وحاربنا.. لننقذ اللبنانيين!
ما أشد الشبه بين موقف العروبيين وموقف المتلبننين، على ما هما عليه من تناقض في القضية! فالعروبيون أخذوا يصيحون “عدو العرب” والمتلبننون أخذوا يصيحون “عدو لبنان”!
قد لا يصعب كثيراً علينا تحليل موقف كل من الفئتين، لأنّ لكلتيهما عقلية واحدة هي العقلية النايورجعية، التي تحارب كل تقدم وكل فكر غير رجعي بالقذف بأقبح التّهم الباطلة التي تثير المثقفين في الثقافة الرجعية الجديدة، والمتمسكين بالحزبية الدينية، وتهيّج الغوغاء، وتحرّضه وتميل به عن المعرفة والتفهم إلى الصخب والهياج.
تختلف الرجعية الجديدة المتلبننة، والرجعية الجديدة المتعربة، في مرض النظر المصابتين به. فمرض الأولى قصر النظر ومرض الثانية طول النظر. ولكنهما تتساويان في النتيجة: فما هو ضمن نطاق النظر الطبيعي يبدو في ناظريهما بعيداً وما هو خارج نطاق النظر الطبيعي يبدو في ناظريهما قريباً!
منذ نحو ثلاث عشرة سنة ونيف، أي منذ ظهر الحزب السوري القومي الاجتماعي في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1935 بعد ثلاث سنوات مرّت على عمله سراً، والرجعية الجديدة لا تنفك تحاربنا بالهياج والتحريض، بصيحات “عدو العرب! عدو لبنان!” وكان التحريض يوجه آناً إلى المرضى بالحزبية الدينية وحيناً إلى “الحكومة”، طالباً منها اتخاذ تدابير لمحاربة الفكر وتعطيل حقوق أعضاء الدولة المدنية والسياسية بالطغيان! وقد تناولت في مقالي السابق المنشور في عدد 11 شباط/ فبراير الحاضر من كل شيء فساد مزاعم الرجعيين الجدد العروبيين وبطلان دعوتهم العروبية الوهمية اللاقومية واللاتعميرية. ولما كانت الرجعية الجديدة العروبية والرجعية الجديدة المتلبننة رجعية واحدة، في الأخير، منقسمة إلى شطرين، كان من اللائق بالنايورجعية أن لا أقتصر على تبيان فساد قضية شطر واحد منها وأن أتناول بطلان قضية الشطر الثاني أيضاً ـ شطر المتلبننين المنادين بعزل اللبنانيين اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وبانفصالهم التام عن المجتمع السوري والحياة السورية القومية.
إنّ نمو النفسية المريضة بمرض التلبنن الإنعزالي، بعناية الاحتلال الفرنسي مدة ربع قرن، أدى إلى نشوء فئة نايو رجعية سفسطائية تكلم بلغة الأجنبي الذي احتل البلاد وفاقاً لمعاهدة استعمارية من الطراز الأول وبفضل تهديم السوريين للتسلط التركي، ومعاونتهم للحلفاء في الحرب العالمية الأولى، والذي أعلن قائد جيشه المحتل الأول أنّ دولته المحتلة تريد البقاء في منطقة احتلالها السورية إلى الأبد!
فلما نشأت الحركة السورية القومية الاجتماعية وأعلنت وجودها السلطة المحتلة نفسها بواسطة حادث اعتقال زعيم هذه الحركة وأعوانه في السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1935، أدرك المحتلون أنهم أمام نهضة قومية رائعة بنظامها وحيويتها، وتجاه حركة صراعية، ذات عقيدة متفوقة، قادرة على تحرير الأمة السورية كلها من رجعياتها الاجتماعية والسياسية، وتحرير فكر اللبنانيين وإرادتهم من قيود التعليم والتوجيه الاستعماري، فوجدوا في الفئة التي خرّجوها من مدارسهم، وثقفوها في غاياتهم، وزادوا في مرض نظرها المنبثق من حزبيتها الدينية العامل التهديمي الذي رجوا أن يكون خير معين لتوطيد دعائم إمبراطوريتهم في الجزء الشمالي ـ الغربي من سورية الطبيعية. فانبرت تلك الفئة تعمل لإنشاء أمة غير موجودة وتنادي “بقومية لبنانية”. وتمكنت بمساعدة الاحتلال الفرنسي من إنشاء “الأمة” الجديدة فبلغ عدد نفوسها، بما فيه إحصاء اليهود الذين يحملون أزرار هذه “القومية” الجديدة، نحو ألف شخص غير وقتيين ونحو ألفي شخص نصفهم دائماً موقت!
وقد قامت هذه “الأمة” الجديدة المصنوعة بطريقة قلّما رأى العالم لها مثيلاً، تسنّ شرائعها الكيفية والعاطفية فأعلنت أنّ لبنان ـ هذه الجبال الفخمة في سورية الطبيعية ـ هو “وطن قومي للأمة الجديدة” أمة الأزرار النايو رجعية، وأنّ كل من لا يحمل زراً من أزرار الرجعية الجديدة المتلبننة لا يحق له أن يكون عضواً في الدولة اللبنانية ولا أن يبدي رأياً يرتئيه في مصير سكان لبنان وفي خيرهم الحقيقي. إنّ لبنان في عقيدتهم “وتعاليمهم” لا يخصّ جميع أبنائه، بل يخصّ المتخرجين من مدرسة الاستعمار الأجنبي. فكل لبناني صميم لا يوافق على الانجراف في تيار “القومية” النايو رجعية ويظل يعرف سورية القائمة حقيقة ثابتة في الواقع وفي التاريخ هو عندهم “عدو لبنان”!
ألا أننا أعداء كل احتكار للحقوق المدنية والسياسية في لبنان وفي كل دولة أخرى من الدول السورية!
ألا أننا أعداء ذلك التلبنن الفاسد الخارج على الواقع والحقيقة المشوِّه للعقل السوري والإدراك الصحيح والمنطق السليم!
ألا أننا أعداء التلبنن الغريب عن حقيقة اللبنانيين القومية وعن إرادة اللبنانيين الأحرار ـ التلبنن المعادي لحرية اللبنانيين في معرفة حقيقتهم وتقرير مصيرهم ـ التلبنن الذي يريد أن يفرض على اللبنانيين الأحرار ما لم تتمكن الإرادة الأجنبية نفسها من فرضه عليهم!
ألا أننا أعداء اللبنانيين الحقيقيين!
إنني أعلن أنّ أعداء العروبة الواقعية هم العروبيون الوهميون، وأنّ أعداء لبنان الواقعي هم المتلبننون الوهميون!
وإنني أعلن أنّ الأمة السورية حقيقة واقعية ثابتة في جميع الكيانات السورية السياسية مهما تعددت “القوميات” النايو رجعية ومهما سخطت أمة الأزرار وكابرت إمبراطورية وحدة الأقطار!
قد رأينا في مقالي “.. والانعزالية اللبنانية أفلست”، المنشور في عدد 28 كانون الثاني/ يناير الماضي من كل شيء، شرح الأسباب الموجبة من الوجهة الداخلية لطلب المسيحيين في لبنان بقيادة متزعمي حزبيتهم الدينية، التي هي حزبية الخوف والانقباض، الانفصال السياسي عن أمتهم السورية. إنّ تلك الأسباب ليست قومية ولا وطنية، إنها ليست إتنية ولا اقتصادية. إنها اسباب الحزبية الدينية والحروب الأهلية التي جرّتها هذه الحزبية على الشعب السوري كله، وهي لذلك، أسباب غير منحصرة في لبنان، فالحزبية الدينية داء اجتماعي ـ سياسي منتشر في سورية الطبيعية كلها ولا يمكن معالجته بإنشاء قضية خاصة به تتخذ شكلاً “قومياً” مصطنعاً في لبنان، بل بإنشاء قضية قومية اجتماعية كلية يحارب أصحابها حرب الوعي القومي والتحرير الاجتماعي السياسي في سورية الطبيعية كلها.
إنّ الدولة اللبنانية هي شخصية سياسية لا تقوم في قطر قائم بنفسه من الأرض، بالمعنى الجغرافي الطبيعي، ولا في شعب منفصل في وحدة حياته الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ الروحية ـ التاريخية. فالشعب اللبناني مندمج في وحدة حياة الشعب السوري، لأنه من صميم هذه الوحدة الحياتية، ولم تتمكن الفواصل السياسية من فصله عنها كما فصلته في الإدارة. وأرض الجمهورية اللبنانية البالغة نحو عشرة آلاف أو إنني عشر ألف كيلو متر مربع ليست بيئة طبيعية كاملة ولا تشكل قطراً كاملاً بالمعنى الجغرافي.
إنّ أسباب قيام الدولة اللبنانية هي، كما قلت سابقاً، أسباب الحزبية الدينية الداخلية والإرادة الأجنبية الاستعمارية التي عملت على استغلال مشاكل الحزبية الدينية لإيجاد حالة سياسية سيئة في البلاد السورية تسهل لها مهمتها الاستعمارية. فالأسباب ليست في وحدة أرضية مستقلة جغرافياً واستراتيجياً ولا في وحدة قومية مستقلة اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً، بل في نظام الحزبيات الدينية. والحزبيات الدينية هي مشكلة اجتماعية ـ سياسية في البلاد السورية كلها، لا في لبنان فقط.
إنّ المسيحيين في لبنان متصلون اتصالاً اجتماعياً وثيقاً بالمسيحيين في بقية البلاد السورية. وإنّ دروز لبنان متصلون اتصالاً اجتماعياً وثيقاً بدروز جبل حوران وبدروز حلب وبقية البلاد. وإنّ المحمديين في الجمهورية اللبنانية متصلون اتصالاً اجتماعياً وثيقاً بالمحمديين في كل البلاد السورية. وإنّ للأرثوذكس بطريركية واحدة في كل سورية وإنّ للموارنة بطريركية واحدة في كل سورية وكذلك بقية الطوائف المسيحية. فإنّ في سورية الطبيعية كرسياً واحداً لجميع الطوائف المسيحية هو الكرسي الأنطاكي. وإنّ للشيعة مجتهداً أكبر مرجعاً واحداً في جميع سورية الطبيعية هو المجتهد الأكبر في النجف، وجميع المسيحيين مشتركون اشتراكاً كلياً في جميع روابط الحياة الاجتماعية والروحية في البلاد السورية كلها. واشتراك المحمديين والدروز في روابط الحياة الاجتماعية والروحية السورية لا يقل عن اشتراك المسيحيين فيها.
إنّ في البلاد السورية وحدة قومية فعلية في الحياة الاجتماعية والمصالح النفسية والاقتصادية وفي المصير الشعبي كله لا يمكن كل عوارض الحدود السياسية تقطيعها وتجزئتها. إنّ عارضة على الناقورة أقامت حداً سياسياً بين منطقة الاحتلال الفرنسي ومنطقة الاحتلال البريطاني لم تَحُلْ اجتماعياً بين اللبنانيين والفلسطينيين المتشابكين في الحياة القومية ولكنها حالت سياسياً، دون انطلاق حيوية اللبنانيين نحو مقاومة مشروع “الوطن القومي” اليهودي! وإنّ عارضة في وادي الحرير لم تمنع مئات السيارات من الذهاب والإياب يومياً بين مركز الفاعلية الحيوية اللبنانية ومركز الفاعلية الحيوية الشامية، حاملة اللبنانيين والشاميين من جميع الأنحاء إلى جميع الأنحاء توزعاً من المركزين المذكورين. وإنّ عارضة عند النهر الكبير لم تمنع تفاعل الحياة الاجتماعية بين لبنان وغرب الشام.
إنّ ترابط القرى والمدن والأوردة الزراعية في سورية الطبيعية كلها لا يسمح مطلقاً بالتفكير بتجزئة الأمة السورية إلى أمم والشعب السوري إلى شعوب. إنّ وحدة الحياة السورية القومية لأقوى من جميع عوارض الحدود السياسية!
إنّ التلبنن الوهمي الفاسد الذي يقول بإمكان إحداث هذه التجزئة هو تلبنن غريب عن طبيعة اللبنانيين السليمة التي لم تشوِّهها الثقافة السياسية الاستعمارية. وإنّ التغرير باللبنانيين العاملين في حقولهم ليتبعوا ها التلبنن الأجنبي الخطط هو عامل خطر على مصير اللبنانيين. إنّ الانعزال وتمكين المصالح الأجنبية من التحكم في موارد حياة اللبنانيين هو أدهى شر يصيب اللبنانيين فيطردهم من ديارهم، ويشردهم بين مختلف القارات. ولا يفيد اللبنانيين تأويل النايو رجعيين المتلبننين التشرد بالقول إنه “فتح للأمصار وتمدين للعالم”! إنّ الأم اللبنانية التي فقدت ابنها وراء البحار لا يعوّضها شيئاً هذا التلبنن، وإنّ الأب الذي يكدح عاملاً في الأرض وتهرب منه المواسم وترهقه الضرائب لا يجد جزاء خير في التلبنن الوهمي.
إنّ النايورجعية المتلبننة لم تكن أقل عجزاً عن مقاومة الحقيقة بالباطل من النايو رجعية المتعربة. ولإدراكها عجزها تلجأ هي، في حكمتها الكلية، إلى طلب محاربة الفكر وحرية الرأي والاعتقاد بالإرهاب! وهذه النايو رجعية عينها لا تفتأ تغش اللبنانيين بالتبجح بأنها تطالب بحريّة الفكر، وحرية الصحافة، وحرية القول، إلى آخر الحريات التي تعرف ألفاظها ولا تفقه معانيها!
وقد بلغت الحماقة ببعض الصحف النايو رجعية المتلببنة “الأرستوقراطية” اللغة أن تنسب “الخيانة العظمى” إلى اللبنانيين المستقلين عن عبودية الأرستوقراطية وعن الإرادات الأجنبية، الذين يعبّرون التعبير الحقيقي الحرّ عن إرادة اللبنانيين القومية ومذهبهم الاجتماعي!
كتّاب نايو رجعيون يحملون عار الكتابة بلغة الدولة التي احتلت جبال لبنان ودنّست أديم لبنان بسنابك خيلها واقدام سنغالييها وينشرون كتابتهم في صحف تحمل ذلك العار “القومي النايو رجعي” عينه، يتهمون الرجل الذي أطلق الوعي القومي في الشعب وحارب الاحتلال الأجنبي وكل إرادة أجنبية طامعة في الأمة السورية وبلادها “بالخيانة العظمى”!
تلك هي حقيقة النايورجعية وسنّتها ولن تجد لسنّة النايو رجعية تبديلاً!
إنّ مرتكبي الخيانة العظمى هم الذين لا يزالون حربة أجنبية مسمومة، مغروسة في قلب الأمة السورية، وإسفيناً أجنبياً في أساس الأمة السورية النفسي وفي أساس هذا الاستقلال!
إنّ بناء النفوس في الحقيقة السورية، في القومية السورية، ينقذ اللبنانيين خاصة، من شعوذة النايو رجعيين المتلبننين، وينقذ السوريين عامة، من شعوذة النايو رجعيين المتعربين وينهض بسورية وبالعالم العربي!
كل شيء، بيروت،
العدد 99، 18/2/1949