ضعف الإدراك من نقص العقل

رأينا في ما تقدم من هذا البحث أن مرمى التعاليم المناقبية المسيحية أبعد كثيراً من الحد الذي يبلغه التفكير والتعليم الانحطاطيان العاجزان عن إدراك قنن الفضائل، ولذلك كان من الصعب على النفوس القانعة بالتفكير والتعليم المذكورين أن تحاول إدراكه. وهذه الصعوبة لم يجدها صاحب الحارضة في تتبعه تعاليم المسيح فقط، بل وجدها في تتبعه تعاليم محمد أيضاً. ولذلك أغفل إغفالاً كلياً ذكر التعاليم الإسلامية التي تشترك مع التعاليم المسيحية وتكوّن قنة الروحية الإسلامية، فشواهده من الحديث النبوي كانت قليلة وضعيفة. والأرجح أنه ليس له اطّلاع في هذا الباب الواسع. أما القرآن فقد أغفله بالمرة والأرجح أنه في هذا الباب أحد الذين قال القرآن فيهم: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}1.


ولعل ما يهول رشيد الخوري وأمثاله، الذين فسدت نشأتهم واختطلت مثالبهم بمناقبهم فإذا هي شي واحد، من التعاليم المسيحية تشديد المسيح في وجوب كبح جماح الشهوات الحيوانية كما في معالجته حالة الطلاق والزنى. فالمسيح أراد أن يُظهر للمجتمع وخامة عاقبة الظلم الذي يأتيه الأفراد والفساد الذي يقترفونه، متسترين بحكم الشريعة القائلة إنه لا جُناح على من يطلّق امرأته بشرط أن يعطيها كتاب الطلاق. فصار الرجال المسترسلون إلى الشهوات وغير العابئين بالمضار التي تجلبها أعمالهم على المجتمع يستهونون ظلم النساء وتطليقهن لأي سبب من الأسباب البسيطة، فتتألم النساء ويحدث من وراء ذلك تفشي الفحش وتراخي الروابط العائلية التي هي أساس المجتمع. فعلّم المسيح بوجوب ترك تطليق النساء إلا العلة الزنى. وشرح تعليمه قائلاً: «من طلق امرأته إلا لعلة الزنى فقد جعلها زانية»2 ، أي أنه يرميها في التجربة ويحملها على الزنى. وقد لا يكون سبب تطليقها سوى حجة ضعيفة في الظاهر ورغبة باطنة في تزوج امرأة أخرى استزادة في التمتع الجسدي، من غير نظر في العواقب الاجتماعية وزيادة في استهلاك القوى الحيوية التي كان الأفضل أن تصرف في الشؤون العمرانية والثقافية.


إن هذا التعليم هو ارتقاء في التعليم التثقيفي المناقبي، وهو صعب على الذين نشأت نفسيتهم على الفساد، كما هو صعب القتال على الذين في قلوبهم مرض. والنفوس الضعيفة ترتد عن الأمور العالية الصعبة، ولكن النفوس الصحيحة تطلب دائماً الأسمى مهما يكن من أمر الصعوبات الحائلة دون بلوغه. وإذا كانت الأمم الراقية لا تفتأ تكثر بعثاتها على قمة جبل إفرست [Everest] في جبال هملايا وهي أعلى قمة في العالم، مع أن علوّ هذه القمة يفتك كل مرة بعدد من أفراد الحملة، ومع أن قمة الجبل ليست سوى قنة مادية كقنن الجبال الأخرى فكم هو أرفع قدراً وأسمى فخراً طلب أعلى القنن الروحية والمناقبية. فقول رشيد الخوري إن هذا التعليم المسيحي «يربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة» هو قول مبني على نظرة انحطاطية في شؤون الحياة. فهذا التعليم لا «يربط» الفطرة ولكنه يهذبها ويثقفها ويوجه قوتها نحو الأسمى. والرمح المثقف هو الأصح للحرب من الرمح الأعوج. وقصد الثقافة أو التربية هو دائماً تقويم الاعوجاج وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل. هكذا يشذب الكرّام السوري الكرمة فيقطع بعض فروعها ويطمر بعض الفروع الأخرى، فيكون من وراء هذا التشذيب والتثقيف أن مقداراً غير يسير من حيوية الكرمة يتحول من تغذية من فروع مسترسلة إلى فطرتها عديمة الجدوى إلى تغذية الفروع المثمرة، فتزداد غلة الكرمة أضعافاً. والرجل الذي يتحول مقدار غير يسير من حيويته عن تغذية الشهوات الفطرية إلى الأعمال المفيدة من ميكانيكية وصناعية زراعية وعلمية وأدبية وفنية واجتماعية واقتصادية لا يكون قد خسر قوته، بل تكون قد تحولت إلى الأنفع للمجتمع. ولا ننسَ أن المسيح تكلّم بناءً على أن كيان العائلة المعروف في سورية هو أساس المجتمع. وهذا الأساس العائلي السوري هو الذي عمّ المجتمع المتمدن، ففكرة العائلة هي في أساس فكرة المسيح في الزواج والطلاق والزنى.


وإذا رجعنا إلى الحلقات الأولى من هذا الدرس التي توضح لنا نفسية رشيد سليم الخوري وجدنا أن مثل هذا التعليم، سواء أكان يسوعياً أو محمدياً، لا يوافق نفسيته ومن هم على شاكلته. فرشيد الخوري بلغ من الحيوانية، في قصيدته التي يقول فيها: «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك»، مبلغاً يستهجنه أي فتى أو فتاة نشأ في بيئة متمدنة، فضلاً على أي رجل أو امرأة من بيئة راقية.


كل نفس تهذبت وحلّ فيها الشعور الإنساني محل الإحساس الحيواني لا تتمالك أن تقزّ من وصف رشيد الخوري لكيفية إكراه فتاة على «تجديد عهد صباه» واحتقاره شعور تلك الفتاة واستهزائه بها. وسواء أكانت الحادثة التي يصورها واقعية أو تصويرية فهي تدل على مثالب نفسية بالغة في الانحطاط. فإن الحيوانات على أنواعها لا تحتقر ذكورها إناثها ولا تعاملها على الكيفية التي تصورها لنا أبيات الخوري بقوله:
فرنوت مغضبة إليّ فصابني سهم فوا شوق الفؤاد لسهمك
يا نحلة دون الأزاهر هجتها من ذاق شهدك لم يخف من سمّك
لا بدع أن جددت لي عهد الصبا برضاك عني تارة وبرغمك
ولا بدع أن لا ترى النفسية الظاهرة في هذه الأبيات التعليم المسيحي إلا أنه قيد «يربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح». فلا شك أن العمل بالقاعدة أو العقيدة المناقبية المسيحية يربط الفطرة الجامحة غير المثقفة ويخنق الطموح الانحطاطي الشهواني المتدهور إلى ما دون الحيوانية.


وقد رأينا في الحلقتين السابقتين بطلان ادعاء الخوري أن التعاليم المسيحية تعلّم الخنوع والهوان والذل. ونضيف إلى ما تقدم، في هذا الصدد، هذا المذهب:
إن الذي يتساهل في حقوقه طوعاً، لا كرهاً لا يكون ذليلاً ولا يتعود الهوان، بل يكون عزيزاً كبير النفس. فالهوان يكون بالتسليم والإذعان المكره عليهما عن عجز وجبن. وليس هذا شأن المتسامح اختيارا وطوعاً من أجل غاية نبيلة.

فهذا يشعر أنه عفا عن مقدرة. لأنه كان في وسعه أن ينتقم أو أن يحاسب الظالم على ظلمه الجاهل. وإن في التسامح في الحقوق الفردية من أجل مبدأ اجتماعي عام من البطولة ما يفوق كثيراً ما في امتشاق الحسام لغضبة جاهلة.


ولكن المفكرين السطحيين لا يرون قوة هذا المبدأ وفلاح المجتمع العامل به، ولذلك يعزو رشيد الخوري التقدم العمراني عند الشعوب المسيحية إلى «مخالفة المسيحيين تعاليم الإنجيل وجريهم على السُنَّة الطبيعية التي أمر الشارع الإسلامي العظيم باتباعها». وهو يقول أيضاً:
«وليس تأخر المسلمين اليوم بناجم عن فساد في دينيهم يعوقهم عن التقدم بل عن تركهم نهجه السوي وتخلّقهم بما كان ينبغي أن يتخلّق به المسيحيون. فتقدم المسيحية اليوم وتأخر المسلمين هو نتيجة تبادلهما العقيدة، وعمل كل الملّتين بدين الأخرى إلى حد بعيد. المسيحي الغربي يجرّد سيف الرسول والمسلم الشرقي يرفع راية المسيح البيضاء ويحمل صليبه إلى الجلجلة، مباركا لاعنيه، محباً أعداءه، محسناً إلى الذين يسيئون إليه، يلطم على خده الأيسر فيحول الأيمن وجبينه وقذاله أيضاً ويسخّر للمشي ميلاً واحداً فيمشي عشرة على رجل واحدة تمادياً في الطاعة وسحق النفس».
هذه هي الزبدة المناقبية «للبحث الديني اسماً والاجتماعي فعلاً» التي استخرجها رشيد الخوري في حارضته، ليتخذها مستنداً لإثارة الفتنة الدينية وتحريض المتعصبين، ولمحاولة قتل العصبية القومية الآخذة في تأليف قلوب أبناء سورية ليكونوا مثالاً لغيرهم من الأمم التي أقعدها التعصب الديني المشؤوم عن طلب المجد القومي، فيتخلص منها رأساً إلى هذا القول الأثيم:
«أما ترون جمود المسلمين وقد قتل إخوانهم تقتيلاً ونكّل بهم تنكيلاً واستبيحت محارمهم وهتكت أعراض بنيهم وبناتهم وأخرجوا من ديارهم، ووهبت مقدساتهم ملكاً لشُذّاذ الآفاق من اليهود الذين هم أول وآخر من عادى نبيهم وآله وذريته؟، أفما أخلد المسلمون إلى أكثر من سكون المسيح وناموا على أشد من ضيمه وفاقوه في محبة أعدائهم فوالوهم على أهلهم وإخوانهم فتخاذلوا ففشلوا وذهبت ريحهم، وأطمعوا بهم صليبيــي هذا الزمان حتى لو خرقوا لهم حرمة الكعبة وحطموا الحجر وطمروا البئر ونسفوا عرفات وتصرفوا بأوراق المصحف وسطوا على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبعثروا عظامه، لما صعد الدم إلى رؤوسهم ولا حميت أنوفهم وقبعوا ملوكاً وأمراء ورعايا ساكتين كمن لم يعنِهم شي من الأمر».


هذا الكلام التعصبي الجاهل المثير الفتنة العمياء هو الغرض الأخير الكلي للحارضة التي سماها الخوري محاضرة، وللخطب التهييجية التي بدأها الخوري منذ بضع سنوات ومهد لها ببعض قصائده. كل ذلك ليقبض رشيد الخوري المال المتفق عليه مع بعض المؤسسات الدينية الإسلامية. على ما يستنتج من مقال لمدير (سورية الجديدة) الذي رد على بعض ترّهات الخوري حال ظهورها.


لولا انحطاط المستوى العلمي والثقافي العام عند عامة السوريين والسواد الأعظم من خاصتهم لما وجدنا حاجة بنا للنظر في هذا القول الهراء والبحث فيه بحثاً جدياً. فإن من أشد الأمور عناءً للعالم أن يضطر إلى مناقشة جاهل. فتجاه هذا الكلام البعيد كل البعد عن كل شرط من شروط العلم وشروط المحاضر والمحاضرة، كما بيّنا ذلك في الحلقة الثانية عشرة من هذا الدرس (الصفحة 78 أعلاه)، يكاد لا يقف منطق ولا تثبت حكمة ولا يصمد علم، لأنه كلام غرضه الفتنة المقصودة، لا العلم. وقد قالوا: «إذا أردت أن تفحم عالماً فأحضره جاهلاً». وفي ذلك قال محمد: «ويل لعالم أمر من جاهله». ولن كان لرشيد الخوري شي من العلم الصحيح بحديث النبي العربي وشي من فهم العالم لكان كفانا مؤونة هذا العناء.


لا يوجد في هذا الزمان صليبيون وهلاليون يقتتلون من أجل حيازة قبر المسيح ومكان ولادته، أو من أجل «خرق حرمة الكعبة وتحطيم الحجر وطمر البئر ونسف عرفات والتصرف بأوراق المصحف والسطو على قبر النبي»، كما يقول الخوري الدجال، بل يوجد أمم ناهضة وثّقت أواصر وحدتها القومية بالتعاليم المسيحية التي يشترك فيها الإسلام، وبحثت عن أسباب ترقية عمرانها لا عن أسباب نصرة دينها بالسيف. وهذه الأمم الناهضة لا تفرق في سعيها لعزها ومجدها بين مسلم ونصراني. وإن من درس الحروب الأخيرة وجد أنها كانت فيما بين أمم مسيحية أكثر كثيراً مما كانت بين أمم مسيحية وغير مسيحيية. فمنذ عهد الفتوحات الإسلامية التي ولدت الفتوحات الصليبية أخذ التفكير القومي يسيطر رويداً رويداً على مجرى حياة الشعوب وأخذ الناس يدركون أن فرض أحد الأديان على الناس بالقوة لا بد أن يجد حداً يقف عنده. ولقد امتدت الفتوحات الإسلامية إلى إسبانية وحدود فرنسة بقوة الاستمرار ولكنها انكسرت هناك واندحرت وتراجعت إلى إفريقية. وقد جرى ذلك للمسلمين وهم في إبان اعتزازهم «بسيف الرسول» وعملهم «بالنهج السوي لدينهم». فكيف حدث ذلك للمسلمين وهم آخذون بنهج السيف الذي يعدّه الخوري «نهج الإسلام السوي»؟


حدث اندحار المسلمين للسبب عينه الذي حدث به اندحار أمم ودول مسيحية أمام جيوش المسلمين الأولى. وهذا السبب هو ترك التعاليم المسيحية الصادق عليها من الإسلام الذي يقول هو أيضاً بها. ففي سورية مثلاً كان الفساد المناقبي الذي جرّه تسلط الروم على البلاد من أهم العوامل التي جعلت البلاد تسقط في يد الجيوش العربية الإسلامية. والدولة الرومية نفسها كان يضج فيها الفساد المناقبي ضجيجاً، فانتفى التساهل من بين الناس وكثرت الأحقاد والضغائن حتى بين قادة الجيش والرهبان والقسس، وانتشر الزنى الذي ولد الحفائظ، فاشتدت المنافسات وطلبت الأحقاد الانتقام بجميع الوسائل، حتى إنه ندر أن جرت معركة من المعارك الكبرى في سورية إلا وكانت الخيانات الانتقامية وعوامل الحقد والمزاحمة من الأسباب الرئيسية لاندحار الجيوش السورية والرومية أو الجيوش المسيحية أمام الجيوش العربية أو الجيوش الإسلامية.


إن ما نؤكده في ما تقدم ليس من باب التخرصات أو الرجم بالغيب، بل من فوائد مدونات التاريخ. فقد أثبت الواقدي، بالإسناد إلى الذين حضروا الوقائع من أبطال المسلمين، أن فتح بصرى كان بخيانة البطريق روماس ذي الأمر عليها فإنه خرج يطلب المبارزة مع أمير العرب فخرج إليه خالد بن الوليد فخاطبه روماس وأظهر ميله إلى خيانة جماعته فعرض عليه خالد الإسلام فأسلم، وبعد ذلك تظاهر خالد وروماس بالقتال ليخدعا الجيش السوري ــــ الرومي فلا يشك أحد في أمر روماس وبعد معركة النهار بين الجيشين خرج روماس متخفياً وجاء جيش المسلمين وطلب مقابلة خالد بن الوليد فأُخذ إليه فقال له: «أيها الأمير بعد أن فارقتك طردني قومي وقالواع الْزم قصرك وإلا قتلناك فلزمت قصري وهو ملاصق للوسر ولما وقع لهم ما وقع وانهزموا تحصنوا فلما جنّ الليل أمرت غلماني بحفر السور وفتحوا فيه باباً فأتيتك فأرسل معي من تعتمد عليه من أصحابك تستلمون المدينة»! فلما سمع خالد هذا الكلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذ مئة من المسلمين ويسير مع روماس، قال ضرار بن الأزور: «وكنت ممن دخل المدينة فلما صرنا في قصر روماس فتح لنا خزانة السلاح فلبسنا من سلاحهم وقسمنا أربعة أقسام، إلخ»1.


وكان فتح خالد بن الوليد لدمشق شبيهاً بفتحه بصرى. وقد ذكرنا في حلقة سابقة أن ذلك كان بخيانة قسيس يدعى يونس. ذكر الواقدي أنه: «لما كانت تلك الليلة (ليلة صلح دمشق مع أبي عبيدة) نقب يونس من داره وحفر موضعاً وخرج على حين غفلة من أهله وأولاده وقصد خالداً وحدثه أنه خرج من داره وحفر موضعاً وقال: «والآن أريد أماناً لي ولأهلي ولأولادي» فأخذ خالد عهده على ذلك وانفذ معه مئة رجل من المسلمين أكثرهم من حِميَر»2.


وإن أسوأ ما حدث من الخيانات بسبب الفساد المناقبي هو ما كان في معركة اليرموك في يوم التعوير، وإليك حكايته نقلاً عن الواقدي3:
«قال الواقدي رحمه الله تعالى:
«حدثني أبو عبيدة عن صفوان بن عمرو بن عبد الرحمن بن جبير أن أبا الجعيد كان رئيساً من رؤساء أهل حمص فلما اجتمعت الروم على المسلمين في اليرموك دخلوا على حمص ونزلوا في بلدة تسمّى الزراعة وكان أبو الجعيد هذا قد جعلها مسكنه لطيب هوائها ومائها وانتقل من حمص إليها. فنزل عسكر الروم على زارعة عنده وكان فيها عرس لأبي الجعيد وزوجته تزف إليه في تلك الليلة. قال فتكلف أبو الجعيد بضيافة الروم وأكرمهم وأطعمهم وسقاهم الخمر فلما فرغوا من أمورهم قالوا: هات امرأتك إلينا، فأبى ذلك وسبّهم فأبوا إلا أخذ العروس فلما شنّع عليهم بذلك عمدوا إلى العروس وأخذوها كرهاً منه وعبثوا بها بقية ليلتم (وعلى طريقة رشيد الخوري تركوها كالعقد النثير على الثرى).

فبكى أبو الجعيد من حزنه ودعا إليهم فقتلوا أولاده وكان له ولد من زوجة غيرها(!). قال فأقبلت أم الفتى فأخذت رأس ولدها في خمارها وأقبلت إلى مقدم ذلك الجيش ورمت الرأس إليه وشكت حالها وقالت: «انظر ما صنع أصحابك بولدي فخُذ بحقي» فلم يعبأ بكلامها. فقالت له أم الفتى: «والله لننصرن العرب عليكم» ورجعت وهي تدعو عليه فما كان إلا يسيراً حتى هلكوا في أيدي المسلمين. قال فلما كان يوم اليرموك بعدما قتل النسطور أتى أو الجعيد إلى عساكر المسلمين وقال لخالد: «اعلم أن هذا الجيش النازل بإزائكم جيش عظيم ولو سلّموا أنفسهم إليكم للقتل لما فرغتم من قتلهم إلا في المدة الطويلة فإن كدتهم لكم في هذه الليلة بمكيدة تظفرون بها عليهم ماذا تعطوني؟»، قالوا: نعطيك كذا وكذا ولا تؤدي جزية أنت وولدك وأهل بيتك ونكتب لك ذلك عهداً إلى آخر عقبك. فلما استوثق منهم لنفسه مضى إلى الروم وهم لا يعلمون وأتى إلى وادٍ عظيم مملوء ماء فأنزل الروم إلى جانبه وقال لهم: «إن هذا المنزل به العرب وأنا سأكيد لكم العرب بمكيدة يهلكون بها». قال رجل: «الناقوصة فيما بين الروم والعرب» ولم يعلم أحد ما عمقها فلما كان يوم التعوير وعلم أبو الجعيد أن النصر للعرب وأن العرب هم المنصورون(؟!) جاء أبو الجعيد إلى أبي عبيدة فوجده يطوف تلك الليلة هو وجماعة من المسلمين المهاجرين فقال لهم: «وما قعودكم؟» قالوا: «وما نصنع؟»، قال: «إذا كان ليلة غد فأكثروا من النيران». ثم رجع إلى الروم لينصب عليهم حيلة. فلما كانت الليلة الثانية أوقد المسلمون أكثر من عشرة آلاف نار فلما اشتعلت النيران أقبل إليهم أبو الجعيد فقالوا: «أشعلنا النيران كما أردت فما بعد ذلك؟» قال: «أريد منكم خمسمئة رجل من أبطالكم حتى أشير عليهم بما يصنعونن»، فاختاروا من المسلمين خمسمئة رجل من جملتهم ضرار بن الأزور وعياض ورافع وعبد الله بن يسر وعبد الله بن أوس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وغانم بن عبد الله ومثل هؤلاء السادات. فلما اجتمعوا سار بهم أبو الجعيد على غير المخاضة وقصد بهم عسكر الروم فلما كادوا يخالطونهم أخذ أبو الجعيد منهم رجالاً ودلهم على المخاضة، ولم يكن يعلم بها أحد سواه ممن سكن اليرموك، وقاعل لهم: «ناوشوهم الحرب ثم انهزموا ودعوني وإياهم»، ففعلوا ذلك وصاحوا فيهم وحملوا ثم انهزموا قدامهم نحو المخاضة. فعند ذلك صاح أبو الجعيد برفيع صوته: «يا معاشر الروم، دونكم ومن انهزم! فهؤلاء المسلمون قد أوقدوا نيرانهم وعولوا على الحرب»، قال: «فأقبلت الروم على حال عجلة يظنون أن ذلك حق، فبعضهم ركب جواده عرياناً وبيعضهم راجل وساروا في طلب المنهزمين وأبو الجعيد يعدو بين أيديهم إلى أن أوقفهم على الناقوصة وقال لهم: «هذه المخاضة دونكم وإياهم»، فأقبلوا يتساقطون في الماء تساقط الجراد حتى هلك في الماء ما لا يعد ولا يحصى عدداً ولا يدركه جنان، فسمتها العرب الناقوصة لنقص الروم (الجيوش السورية ــــ الرومية)».


هذه الرواية المأخوذة عن مصدر من أهم المصادر الإسلامية تظهر بجلاء أنه لم يكن ينقص المسيحيين نهج السيف، وأن فشلهم لم يكن بسبب تعاليم دينهم، بل على العكس، بسبب تركهم التعاليم المناقبية السامية التي اشترك فيها الإسلام مع المسيحية. فقد استظهرت الجيوش السورية ــــ الرومية على جيوش العرب في يوم اليرموك عدة مرات حتى ولّت هذه الأدبار ولم ترجع إلى الحرب إلا تحت عامل استغاثة نساء المسلمين، ولكن الفساد المناقبي الداخلي كان أفعل من جميع سيوف العرب في تقرير مصير معركة اليرموك.


إن أسباب سقوط سورية هي عينها أسباب سقوط إسبانية. وأسباب انتصار شارل مارتل [سنة 732م في موقعة تور] على الجيوش الإسلامية هي أن تعاليم المحبة والتساهل في الحقوق الفردية جعلت الجيش الفرنسي لذلك العهد يداً واحدة على الجيش الإسلامي. وأسباب اندحار المسلمين في ما بعد كانت عملاً بالاعتماد على السيف فقط وترك التعاليم الإسلامية التي هي من نوع روح التعاليم المسيحية. فلما ترك المسلمون التراحم بينهم وحكّموا السيف في كل من أمورهم انشقوا وتخاذلوا، ولم يكن تخاذلهم وحده سبب سقوطهم، إذ هنال سبب مبدأي آخر وهو أن فرض العقائد بالقوة له حد يقف عنده وأن أفضل الطرائق لنشر العائد بين الشعوب المتمدنة هو الإقناع بصحتها وليس الإكراه عليها.
وإن أسباب جمود أمم العالم العربي حتى الأمس لم تكن عائدة إلى ترك السيف، بل إلى ترك تعاليم المحبة والتساهل والدفع بالتي هي أحسن وعمل المسلمين ببعض الآيات من كتابهم وترك العمل بالآيات الأخرى. فإن بعض الذين لا يتدبرون القرآن من المسلمين لا يفتأون يحرضون الغوغاء بمثل هذه الآيات القرآنية: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين}1 … {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق (الإسلام) من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}2 . {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسَّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم}3 . {يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال}4. {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}5 . فنسي المسلمون الآيات الأخرى المتفقة مع التعاليم المسيحية كهذه الآيات: {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون}6 .. {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}7 . {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}8.


فلو عمل المسلمون بروح هذه الآيات المكية التي نزلت في جو جهاد روحي غير مضطرب بجهاد السيف والغزو، يتفق مع سير العمل الفكري الروحي بين الأمم المتمدنة لوجدت الأمم العربية اليوم متحدة كل منها في داخلها اتحاداً قومياً متيناً لا مجال فيه للأحقاد والضغائن والمفاسد التي تجرها والويلات التي تجلبها.


وإذا كان الإسلام قد اتخذ السيف وسيلة لنشر الرسالة في العُربة حيث مجال الفكر أضيق من سُمّ الخياط1 ، فهو لم يجعل السيف غرضه. وأعظم نجاح أصاب المسلمين، حين كانت الجامعة الدينية أقوى جامعة، كان حين نفى المسلمون السيف من بينهم وعملوا بالتعاليم المسيحية التي جاء النبي مصدّقاً لها بآيات كهذه الآية: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم رُكّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل}2. فالتراحم الداخلي هو أساس كل مجتمع يريد ألا يخرب وهذا هو التعليم المسيحي الكلي. فالمسيح علّم المحبة لمنع الانقسام، لأن «كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب وكل بيت ينقسم على ذاته يسقط»3 . والتعليم المحمدي لم يحد قيد شعرة عن التعليم اليسوعي، فسيف محمد كان لتعزيز العقيدة وهذه هي الطريقة المسيحية عينها، فالمسيح قال: «إني جئت لألقي ناراً على الأرض وما أريد إلا اضطرامها. ولي صبغة أصطبغ بها وما أشد تضايقي حتى تتم. أتظنون أني جئت لألقي على الأرض سلاماً. أقول لكم كلا بل شقاقاً (سيفاً)»4 . فالمسيح قال بوجوب الجهاد في سبيل العقيدة ولكنه خاطب أبناء بيئته بلغتهم فالسيف الذي جاء ليلقيه هو سيف العقيدة الروحي. وهذا واضح من قوله مردفاً: «فإنه من الآن سيكون خمسة في بيت واحد يشاق ثلاثة منهم اثنين واثنان ثلاثة يشاق الأب الابن والابن الأب والأم البنت والبنت الأم والحماة كنتها والكنة حماتها»5 ، وهذا الشقاق هو عراك فكري في سبيل الإقناع وليس قتالاً بالسيف والرمح. ذلك أن العراك الفكري هو الأكثر انطباقاً على الأمم المتمدنة كسورية.

أما في بلاد العرب فالعراك الفكري في الأمور العقائدية لا سبيل إليه ولذلك لم يكن بد من الالتجاء إلى القتال بالسيف والرمح. والآيات القرآنية توافق هذا المذهب. ومنها ما سبق إثباته في هذا البحث ومنها في القرآن كثير كهذه الآية: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم}6. وإذا رجعنا إلى سورة الفتح7 التي أخذنا منها الآية القائلة: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} وجدنا أن الآيات الأخر تثبت أن طبيعة البيئة هي التي أوجبت هذه الحزبية الدينية الشديدة. فهنالك الآية: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شي عليماً}1 فميّز القرآن حالة الحمية والشراسة وجعل السكينة للمؤمنين فيما بينهم مقابل الحمية عند الجاهلين ولكنه عاد فقال بالشدة على الكفار، أي بمقابلتهم بمثل شدتهم ولكن يجب ترك الشدة وإبدال الرحمة بها بين المؤمنين.


بناءً عليه يصح القول إن جمود الشعوب الإسلامية أو التي سوادها المسلمون ليس عائداً إلى عدم الأخذ بالسيف، بل إلى سبب ترك تعاليم التساهل والتراحم، وإلى تشبث سواد المتعصبين فيها بالحزبية الدينية على طراز حزبية العُربة، حزبية القتال والتباغض، وإلى عدم فهم تعاليم الإسلام الروحية التي تتفق كل الاتفاق مع تعاليم المسيحية وإلى عدم إدراك عدد كبير من متعهدي المسلمين في الشعوب المتمدنة أن تقدم الإسلام في البيئات المتمدنة يكون بالقوة الفكرية والناحية الروحية أكثر مما يكون بقوة السيف والناحية المادية.


إن الخبير المتبصر في أسباب نهوض أمم وسقوط أمم يدرك أن فلاح الأمم المسيحية الأوروبية والأميركية هو نتيجة العمل بتعاليم التساهل والمحبة التي قال بها المسيح، وأيدها الإسلام في القرآن والحديث، وليس بترك هذه التعاليم العمل بالقسم المختص بالبيئة العربية من التعاليم الإسلامية، الذي إذا درسناه درساً وافياً اتضح لنا أنه مختص بما يجب على المسلمين من العرب تجاه بقية العرب غير المسلمين الذين يناوئون المسلمين مناوأة جماعة لجماعة.


ويجب أن يكون واضحاً كل الوضوح أن قصد التعاليم المسيحية هو رفع المناقب الفردية والعائلية، فالتساهل الذي علّمه المسيح قصد به الأفراد لسلامة المجتمع وفلاحه، ولم يقصد به أن يتنازل المجتمع، أي مجتمع، عن حقوقه السياسية والاقتصادية والروحية، لأن هذا التنازل يكون معناه سقوط المجتمع، لا قيامه، والمسيح أراد قيام المجتمع، لا سقوطه.


لذلك لا يصح مطلقاً نسبة الاستكانة القومية إلى المسيحيين وتعاليم المسيح، كما يريد رشيد الخوري أن يفهم الناس.
أما تخصيصه المسلمين في أمر اليهود فمن أشد اللؤم في الدسّ وإثارة الفتن، فليست مقدسات المسلمين وحدا هي التي وهبت لشُذّاذ الآفاق من اليهود، بل مقدسات المسيحيين أيضاً، ولم يكن نبي المسلمين أول من عاداه اليهود ولا آخر من عادوه، فهم قد عادوا قبله المسيح واضطهدوه وصلبوه وحاربوا أتباعه، والمسألة الفلسطينية ليست مسألة إسلام ويهود، بل مسألة قومية من الطراز الأول يشترك فيها السوريون المسلمون والمسيحيون.
هاني بعل
للبحث استئناف

(الزوبعة)، بوينُس آيرس

العدد (26)، 15/8/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى