة للشعب إلا على اساسه، والذي بدون النظر إليه ككل واحد نظل نتخبط في مشاكل اقتصادية لا نصل معها إلى نتيجة.
اليوم توجد مسألة على بساط البحث. مسألة اتفاقية النقد التي انفرد بها لبنان مع فرنسة. إنّ النظر في هذه الاتفاقية مثلاً يرينا أنّ وضعها خرج عن كل الأصول الاقتصادية بالمعنى الصحيح، أي معنى الاقتصاد القومي. وإني أميل إلى الاعتقاد أنّ معاهدة أو اتفاقية من هذا النوع خضعت بذاتها أو افادت إلى حد كبير مصلحة سياسية اقتصادية أجنبية.
إني أميل إلى الاعتقاد من الوجهة السياسية أنّ حاجة بريطانية إلى إرضاء فرنسة من أجل اكتسابها نهائياً في تأييد جبهة غربي أوروبة هو أحد العوامل التي عملت على تشجيع وتحقيق السير في اتجاه نحو اتفاقية من هذا النوع.
إنّ فرنسة لم تخرج من سورية برضاها. إنها خرجت مكرهة تاركة في هذه البلاد وخصوصاً في لبنان مصالح اقتصادية وسياسية وحربية أيضاً يعز عليها كثيراً تركها بتاتاً والتفكير أنها قد أفلتت من يدها إلى الأبد.
لنترك باب السياسة ولنتجه نحو باب الاقتصاد.
إني لا أعتقد أنّ اتفاقية النقد يجب أن ينظر إليها من وجهة النقد، كمسألة مالية محضة. إنّ اتفاقية من هذا النوع تفتح مسألة، هل يوجد للجمهورية اللبنانية أساس اقتصادي صحيح؟ وإذا أدى الانفصال النقدي بين لبنان والشام إلى انفصال اقتصادي صحيح تام، فما مستقبل الجمهورية اللبنانية الاقتصادي وعلى أي أساس يقوم؟
سمعت بعض المتكلمين الذين يحسبون أنفسهم من الخبراء ويتكلمون بتواضع الخبراء، سمعت بعضهم يقول إنّ لبنان يستغني عن الشام بالمرة، وإنّ أساس الاقتصاد فيه يمكن أن يقوم على مسألتين:
الأولى تحويل لبنان إلى وحدة اصطياف (سويسرانية) وتحويله من الجهة الأخرى إلى مرفأ حر للتجارة.
سألت الذي أعطاني هذه المبررات، وكلّفته أن يريني كيف يمكن أن يحوّل مصيفاً واحداً من المصايف اللبنانية إلى مصيف سويسراني؟ مثلاً ضهور الشوير التي هي مصيف متقدم في مصايف لبنان. إذا أراد أن يحوّل هذا المصيف إلى طراز سويسراني. ما هو المشروع؟ وكم نحتاج من المال إلى تحقيقه؟ وكم نحتاج من الوقت؟ طلبت إليه أن يضع مشروعاً عملياً يصوّر فيه كيف سينقل ضهور الشوير من مصيف لبناني على مستوى الحالة في لبنان إلى مصيف على مستوى الحالة في سويسرة، وأن يبيّن كم يحتاج تحقيق هذا المشروع إلى مال ووقت، ومن أين يأتي بالمال؟ من رؤوس أموال أجنبية أو في البلاد؟ وما هي العائدات الحقيقية التي تحصل حالما يتم تحويله إلى مصيف سويسراني؟ ويمكنه أن يضع مشروعاً لتحويل كل المصايف اللبنانية إلى مصايف سويسرانية، لكن يجب أن يضع بالأرقام من أين يأتي بالمال وكمّ المال اللازم لتحويلها إلى طراز حديث عصري؟ كم هي الأبنية التي يجب أن تزال من كل مصيف والطرق الحديثة التي يجب أن تشق والساحات والجنائن العمومية؟ ما هو الطراز الذي يجب أن تبنى به البيوت والجنائن وكيف تسير الطرقات، إلخ… إلخ؟
ثم بعد ذلك نصل إلى نقطة أخرى وهي: هل بعد تحويل المصايف اللبنانية إلى مصايف سويسرانية سينتقل كل الذين يذهبون إلى سويسرة إلى لبنان؟ إلى المصايف اللبنانية؟ هل صاحب هذا المشروع أعد مشروع اتفاق مع دول مثل بريطانية والولايات المتحدة وغيرها لإخضاع المصطافين ليذهبوا فقط إلى الاصطياف في لبنان؟
ثمّ إنّ مسألة تحويل المصايف لا تقتصر على مجرّد تحويل الأبنية والشوارع. المسالة تتناول ناحية أخرى يميل الاقتصادي غير المتوسع النظر، إلى الاقتناع بالاستغناء عنها وهي الناحية الاجتماعية النفسية.
إنّ تحويل المصايف اللبنانية إلى مصايف سويسرانية لا يتم في نظري بتحويل المظاهر من أبنية وطرقات. يقتضي تحويل نفسية الشعب في لبنان إلى نفسية شعب سويسراني.
فبأية مدة يقترح اصحاب مشروع ـ التحويل ـ ومن أين يأتون بالمال؟ وما هي النتائج الأكيدة وهل ستحدث الحرب المقبلة قبل أن يتم هذا التحويل أو بعده؟
أما المرفأ الحر فلست أرى فيه أي أساس اقتصادي لشعب ولا أي أساس اقتصادي لدولة.
إنّ مرفأ حراً في ظروف كظروفنا في الجمهورية اللبنانية يعني شيئاً واحداً هو تحويل لبنان إلى مستودعات للراسمال والإنتاج الأجنبي الذي لا يعطي الشعب في لبنان غير شيء قليل جداً مما كان يمكن أن يكون في غير هذه الحالة.
إنّ مسألة مرفأ حر مسألة تقتضي درساً طويلاً وتتطلب مسائل طويلة جداً. يجب أن لا يُبَتّ في هذه المسألة قبل النظر في كل التفاصيل المتعلقة بها.
وإذا حصلت القطيعة الاقتصادية بين لبنان والشام أصبح هنالك أمر يجب مواجهته، وهو الاقتصاد للشعب في لبنان، وهل يمكن في حالة من هذا النوع أن يتكون في لبنان راسمال لبناني مستقل؟ وعلى أي شيء يجب أن يعمل الرأسمال؟ وماذا ينتج؟ وفي أية اسواق يمكن أن يبيع؟
إنّ تحويل المصايف اللبنانية إلى مصايف سويسرانية إذا تمكن من جلب بعض المصطافين من أوروبة إلى لبنان فإنه يقطع المصطافين الذين يطلبون الاصطياف الرخيص. لأنه متى تحوّل الاصطياف في لبنان إلى اصطياف فخم صار الاصطياف غالباً لا يمكن المصطاف العادي أن يدفع مقابله.
كذلك من الوجهة الاقتصادية لا يمكن في حالة خطة اقتصادية أن ينشأ في لبنان معامل لا تنشأ في الشام، أو غير أماكن، لأنه في حالة القطيعة الاقتصادية لا يمكن للانتاج اللبناني أن يبيع في الشام بحريّة ولا يوجد في لبنان موارد تستحق الذكر ليست موجودة إلا فيه، في هذه المنطقة اللبنانية، فإذا أنشىء معمل حرير مثلاً في لبنان ينشأ معمل حرير في الشام فأين يبيع لبنان في حالة القطيعة؟
لا أعتقد أنّ الرأسمال اللبناني يقدر أن يؤمّن مناطق واسعة ويؤمن ويكتسح أسواقاً في الهند أو إيران أو غيرهما.
إذن العملية الاقتصادية، الاقتصاد كموضوع لأمة ولشعب لا يمكن أن ينظر إليه إلا بالمنظار القومي، بمنظار المجتمع الموحد الأمة التي هي وحدة جماعة، وحدة أرض، وحدة اقتصاد.
نعود إلى الإنتاج بصرف النظر وعن الأصول عن الأحوال السياسية والسياسية الاجتماعية.
“لأنه ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني. فإذا ترك للفرد الرأسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والإنتاج، كان لا بد من وقوع إجحاف بحق العمل وكثير من العمال. إنّ ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية. لا يمكن تنمية موارد القوة والتقدم في الدولة إلى الحد الأعلى إلا بهذا المبدأ وهذه الطريقة”.
إنّ دولة قومية اجتماعية كالتي يريد تأسيسها الحزب السوري القومي الاجتماعي هي الدولة التي يمكن أن يكون لها اقتصاد قومي صحيح واقتصاد سياسي. لنتصور هذه الدولة ويجب أن نتصورها، لأن بعض الشروح لا تصوّر الواقع في الدولة السورية القومية.
نتكلم عن حق العمل وكثير من العمال. ونحن لن ندخل الطور الرأسمالي الصحيح والصناعات الكبرى. إنّ اساس الاقتصاد لا يزال ضمن الحالة المزرية.
إنّ سورية لم تحوَّل حتى الآن إلى بلاد صناعية يتركز فيها رأسمال ضخم ويزداد تضخمه مع الوقت. إنّ شيئاً من هذا النوع قابل الحدوث، يمكن حدوثه، ويمكن أن نلاحظ له ابتداءات حتى الآن ويمكن أن نرى إذا لاحظنا كيفية سير الدول السورية الحاضرة، أنّ الرأسمال الفردي يلعب دوراً هاماً في تقرير مصير المجموع ضمن هذه الدول وأنّ من اضلاع الاتفاقية النقدية مع فرنسة أيضاً حالة رأسمالية بين لبنان والشام، حالة مصالح رأسمال فردي محدود في لبنان ومصالح راسمال فردي محدود في الشام.
وواضح جداً وصار ملموساً عند الذين يبحثون أنه يوجد مثلث في لبنان، ومخمس في الشام، فالمثلث والمخمس لهما المصالح الكبرى في كل أمر وإليهما تعود المنافع الكبرى من أية تسوية سرية اقتصادية في هاتين المنطقتين.
الحالة في بلادنا لا تزال في بادىء الأمر بين الفرد والمجتمع، بين الرأسمال الفردي والمصير القومي.
إنه نزاع إذا لم يكن قد اتخذ شكلاً وتكوّن في جبهات فلا بد أنه واصل إلى شيء من هذا.
الفردية، خصوصاً في بلاد كبلادنا، لم تكن لها تربية قومية ولا وعي قومي، ولم تتمكن أن توقظ شيئاً قومياً لا في طلبة المدارس ولا في فئة ولا في مجموع. ينشأ الفرد منا في حالة من هذا النوع غير شاعر إلا بمسائل وقضايا محدودة تختص بدائرته هو، مصيره هو، مهما كان مصير مجموع الأمة، مجموع الدولة أو الجماعة الكبرى.
الرأسمالي عندنا أشد الناس ابتعاداً عن الاهتمام بأية قضية قومية أو وطنية أو بأي مصير للجماعة القومية. إنّ تخطيطه تخطيط فردي محض والمصلحة مصلحة فردية محضة، ولذلك لا يحجم حتى عن التحالف مع أي رأسمال أجنبي مجموعي ضد مصلحة المجموع الذي هو أحد أفراده.
فالرأسمال الفردي الآخذ في أن يزداد أمام أعيننا في هذه البلاد ويسيطر على مصير هذه البلاد والشعب، هو من أسوأ حالات الرساميل في العالم على الإطلاق.
وطبعاً لكي يمكن أن ننظر في حالة العمل والعمال والرأسمال يجب أن نصل إلى الطور الصناعي وإنّا بدون شك نرى أنه لا بد للدولة القومية المقبلة من أن تسير في إيجاد حالة صناعية في هذه البلاد تخرج الأمة من حالة الرق للنظام الرأسمالي القائم على الصناعة الكبرى في الأمم الكبيرة المتقدمة.
إنّ الأمة التي تبقى في حالة زراعية محضة تبقى حتماً مستعبدة للأمة التي هي منظمة صناعياً تنظيماً عالياً يمكنها من إحداث الآلات الصناعية والحربية لإخضاع أي شعب لا يخضع لأحكامها الاستبدادية.
ولو كان تم الانتصار لألمانية في الحرب التي مضت كنا رأينا تكتيك التسلط على الجماعات القومية بأجمل واقوى وأروع وأقبح صورة يمكن أن ترسم لها.
إنّ اتجاه ألمانية هو أن تكون هي المركز الصناعي الأكبر الذي تحيط به مراكز زراعية محضة تحرم باتفاقات إنترناسيونية من حق انتاج صناعي ثقيل، وأن تنصرف للزراعة بآلات ألمانية تعطيها بدلها المحصولات الزراعية.
والأمة التي ليس فيها صناعة كيف تكون حالتها في أزماتها؟ مثلاً أزمة فلسطين. مرت حالة في طور فلسطين الأخير كانت شبه جنوبية للشعب في فلسطين، كان الفلسطينيون يدورون في جميع المناطق يحملون المال الذي أخذوه من البيع أو التوفير طالبين أن يجدوا سلاحاً اعتيادياً بسيطاً يدفعون به غالباً جداً ليدفعوا عن أنفسهم فلا يجدون. ولا معمل واحداً للبنادق أو الخرطوش أو (التومي غن) كان يوجد في البلاد لسد حالة جزئية صغيرة. مثل هذه الحالة، كل حماس الشعب وجهود الشعب كانت تحت رحمة عدم وجود الآلة في هذه البلاد، ليس فقط في أحوال الحرب بل في أحوال السلم. إنّ هنالك آلات لمسائل السلم يمكن أن تصنع في هذه البلاد، وكانت دمشق من المدن الصناعية الكبرى في صنع السيوف وسقي الفولاذ، ويمكنها أن تعود إلى الصناعات الحديثة أيضاً، ومهارة السوري في الصناعة ليست أقل من مهارة أي شعب إذا استثنينا الفرق بالاختبار، والموارد للصناعة.
قد لا نطمح في بلادنا إلى أن نصير أمة صناعية من الطراز الأول ولكن لا بد من إنشاء صناعة تنهض بها هذه البلاد وتسد قسماً كبيراً تحتاج لجلبه من الخارج لقاء قطع نادر أو ما تصدره إلى الخارج، لأن الاقتصاد يجب أن يعني الازدهار وليس البقاء على الاستمرار في الحياة. إنّ الاقتصاد يجب أن يعني توفير إمكانيات التقدم والتمتع ورفع مستوى المصالح المادية والفنية والنفسية للشعب الواحد. وإذا كانت النظرة القومية الاجتماعية غير مبنية على الحالة الراهنة الآن فهي مبنية على القواعد والأسس التي ستواجهها الأمة متى أصبحت هذه الأسس فيها محققة لأهدافها في القريب العاجل، إن شاء الله.
إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي يريد وحدة قومية متينة قوية، تثبت بها الأمة السورية في معترك الحياة والتفوق. وهذه الوحدة القومية القوية لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اقتصادي سيّىء، كما أنه لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اجتماعي سيّىء. فإقامة العدل الاجتماعي ـ الحقوقي والعدل الاقتصادي ـ الحقوقي أمر ضروري لفلاح النهضة السورية القومية الاجتماعية.
نصل الآن إلى تحديد الإنتاج من وجهة ما نعنيه بالعدل الاجتماعي في توزيع الإنتاج من حيث يصون مصلحة العمل والأمة.
بعد حصول وعينا القومي وبعد شعورنا بارتباط مصيرنا في الحياة ارتباطاً لا يمكن فصمه، لا مناص لنا من الاعتقاد بوحدة المصالح التي هي مصالح الأمة، مصالح الجماعة الكبرى، وليس مصالح فردية معيّنة للأفراد بأنفسهم.
الإنتاج في حالة الوحدة القومية هو إنتاج قومي له موقف تجاه إنتاج قومي لأمم أخرى، ويحتاج إلى التفاعل معه من أجل تحقيق الخير والرفاهية المرغوب فيهما، فلا بد من النظر إلى الإنتاج كشيء قومي، المصلحة فيه للشعب، للمجتمع، للأمة، وليس للأفراد كأفراد.
“إنّ الإنتاج المشترك هو حق عام لا حق خاص. والرأسمال هو ضمان استمرار الإنتاج وزيادته، هو، بالتالي، وبما أنه حاصل الإنتاج، ملك قومي عام مبدياً، وإن كان الأفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للإنتاج”.
من هذا يعني أننا لا نرمي إلى إبادة الملكية الشخصية كملكية عملية، ولا إلى أخذ الراسمال من أيدي الأفراد رأساً ونزع حق التصرف من أيديهم، ولكن يعني أنّ الأفراد الذين يتصرفون الآن بالرأسمال تصرفاً فردياً يتصرفون به تحت إشراف الدولة لضبطه وتوفيقه، لأنهم مبدئياً مؤتمنون عليه ائتماناً من قبل المجتمع، يبقى لهم قوة الاستنباط والتفنن لإنتاج ما يشعرون بأنفسهم الكفاية لإنتاجه، ويتصرفون بحرّية ضمن شروط تضعها الدولة. ولكن يكون من حق الدولة أن تنظم للأفراد وتحدد لهم وتسنّ القوانين اللازمة لضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج الحاصل من العمل، فلا يعود الرأسمالي الفردي من جهة حقوقية حراً في أن يتصرف تجاه العمال وتجاه الذين يستأجرهم أو يستأجر منهم الأرض أو ما شاكل ويفعل ما تمليه مصلحته الفردية بصرف النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج والذين يجب أن يكون لهم حق في نصيب من الإنتاج.
وهذا يعني أنّ الإقطاعات الكبيرة التي تظهر اليوم بمظهر ملك شخصي تحتاج إلى إعادة النظر من قبل الدولة فيها، وإلى إعطائها اتجاهاً يحرر جماعة كبيرة من الناس ويعطيها المجال لتتحرر في نفوسها، ولتعمل على اساس جديد يساعد على رفع مستوى حياتها والحصول على حياة أَلْيَق بالإنسان من الحياة التي يحياها اليوم. وهذا لا بدّ منه لأنه كما قلنا إنّ النظام الاقتصادي السيّىء، الذي يجعل مئات والوفاً من الفلاحين في حالة من شظف العيش، في حالة من الجهل، في حالة من المرض والبؤس، لا يمكن دولة عصرية من تثبيت نفسها في تنازع البقاء. إذا احتاجت الدولة إلى هؤلاء الألوف في حالة حرب مثلاً، وجدت أنها لا يمكنها أن تستند إليهم في الحرب، وكيف تستند إلى رجل خمدت في نفسه عوامل الحياة وشوهته الأمراض وأقعده الذل ليكون بطلاً يحارب بكل قلبه وكل نفسه من أجل وطنه وأمته اللذين يجد فيهما تحقيقاً للحياة المثلى التي يريد ويطمئن أن يحياها.
ولذلك يقول المبدأ: “وصيانة مصلحة الأمة والدولة”.
“وإنّ الاشتراك في الإنتاج اشتراكاً فعلياً شرط الاشتراك في الحق العام”.
إني أرى أنّ غير المنتج لا يمكن أن يعامل معاملة المنتج ويأخذ نصيبه من الإنتاج. يجب أن يصير الجميع منتجين. يجب أن يعمل الجميع لنهضة صناعية زراعية اقتصادية قوية تفيض الخير على هذه الأمة والشعب. وبهذا العمل، وبهذا الإنتاج يمكن النظر في توزيع النصيب العادل للجميع ليحيوا الحياة اللائقة بالإنسان المتمدن الراقي.
“بهذا التنظيم الاقتصادي نؤمّن نهضتنا الاقتصادية وتحسين حياة ملايين العمال والفلاحين وزيادة الثروة العامة وقوة الدولة القومية الاجتماعية”.
للوصول إلى تحقيق هذه الحالة المثلى لا أريد أن أدخل الآن في تفاصيل دقيقة تحتاج إلى إحصاءات ودروس تصنيفية دقيقة سنعود إليها. ولكن نعلن منذ الآن أننا لا نرى النقابات وطريقة النقابات المتبعة طريقة للوصول إلى هذه الحالة المثالية التي نتوخى الوصول إليها.
إنّ النقابات أصبحت في الأخير وتصبح تقريباً دائماً من وجهة نظر سياسية، معسكراً حربياً غايته دائماً الحرب وطلب المزيد من غير أي تقدير عقلي أو منطقي للنتائج.
إذا أضربت نقابة وفازت بشيء، طلبت بعد مدة أن تحصل على مطالب أخرى، ولجأت حالاً إلى إضراب ثان إذا لم تجب إلى مطاليبها، وقد يكون ما تطلبه النقابة أحياناً ضاراً بالمصلحة القومية الكبرى.
حينئذٍ تحلّ نظرة النقابة الضيقة محل نظرة الفرد الرأسمالي الضيقة غير ملتفتة إلى أي خير عام.
النقابة لا يمكن أن تنظر فيما تحتاج إليه موازنة الدولة لمواجهة الحالات العصرية المعقدة. هي تطلب الزيادة كالطفل من غير أي تقدير لما يطلب، من غير تفكير فيما يطلب.
ففي حالة حسنة يبقى العدل الإنساني والحقوقي في نصابه.
إنّ النقابات تصير واسطة للعمل من غير منطق عقلي، تعمل بالحدس والتخمين، بالتقديرات الاستبدادية وتصير نظرتها سياسية مستمدة من الأفراد لا من النظرة القائمة في الشعب.
لذلك نحن لا نقول بالنقابات نظاماً ولكن نقول بالتصنيف الفني للإنتاج، والتصنيف الفني لا يعني النقابات المحاربة لتصل إلى حقوقها، بل يعني إيجاد الأسس الصحيحة التي يصير فيها التوزيع مع حفظ نظر الدولة في المسائل الأساسية. لأنه لا يمكن أن نعني إلغاء الرأسمال بالمرّة، لا يمكن إلغاء الرأسمال كرأسمال بالمعنى الجاري، لا يمكن تعطيل الرأسمال دون تعطيل المجتمع.
إنّ الرأسمال يمكن أن يتحول من حالة إلى حالة ولا يجوز أن يلغي أبداً. وإذا مُنع التصرف بالرأسمال الفردي، فلا يعني ذلك منع الرأسمال بل منع الاستبداد بالرأسمال من قبل فرد ضد مصلحة المجموع. والأمة الناهضة لا يمكن أن تفكر أبداً بمسألة جنونية كإلغاء الرأسمال مثلاً، إنّ الرأسمال ضمان وفي حالة اقتصاد لا قومي لا يلام الرأسمالي الفردي إذا طلب المزيد من رأسماله لأن ليس له العلم بما يحاربه به الزمن.
الضمانة الوحيدة للرأسمال الفردي هي أن يزداد ويزداد للنهاية. الرأسمالي الفردي لا يدري ما يحدث إذا نشبت حرب غداً أو اعتداء من أمة من الأمم يصدر إليها، أو أصدرت تلك الأمة قوانين منعت ما كان يصدره. إنه يحتاج إلى ضمانة من رأسماله يواجه به الأحداث التي لا يعلم متى وبأية كيفية تأتي.
وكذلك الأمة في نضالها وحياتها لا ينتظر أن تستغني عن المحشود الحاصل بمعنى رأسمال في أية طريقة من الطرق، في حالة تحتاج فيها كل أمة إلى النظر وإلى الاحتياط للأحداث الإنترناسيونية التي يمكن أن تحدث لها بين لحظة وأخرى، خصوصاً في عصر ارتقت فيه الضربات وارتقت فيه المبادىء، كمبدأ الهجوم الدفاعي مثلاً: نحن نخشى أمة علينا فنهاجمها من غير سابق إنذار. كالحالة التي نشأت في الحرب. وكالحالة التي حدثت في الحرب الأخيرة، حالة اللامحاربة التي لا يقصد بها الحياد بل التوقف عن الحرب موقتاً. وقواعد كثيرة تزداد تراكماً كلما ازدادت البشرية اختباراً.
التوجيه من الدولة وسنّ القوانين إلى أقصى حدّ ينمي حيوية الشعب ويعطي الخير العام، مهما تذمر بعض الخصوصيين لما يحرمون منه، هو أمر لا مفر منه، وهو أمر لا يمكن أن نستغني عن تقريره في حالة إنشاء الدولة القومية التي نريد إنشاءها هنا.
نحن لا نقول بحرب النقابات ولا بحرب الطبقات لأننا نقول بوحدة اجتماعية قومية.
نقول بالحق والعدل الذي يجعل مجموع الشعب في حالة خير وبحبوحة فلا يكون أناس في السماء وأناس في الجحيم.
إنّ سورية تحيا اليوم ليس في القرن العشرين في حالتنا الحاضرة، إنها تحيا في القرون المتوسطة، فالنظام الاقتصادي فيها لا يزال نظام القرون المتوسطة والنظرة الفردية.
السياسة فيها سياسة العائلات والأشخاص ذوي النفوذ. وحالة من هذا النوع لا يمكن أن تجعل الأمة تتقدم نحو أهداف عليا. لا بدّ من تحويل هذه الحالة إلى حالة قومية، إلى النظرة القومية العامة في المسائل الاقتصادية والسياسية.
السياسة ليست نفوذاً لأشخاص أو أفراد أو عائلات.
السياسة فن بلوغ الأغراض القومية وتحقيق الغايات القومية التي يجب على كل فرد أن يرتبط فيها لأنها رابطة المجتمع. السياسة عندنا وسيلة لا غاية، وسيلة لبلوغ الأغراض القومية بأقرب الطرق وأقل التكاليف.
وليست السياسة سياسة لنفسها ومهنة خاصة يحترفها بعض الأفراد ويحتكرون بواسطتها النفوذ وتقرير مصير الشعب.
من هذه الناحية نحن نسير نحو نظام جديد لا نهرب فيه من الآلة بل نتقدم إليها. لا نعد الآلة مصيبة للبشرية ولا مستعبدة للناس بل نعمة للبشرية ومحررة للناس. ولكن بعض الناس الذين استعملوا الآلة الحديثة رأوا أن يستعبدوا الناس الذين لم يكن لهم ما يمكنهم من حيازة الآلات الضخمة الحديثة.
إنّ سوء الحالة الاقتصادية ليس من الالة بل من النظام السيّىء الذي تنمّيه النظرة الفردية اللامسؤولة عن المصير القومي في استخدام الآلة الحديثة.
ونهضتنا تريد أن تضع حداً لهذا الاستعباد ولأصحاب الرساميل الفردية الذين يستعبدون بواسطتها الناس.
نهضتنا تريد أن تحرر الآلة من استبداد النظرة الفردية، لأن بتحريرها تحرير مئات وألوف من الناس. والذين يحرمون من أعمالهم بسبب الآلة، تصرفهم نهضتنا إلى أعمال أخرى ولكنها لا تحرمهم، من مجرّد اتجاههم إلى أعمال أخرى، من نصيبهم من الانتاج الذي تشكّل الآلة نصيباً كبيراً منه.
إنّ الإنتاج من هذا النوع يعتبر حقاً عاماً لأنه نتيجة المجهود العام وما يؤمنه وجود الالة والوحدة القومية التي هي حاصل وجود الأمة وحقيقتها بالفعل.
أظن، ما قلناه الان يكفي تمهيداً لهذا البحث الذي يجب أن يتناول في المستقبل محاضرات اختصاصية في كل باب وناحية من نواحيه، ليعطي صورة حقيقية عن النظام القومي الاجتماعي.
إنّ ما أعطي الآن هو قواعد عامة ومعلومات أساسية لا غنى عنها للتقدم بعد إلى النظر في أمور اختصاصية.
الأحد في 14 مارس/ آذار 1948
دوّنها الأمين جورج عبد المسيح
نقلاً عن كتاب المحاضرات العشر،
دمشق، 1952، ص 115 ـ 130