حق الصراع هو حق التقدم

الإنترناسيونية الشيوعية الروسية والعالمية الأميركانية ومنظمة الأمم المتحدة ومؤسستها الثقافية (الأونسكو) والمؤتمر الثقافي العالمي والجمعيات الدينية بأشكال عديدة ـ جميع هذه المؤسسات تريد، في الظاهر، وحدة إنسانية وسلاماً عالمياً دائماً.

اقول في الظاهر وأكتب الكلمة بالحبر الأسود كي لا تفوت القارىء أهمية المغزى المقصود منها.

إنّ جميع الأمور السياسية لها ظاهر ولها باطن، وفن الظاهر والباطن هو فن الدبلوماسية. فلا دبلوماسية بلا ظاهر وباطن. ولا بدّ لنا، في معالجتنا هذا الموضوع الدبلوماسي الدقيق، من محاولة اكتشاف الباطن بالاستدلال من الظاهر ومن معرفة الأسباب والحاجات والمقاصد.

ماذا تعني: الوحدة الإنسانية والسلام العالمي الدائم”؟

إنهما يعنيان الاستسلام للأمر المفعول والقناعة بالحالة الراهنة وعدم محاولة الانتقاض على شيء مما لم يكن إلا بإرادة أوصلت ما لم يكن إلى ما هو كائن في حلته الحاضرة وعدم تطلّب ماهو في حالته الحاضرة تغيير هذه الحالة. أما هذه الحالة فتعني تقدماً وغنى وسطوة لأمم معينة كانت صغيرة في البدء ثم نمت وكبرت بفاعلية النمو وعزيمة الصراع، وهي تعني تقهقراً لأمم معينة، كالأمة السورية، كانت عظيمة في البدء بفاعلية النمو وعزيمة الصراع إلى أن كان ذات يوم غُلبت على أمرها وفقدت سيادتها وتحكمت بمصيرها الإرادات الغريبة واستولت على مواردها وإمكانياتها.

لا تعني الوحدة الإنسانية وحدة حقيقية لجميع الناس وتساوياً تامّاً في التمتع بموارد الخير وفي توزيع الموارد الأولية الموجودة في الأرض على جميع الناس بالتساوي، ولا تعني صيرورة الناس أمة واحدة في وحدة الحياة والشعور والنظر إلى الحياة.

لا تعني وحدة الحركة العمالية الطبقية الشيوعية في العالم، أنّ العمال السوريين ستكون لهم حالة مساواة في الحياة والمعاشرة والمنزلة والنتائج مع العمال الروسيين والفرنسيين والإنكليز وغيرهم، فخصائص الشعوب ونفسياتها لا تزول بمجرّد فكرة سياسية أو اقتصادية.

ولا تعني العالمية الأميركانية أنّ الأميركان مستعدون لمقاسمة جميع الشعوب الفقيرة خيرات بلادهم.

ولا تعني “الأونسكو” والمؤتمر الثقافي العالمي” غير دعوة كل فئة إلى سلام تسيطر عليه الأمة الأقوى فيها وتضبط بواسطته حالة جميع الأمم وتحافظ على سيطرتها وما تعنيه سيطرتها من امتيازات لشعبها ومن خير يمكنه أن يُلقي لفُتاته إلى بقية الشعوب.

إنّ الأمم التي هي اليوم أمم قوية كبيرة لم تكن كذلك من أول وجودها بل صارت بجهادها وتغلبها على الصعوبات وبالظروف المؤاتية والفرص السانحة وبسعادة الحظ أحياناً وبالحروب الاستعمارية، وبالثورة الصناعية والاقنصاد القومي. فهل يجب أن يقف التطور عن فعله وأن يجمد العالم عند الحد الذي تريده الأمم والدول العظمى؟ وهل يجب أن تُحرَم الأمم الثقافية التي كانت عظيمة في الماضي كالأمة السورية من العودة إلى عظمتها من أجل المحافظة على السلام الذي ينعم بخيراته غيرها وتشقى بحرمانها هي من الخيرات التي هي حقها وجزاء انتصارها؟

إنّ الاستسلام لفكرة الوحدة العالمية والسلام العالمي الدائم يعني التنازل عن الصراع والحرية وعن الانتصار والحق. والأمة التي تتنازل عن الصراع تتنازل عن الحرية، لأنّ الحرية صراع!

إنّ النهضة القومية الاجتماعية لا ترفض السلام العالمي الدائم بعد أن تكون حققت انتصاراتها العظمى التي تجعل للأمة السورية مرتبة ممتازة في السلام وفي حقوق السلام. أما السلام العالمي بعد تجريد الأمة السورية من حقوقها القومية في كيليكية والإسكندرونة وفلسطين وسيناء وقبرص وبعد تجريدها من مواردها الطبيعية، فماذا يعني لها غير الذل والفقر والفناء؟

في سنة 1937 كتبت مقالاً عنوانه “شق الطريق لتحيا سورية”، قلت فيه: “ليس أفضل من تنازل بعض الأمم عن حقوقها في الحياة من أجل إقامة سلام دائم وسورية القومية الاجتماعية ترفض أن تكون من هذا البعض”! (أنظر ج 2 ص 124).

تنتشر في بلادنا فئات أجنبية عديدة تُنشىء المؤسسات العلمية والتبشيرية، ولا همّ لها إلا أن تعلّمنا محبة السلام وكره قوميتنا وخوف الحرب، كأننا نحن نهدد السلام بمعداتنا الحربية وجيوشنا الضخمة واختراعاتنا التدميرية.

إنّ هذه الأمة تكاد تختنق من خمول السلام وسلام الخمول وتكاد تتلاشى!

إننا لا نريد الاعتداء على أحد، ولكننا نأبى أن نكون طعاماً لأمم أخرى. إننا نريد حقوقنا كاملة، ونريد مساواتنا مع المصارعين، لنشترك في إقامة السلام الذي نرضى به.

إنّ الحركة القومية الاجتماعية هي حركة صراع وتقدم لا حركة استسلام وقناعة. إنها ليست مستعدة للتنازل، بل للانتصار.

حق الصراع هو حق التقدم، فلسنا بمتنازلين عن هذا الحق للذين يبشروننا بالسلام ويهيئون الحرب!

كل شيء، بيروت،

العدد 107، 15/4/1949

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى