مشكلة الحرية تحلّ بالحرية
إنّ أوّل مشكلة واجهتني، يوم وصولي إلى الوطن عائداً من أميركة الجنوبية حيث اضطرتني ظروف الحرب إلى البقاء عدة سنوات، كانت مشكلة الحرية.
فقد تحررت حكومات الدول السورية من الاحتلال الأجنبي العسكري، والانتداب، ولكن الشعب بقي تحت أساليب الاستعباد الأجنبي ليس فقط في سياسة الحكم، بل في العقلية التي غرسها الأجانب في أقسام من ناشئة الأمة، وتحت عقلية مؤسسات القرون الوسطى.
ألقيت يوم وصولي خطاباً أعلنت فيه أنّ الحزب القومي الاجتماعي لم يكن وليس عدواً للكيان اللبناني، مع أنه سوري في عقيدته القومية. وهذا الإعلان لم يكن شيئاً جديداً بل منطبقاً على تصريحي في موقف الحزب القومي الاجتماعي من الكيان اللبناني سنة 1937 (أنظر ج 2 ص 145). ففي هذا التصريح أوضحت موقفنا العقدي وموقفنا السياسي وكيف نجمع بين الاثنين في انسجام تام. ولما لم يكن خطابي المذكور خطاباً سياسياً بل عقدياً موجهاً إلى أعضاء الحزب القومي الاجتماعي الذين يؤمنون بحقيقة سورية قومية اجتماعية، ويعتقدون بوحدة النفسية السورية والحياة السورية والمصير السوري، ويعرفون التاريخ السوري والأرض السورية، ولما كانت مهمة الحزب القومي لاجتماعي إيجاد نهضة ثقافية واحدة في جميع الدول السورية، التي تجمعها في الأخير رابطة المصير الواحد ووحدة المصالح الاقتصادية والسياسية، فقد أبرزت في خطابي فكرة العمل القومي الاجتماعي، الثقافي، العام، في هذه العبارة: “إنّ الكيان اللبناني يجب أن يكون نطاق ضمان للفكر ولانطلاق الفكر في سورية الطبيعية كلها” (أنظر ج 7 ص 205).
هذه العبارة التي اشتملت على فكرة توطيد لبنان في نشر فكرة ثقافية مدنية واحدة في سورية الطبيعية (وسورية الطبيعية هنا ليست “سورية الكبرى” ولا “الهلال الخصيب” اللذين يعنيان مشروعين سياسيين معينين، بل هذه المنطقة الجغرافية الواحدة التي عرفت في التاريخ باسم سورية، والتي تبقى منطقة جغرافية واحدة مهما نشأ فيها من دول، ولا يغيِّر شيئاً من حقيقتها استبدال تسمية استعمارية جديدة “كاللوان” مثلاً باسمها الذي عرفها بها التاريخ) ـ هذه العبارة لم تثر فقط رجالاً في الحكومة لذلك العهد، بل اثارت الفئة المثقفة سياسياً في ثقافة سياسة الاحتلال الاستعماري التي تقوم على الاستسلام للأمر المفعول وعلى مبدأ الخوف والانعزال.
لم يتخذ هرج الخوف ومرجه في الفئة التي قامت على علاقة واضحة، ثابتة مع الأجنبي المحتل وعلى أساس الصداقة والتعاهد معه ـ هذا الأساس الشائن الذي اتخذته تلك الفئة دستورها الثابت ـ لم يتخذ شكل حرب فكرية تقوم على حرية الفكر وتوخي الحقيقة والرجوع إلى الشعب، لأنّ الأمر يعني الشعب الذي له وحدة حق تقرير مصيره ومصير حكومته، بل اتخذ شكل حرب ضد الفكر، ضد حرية الفكر وضد الحقوق المدنية السياسية لأعضاء الدولة الذين هم جميع أبناء الشعب!
لماذا لجأت تلك الفئة الغريبة بتفكيرها النايو رجعي المستحدث عن الفكر اللبناني الأصلي الصحيح، إلى هذا النوع من المحاربة الخسيسة، البعيدة عن حرية الفكر؟
لماذا لا تزال طريقة محاربة الفكر بالدس والتحريض ومطالبة الحكومة باستعمال الإرهاب هي الطريقة الوحيدة المتبعة عند تلك الفئة التي نشأت تحت رعاية الأجنبي المحتل على أساس الصداقة والتعاهد معه، ورأينا مثالاً باهراً منها في مطالبة جريدة الأوريان الحكومة بسجن الذين لهم رأي في مصير البلاد غير اللارأي الذي كونته فئة قليلة في الوطن وضمن الكيان اللبناني منها جماعة الأوريان وأكسيون؟
إنّ السبب الأول الواضح هو يقين تلك الفئة بعجزها عن محاربة الفكر الحر بالفكر المستعبد، وعن مقاومة الرأي الصحيح بالرأي الأخرق. إذ لو لم يكن هذا هو السبب الحقيقي لما أظهرت ذاك الارتياع، ولما لجأت إلى ذياك التهويل، ولما تعلقت بأذيال بعض رجال الحكم متوسلة إليهم أن ينقذوها من ورطة العجز عن مقابلة الفكر بالفكر، وأن يقوها فضيحة اضمحلال الكتائب المكتتبة أمام خطاب واحد يفيض بالحق ويحرر النفوس من التدجيل وأوهام الباطل.
والسبب الثاني هو كره مبدأ الحرية ونور الحق الاجتماعي، وبغض مصلحة الشعب في لبنان التي لا تكون في العبودية، بل في الحرية. إنّ الشعب في لبنان يريد الحقيقة يريد المعرفة الصحيحة، والحقيقة والمعرفة الصحيحة تظهران بالبحث الحرّ لا باضطهاد حرية الفكر.
ومن أشد الأدلة وضوحاً على كره فئة التفكير الدخيل على الفكر الأصيل وعلى حقيقة اللبنانيين ما أعلنه بعض المنتمين إلى التشكيلة المعادية لحرية الفكر أنّ إدارة التشكيلة “العليا” قد حرَّمت بقرار، على الأعضاء، الاتصال بقوميين اجتماعيين والمباحثة معهم في العقائد القومية!
يتضح مما تقدم ومما سبق أنّ مشكلة الحرية في لبنان ليست مشكلة تختص بالحكومة، بل هي مشكلة في الشعب. إنّ تزوير الانتخابات هو بلية بعض الطامعين في النيابة والاستثمار كما هو بلية أصحاب القضية الحرّة الصحيحة. ولكن هنالك بلية أعظم من هذه هي بلية تزوير العقائد وتزييف المبادىء والتدجيل وغش الشعب!
إنّ الكيان اللبناني قائم وقد أعلن الحزب القومي الاجتماعي احترامه هذا الكيان “باعتباره تعبيراً صادقاً عن إرادة الشعب”، ولم يصدر عن هذا الحزب أي عمل أو تدبير يرمي إلى إزالته، بل بالعكس اعتبره “نطاق ضمان”. أما أن يعتبر العروبيون لبنان عربياً، وأن يعتبره السوريون القوميون الاجتماعيون سورياً وأن يحاول الرياضيون “الكتائبيون” إنشاء أمة وقومية جديدة فيه، فمن الأمور المتعلقة باصطراع العقائد ولا علاقة لها بأي عمل سياسي يتعلق بالكيان اللبناني كدولة. فإذا سيطرت العقيدة السورية القومية الاجتماعية في لبنان فلا يعني ذلك مطلقاً أنّ الكيان الذي يعبّر عن إرادة اللبنانيين سيسلّم للتعبير عن إرادة غيرهم.
إنّ الكيان اللبناني هو “نطاق ضمان للفكر ولانطلاق الفكر” والقوميون الاجتماعيون مستعدون لحماية هذا النطاق. فلتصطرع فيه العقائد بحريّة ولنبتعد عن مشاكل السياسة ودسائسها.
إنّ القوميين الاجتماعيين اللبنانيين هم أشد الناس حرصاً على لبنان وغيره، وهم أبعد الناس عن المجازفات الاعتباطية.
إنّ مشكلة العقائد في لبنان هي مشكلة الحرية، ومشكلة الحرية لا تحل إلا بالحرية!
إنّ لبنان يحيا بالحرية ويندثر بالعبودية! إنّ الحركة القومية الاجتماعية هي حركة الحرية، وهي أيضاً حركة الواجب والنظام والقوة، وبانتصارها يجد لبنان كل الخير وكل العز.
الجيل الجديد، بيروت،
العدد 7، 14/4/1949