… والانعزاليّة اللبنانية أفلست!

في مقالي السابق “العروبة أفلست” أظهرت أنّ الفئة العروبية من فئات الـ Neo رجعيين اقامت بعقليتها “النايو رجعية” (الرجعية الجديدة أو المتجدة) أوهاماً في الأمة السورية أبعدتها عن حقيقتها فبذلت قواها، بقيادة “العرب” والتفكير العربي في معارك حياتها وصراع تقرير مصيرها، في قضية جمع المتفرق وتفريق المجتمع وتوحيد ما لا يقبل الوحدة وتجزئة ما هو واحد ـ قضية الخلط بين تقارب أمم العالم العربي في تعاطف شعوبها بعامل الدين واللغة وفي تقارب أقطارها في مواقعها الجغرافية، على تباينها في أجناسها وتباعدها في مجتمعاتها واختلافها في نفسياتها وأمزجتها وتراكيبها السلالية، والوحدة القومية التي هي وحدة حياة المجتمع في بيئته ـ في قطره الطبيعي الجغرافي، فكان من وراء ذلك صرف قوى الأمة السورية عن الحقيقة إلى الوهم وما نتج عنه من الإبقاء على التفسخ الروحي في الأمة بسبب الحزبيات الدينية وشلل العمل القومي الصحيح وخسارة كيليكية والإسكندرونة وفلسطين، ولم يخطر في بالي قط أنّ الرجعيين المستعربين ومستغلي العروبة سيتعظون بالحقائق التي أوردتها ويعتبرون بما حلّ بالأمة السورية من نكبات من جراء ما أطلقوه في الشعب السوري من تيارات التضليل. فهم لو فعلوا ذلك لبرهنوا على أنّ القومية والوطنية تعنيان شيئاً حقيقياً لهم!

ليست الفئة العروبية الفئة “النايو رجعية” الوحيدة في سورية الطبيعية ودولها، ففي هذه الدولة الصغرى من الدول السورية فئة نايو رجعية لا تقل عن الفئة العروبية، تهديماً للحقيقة وتهديداً لمصير الأمة السورية ومصير الجماعة التي تدّعي تمثيلها. هي الفئة المتلبننة تلبنناً فرنسياً القائلة بـ “القومية اللبنانية” التي ترمي من ورائها إلى فصل اللبنانيين المسيحيين خاصة وكل من أمكن من غير المسيحيين عن بقية السوريين، فصلاً لا يقتصر على الناحية السياسية التي يؤمّنها الكيان اللبناني أو الدولة اللبنانية، بل يتعدى الناحية السياسية إلى صميم الوحدة الاجتماعية ـ إلى صميم الوحد القومية السورية، فيعزل اللبنانيين روحياً وثقافياً عن الحياة السورية العامة وعن التفاعل القومي الروحي الثقافي ويجعل منهم مجموعاً مناقضاً للوجود السوري القومي، بل معادياً لهذا الوجود ومقاوماً لاستمراره.

إنّ فكرة الانعزال اللبناني التام روحياً واجتماعياً ـ فكرة إنشاء أمة لبنانية وقومية لبنانية ـ تدل على مرض الداعين إليها مرضاً نفسياً يشوه العقل السوري والإدراك والمنطق. إنها فكرة مخالفة للواقع الاجتماعي والحقيقة.

كما لبست الحزبية المحمدية ـ أقوال المحمدية لا الإسلامية لأنني كما أعلنت سابقاً أعتبر الإسلام شاملاً المسيحيين وأهل الحكمة أيضاً ـ في الرجعية الجديدة لباس “القومية العربية” وارتكزت على مرتكزين أساسيين، هما: اللغة العربية والدين المحمدي، اللذين نشرهما الفتح العربي المحمدي، كذلك لبست الحزبية الدينية المسيحية في الرجعية الجديدة لباس “القومية اللبنانية” واتخذت لنفسها مرتكزين اساسيين هما: الدين المسيحي ونظام جبل لبنان تحت السيادة التركية، الذي وُضع عقيب الحرب الأهلية الدينية المعروفة “بحركة سنة الستين” التي جرت فيها سنة 1860 مذابح دينية منكرة. وكما ترفض الحزبية المحمدية الإقرار بأنّ العروبة ـ عروبة “الأمة العربية والوطن العربي” ـ هي اللباس أو التجسيد السياسي للحزبية الدينية المحمدية كذلك ترفض الحزبية المسيحية الاعتراف بأنّ التلبنن ـ تلبنن “القومية اللبنانية والوطن اللبناني” ـ هو اللباس أو التجسيد السياسي للحزبية الدينية المسيحية.

لا جدال في أنّ السبب الموجب، من الوجهة الداخلية، لوجود الدولة اللبنانية هو المنازعات والحروب والمذابح الدينية التي حدثت بسبب الحزبيات الدينية ونفسية صراع الأديان. وكان يكفي المسيحيين أن يطلبوا الاستقلال الإداري أو كياناً سياسياً يقيهم شر الفتن الدينية من غير لجوء إلى الانفصال النفسي الثقافي القومي. والواقع أنه لم يخطر قط في بال أحد من قدماء السياسيين في لبنان، حتى ولا في بال المؤسس الفعلي الأول والأكبر للانفصال اللبناني، السيد شكري غانم، الذي عاش مدة طويلة في فرنسة واكتسب الجنسية الفرنسية، على ما هو معلوم وشائع، وتنقل في عمله السياسي في فرنسة بين جمعية سورية طوراً وجمعية لبنانية تارة، أن يكون الانفصال اللبناني انفصالاً قومياً. فقد استمر غانم يشعر بسوريته، حتى بعد إعلان “لبنان الكبير” من قبل قائد جيش الاحتلال الفرنسي، الجنرال غورو ونشر من الكتابات ما يثبت بقاءه سورياً وحسبانه لبنان جزءاً مستقلاً من أجزاء سورية الطبيعية (إقرأ مقدمته لكتاب الدكتور جورج سمنه La SYRIE المطبوع في باريس 1921). ولكن المدارس الفرنسية وسياسة الاحتلال الفرنسي نحو ربع قرن أنشأت لنا طائفة من الشبان المتنكرين لسوريتهم الموجَّهين توجيهاً استعمارياً. وقد دفعت هذه الطائفة الطائفية المتفرنسة إلى الانتظام في تشكيلات محاكية لتشكيلات الفرق القومية الاجتماعية بقصد محاربة النهضة السورية القومية الاجتماعية التي، مع اعترافها بكيان لبنان السياسي، لا ترى اساساً اجتماعياً أو جغرافياً أو إتنياً أو تاريخياً “للأمة اللبنانية” التي جُعلت هدفاً للفلنج التي تقول المادة الأولى من “قانونها الأساسي” إنها منظمة وطنية للشباب غايتها السعي المتواصل إلى إنشاء أمة لبنانية (غير موجودة طبعاً) تدرك واجباتها وحقوقها وتعتني بها في دولة ناجزة الاستقلال، كاملة السيادة ضمن دائرة التعاهد والصداقة مع فرنسة (المحتلة)”.

إنّ الفقر المالي والتقهقر الاقتصادي اللذين ينحدر فيهما لبنان نحو القطيعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية على اساس “القومية اللبنانية” التي تسيّرها الدعاوة “المصنوعة في فرنسة” التي تنشر غالباً باللغة الفرنسية في الصحف والكتب اللبناية الأرستوقراطية، وأحياناً مترجمة عن الفرنسية في الصحف التي ترى سياسة الدعاوة وجوب إخراجها بلغة البلاد لكيلا تحرم العامة أيضاً في لبنان من نعمة الدعاوة الأجنبية ! ـ أقول إنّ الفقر المالي والتقهقر الاقتصادي اللذين يصيبان لبنان بسبب اتجاه عوامل الانعزال التام فيه نحو القطيعة النهائية قد نزلا على الغالب بالمسيحيين الذين تدّعي سياسة الانعزال التام أنها وجدت لتحميهم وتقدم لهم وسائل الخير والعز، فسكان الجمهورية اللبنانية جميعهم، إلا أفراداً وعائلات مستغلة، يشكون اليوم نتيجة القطيعة الاقتصادية والروحية.

أما الأخطار العظيمة التي أصبحت محيطة بلبنان، خصوصاً بعد كارثة فلسطين وبسبب استفحال الأحقاد التي توغر سياسة الانعزال التام الصدور بها، فهي تنذر بأشأم الكوارث وأسوأ أنواع الاستعباد.

إنّ الحزب القومي الاجتماعي استطاع بجهد جهيد رفع كوارث حروب دينية في عدة مناسبات أثيرت في لبنان خاصَّة وسورية عامة، وما تزال الحزبية الدينية تلعب في كل خفية من خفايا الشؤون السياسية الداخلية في الجمهورية اللبنانية.

إذا كانت الرجعية العروبية تمتاز بإبقاء التفسخ الداخلي على حاله وتبذير القوى السورية في محاولة جمع كوّنته الطبيعة متفرقاً، فإنّ الرجعية المتلبننة تمتاز بالإمعان في التفسيخ الداخلي الذي يزيد الأمة تفككاً وضعفاً.

لم تكن الرجعية الجديدة المتلبننة أقل إفلاساً في فلسطين ولبنان من الرجعية الجديدة المتعربة، ونكبة اللبنانيين بالتلبنن المتفرنس ليست أقل من نكبة الفلسطينيين بالتعرب.

إذا كان هنالك سبب موجب للاستقلال الإداري أو السياسي فليس هنالك ما يوجب الانفصال عن القومية السورية التي هي نتيجة الواقع الطبيعي والاجتماعي السوري والتي ينادي بها اللبنانييون المستقلون عن الإرادات الأجنبية!

 كل شيء، بيروت،

العدد 96، 28/1/1949

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى