إعلان وإيضاح [العلاقة مع جبران مسوح]
في عدد سابق، غير بعيد العهد، من الزوبعة صدر مقال بعنوان “جيلنا الحاضر”، (ص 30 أعلاه) أثينا فيه باعتبارات في حالة الجيل السوري الحاضر وقواعد تفكيره وتصرّفه. وقد عرض المقال المذكور لحادث جديد لم يشك المطلعون أنه حادث افتراق جبران مسوح عن عائلته لأسباب ظاهرها مقاومة عائلة جبران مسوح له “لانعكافه على الحزب السوري القومي وإسرافه في البذل له”. وقد كان الزعيم مقتنعاً بأن غيرة جبران على الحزب وارتداد عائلته عنه هما السبب في الشقاق بينه وبين عائلته، ولذلك دافع عنه تجاه عائلته دفاعاً قويًّا أنتج عداوة زوجة جبران مسوح وأولاده للزعيم. وإجابة لتحبيذ جبران مسوح وغيره من الرفقاء انتقل الزعيم إلى توكومان على أن يباشر عملاً صناعيًّا أو تجاريًّا يؤمن له مركزه الاقتصادي ويكون نتاجه مساعداً على تغذية النهضة القومية الإصلاحية وسد بعض حاجاتها المادية. وكان هنالك مشروع صناعي رأى الزعيم إمكان
استثماره للغاية المذكورة، ولكن الدرس الذى أجراه له أظهر بطلان “الاختراع” الذي ادّعاه من تقدم به إليه، وتجاه هذه الحقيقة أراد للزعيم العدول عن الانتقال إلى توكومان، إلا أنّ جبران مسوح الذي كان حظي بمنزلة سامية عنده، رغّبه في إتمام الانتقال وعرض عليه الاشتراك في إنشاء محل تجاري لأصناف الورق، عارضاً على الزعيم خبرته التجارية في هذا النوع. فانتقل الزعيم إلى توكومان لهذا السبب ولما لم يتحقق المشروع الصناعي عقد شركة تجارية مع جبران مسوح، يقدّم فيها الزعيم كل الرأسمال من قرض عقده مع إبن حميه السيد جورج المير ويقدّم جبران مسوح خبرته وعمله. ومع أنّ جبران مسوح لم يدخل الشركة برأسمال فإن الزعيم، نظراً لثقته الكبيرة به جعله مساوياً له في حق استعمال إسم اشركة وتسلّم أموالها، ووافقه على الإقامة في المحل التجاري عينه، ووضع الزعيم وزوجته عناية كبيرة ومجهوداً شديداً في تنمية المحل وإيجاد منزلة محترمة له، وتجوّل الزعيم بنفسه في المدينة لشق الطريق للمحل وكسب زبائن له، وقام جبران مسوح على المستعرض (المسترادور) وحركة الصندوق.
لم تمرّ أسابيع قليلة حتى تبيّن أن المحادثات والمجادلاتت والتصرفات العديدة أنّ لجبران مسوح خطة أو غاية أو فكرة خصوصية في صدد المنشأة التجارية المذكورة. وبعض تصرفاته المثبتة بوثائق دلّت على شذوذ غريب عن جميع القواعد المرعية. من ذلك وضعه مال الشركة باسمه الخاص في مصرف “كمرسيال” من غير استشارة زعيمه وشريكه صاحب الرأسمال، والمثابرة على أخذ كل كمية متجمعة ووضعها باسمه الخاص ولحسابه في المصرف المذكور. ثم استفحال حسابه في البنك المفتوح بمال الشركة الذي لا يخصه شيء منه، حسب نص العقد، إلا ما يصب من الأرباح، لإجراء معاملات مالية مستثمرة لمصلحة المدعوة نبيهة الشيخ أنطكلي ودفع حسابات مالية عنها لبعض التجار الذين تتعامل معهم تلك المرأة، كما تثبت ذلك السندات التي تمكّن من قطعها قبل أن يوقف الزعيم ذاك العمل الخارج على الأصول والمعرّض حقوق صاحب الرأسمال وصاحب الشركة للتلاعب.
تجاه هذه الحالة الغريبة وتصرفات جبران مسوح الشاذة رأى الزعيم أنه لا بد من إجراء تقويم سريع لمعرفة حالة المحل، وتقرير النهج الذي يجب التعويل عليه، وكانت قرينته في زيارة لعائلتها في بوينس آيرس، فصبر الزعيم إلى أن عادت زوجته وحال عودتها قرر إجراء التقويم خلافاً لاقتراح جبران مسوح أن يذهب (مسوح) إلى بوينس آيرس أو خوخوري. فإن الزعيم أراد الوقوف على حقيقة سير المحل قبل أن يتحرك جبران إلى جهة ما.
إبتدىء التقويم على كره من جبران وفي ختامه تبيّن أنه لا أثر للربح، مع أنّ البيع كان جيداً ومعدل الربح بين خمسة عشر وعشرين بالمئة. وليس ذلك فقط بل ظهرعجز في الموازنة. ولما تعيّن مبلغ العجز تعييناً أوليًّا تقريباً، وسأل الزعيم جبران مسوح عن سبب العجز وكيفية حدوثه وما تعليله، قال إنه لا يعرف وإنه قد استأجر غرفة خارج المحل لينتقل إليها، وإنه يريد الانسحاب. فلما رأى الزعيم تهرّب جبران مسوح وعدم فائدة الجدل معه، طلب منه تقرير ما يريد حمله من الخسارة، فقال إنه لا ما له ولا يقدر أن يحمل شيئاً من الخسارة إلا إذا ترك الزعيم المحل التجاري له فهو حينئذٍ “يتحمل الخسارة كلها” على طريقة أن يأخذ الزعيم بمبلغ رأسماله بضاعة ويذهب يبحث عن مكان جديد يستأجره، ويسعى لفتح حسابات جديدة مع المحلات، وينتظر قدوم البضاعة ثم يسعى لجمع زبائن جدد، وهذا يعني أن يكون رأسمال الزعيم وأتعابه وأتعاب زوجته لم يكن لها نتيجة غير خسارة الوقت والنفقات في تأسيس محل يتسلمه جبران مسوح وبعد ذلك فليدبّر الزعيم شأن عائلته!
وجد الزعيم أنه بين إحدى مصيبتين: إما ان يتحمل كل خسارة العجز غير المبرر ويستقل بالمحل وإما أن يخسر المحل ويتحمل إعداد أمر وتصريف بضاعة بمبلغ رأسماله! وصار جبران مسوح يقول للزعيم “لنترك مسألة القضية والزعامة على حدة ولنتكلم تاجراً لتاجر”! كأن الزعيم كان يقصد مشاركة جبران مسوح بهذه
الطريقة وهو بعيد الاحتمال لأنه لو شاء للزعيم أن يكون اشتراكه وجبران مسوح تجاريًّا بحيث يصرف النظر عن مبادىء الحياة القومية ومناقبها وأخلاقها، التي كان جبران مسوح يتظاهر بالغيرة الشديدة عليها ويؤنب كل من يخالف توجيهات الزعيم فيها، لما كان سمح لجبران مسوح بحق استعمال إسم الشركة المؤسسة برأسماله وحده ولا كان سمح له بتسلم الأموال ولا بالوقوف على الصندوق ولا شيء من المسؤوليات الكبرى التي يجب أن تبقى من حق صاحب الرأسمال وحده.
لما رأى الزعيم أنّ جبران مسوح لا يتزحزح عن موقفه اختار أولاً أن يترك المحل ويسحب بمبلغ رأسماله بضاعة متخلياً عن جميع أتعابه ونفقاته وخسائره الأخرى. ولكنه أظهر لجبران مسوح أنا هذه معاملة خسيسة، وأنه سيكون مضطراً للتعرض لضياع وقت جديد ونفقات وخسائر أخرى لتأسيس محل آخر فأجابه “الكاتب الكبير” جبران مسوح: “ولكنك قد صرت تعرف الأصناف واكتسبت خبرة” أي أنه استعمل مع زعيمه ذات اللغة التي كان هو يصوّر قباحتها في كتاباته ليسلّي الناس ويرضيهم ويتظاهر بأنه من رجال روحية العهد الجديد.
أما جبران مسوح فقد انكشفت حقيقة أمره في خلافه مع أهله. إنّ ذاك الخلاف لم يكن من أجل الزعيم والقضية كما كان جبران مسوح يوهم. والآن يدرك أهل جبران مسوح أنّ تبذيره من إبنه من محل ابنه أمين لم يكن في سبيل القضية القومية، وما كان أمر القضية القومية في الخلاف المذكور سوى ستار جميل لأغراض ابتدأت تنجلي.
بعد خلاف جبران مسوح وأهله أمضى وإبنه أمين عقداً يعترف فيه أن لا حقوق له في محل إبنه، ويتعهد إبنه بتقديم معاش شهري له مبلغه مئة وخمسون فاس. وهو مبلغ لا بأس به لرجل بلغ سن جبران مسوح. ولكن جبران مسوح كان يرى هذا المبلغ زهيداً غير كاف لأن له مطاليب ولذائذ في العيش لا يكفي لها هذا المبلغ. ولذلك وصل إلى أن يفكر في استخدام رأسمال زعيمه لتأسيس محل لنفسه يسد به حاجته إلى أكثر من 150 فاس شهريًّا، ولذلك قال لزعيمه: إما أن تخسر وحدك العجز الذي وقع على المحل على المحل (ليتسنى لجبران تحقيق خطة تجارية أخرى) وإما أن تترك لي المحل وأنا أدبّر خسارته”.
هنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال:
ما هي حاجة جبران مسوح إلى أكثر من المعاش الجيد الذي خصصه له إبنه أمين؟
منذ مدة والناس يتهامسون بعلاقات غرامية لجبران مسوح بامرأة ما، وبعض الرفقاء كانوا على علم بهذه الشائعات، ولكن لم يخبر أحد منهم الزعيم بها، والزعيم لا يختلط بالجماعات ولا يبحث عن مثل هذه الأمور فبقي جاهلا حالة جبران مسوح وظانًّا أن كل خلافه مع أهله ناتج عن جعل محل إبنه يدفع ثمن بضع كدسات ورق (رزم) ل الزوبعة وكتاب الصراع الفكري. ولذلك شدد الزعيم النكير على عانلة جبران وأدّى الأمر إلى عداوة شديدة بينه وبين أفراد عائلة رفيقه “المخلص المتفاني” جبران ودافع في جميع المواقف عن جبران ضد عائلته. ولكن الآن انكشفت الحقيقة كلها.
فجبران مسوح ساعد العمل الحزبي مساعدات مادية ليست ذات بال، وقد بالغ الزعيم في إكرامه وتقديره ليس على نسبة تأدياته المادية بل على نسبة ما كان يظنه فيه من صفاء الطوية والتفاني في سبيل الزعيم والقضية التي أوجدها، بناءً على ما صرّح به جبران مسوح في عدة مواقف. ومن جملة أقوال جبران مسوح في هذا الصدد “قلت لعائلتي: الزعيم والقضية قبلكم”. ولكن لما صارت قضية الزعيم تعترض رغبة جبران في الوصول إلى موارد مالية بأية طريقة كانت حتى ولو كانت بتسخير الزعيم وزوجته، التي سهرت على إنقاذ حياته من الموت، ورأسمال الزعيم، لم يجد جبران بدًّا من إسقاط قضية الزعيم والقول له: لنتكلم تاجراً لتاجر!!
عندما انفضح أمر جبران مسوح مع الزعيم، ابتدأت تظهر أدلة تلو أدلة على أنّ جبران مسوح لم يكن مخلصاً في ادعائه الخلاف مع أهله من أجل الزعيم والقضية القومية، وأنّ مسألة القضية لم تكن سوى ستار لإخفاء حقيقة أسباب خلافه وعائلته، وأمر تبذيره السابق من محل إبنه لم يكن مقتصراً على دفع ثمن بضع كدسات ورق بل متناولاً كميات أخرى كان يظن خطأ أنها كانت تذهب إلى الحزب، والحقيقة أنها كانت تنفق على “جهل الكبر”.
وجاءت مسألة وضع مال الشركة باسمه الخاص في مصرف، وجعل حسابه في المصرف واسطة لقضاء أشغال امرأة وغير ذلك من الحوادث العديدة التي برهنت على أنّ قلب جبران على غير القضية أولاً.
جميع هذه الأسباب جعلت جبران مسوح يفقد حقوقه المدنية والسياسية في الحركة السورية القومية ويسقط من مصاف العاملين بروحيتها ومناقبها.
لا يوجد مجرم يحكم عليه إلا ويجد القاضي مخطئاً ظالماً ويجد جرائمه مبررة. ومن كبار المجرمين نوع يعرف كيف يتظاهر بأنه ضحية. ومنهم من يقبل الأحكام القاسية بصمت يدل على “كبر”. ومهما يكن من أمر موقف جبران مسوح في هذا الصدد فإنه يؤسفنا أن تكون هذه نهايته.
وبهذه المناسبة لا بد من تكرار القول: إنّ نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في الحياة قبل كل شيء آخر. وجميع أساليب الكلام الجميل أن تسد فراغ منقبة واحدة من هده المناقب الصافية التي بها تبني الأمم عظمتها. أما المثالب فمهما كانت شديدة الحيلة والتستر ومهما بالغت في الهرب من الإثباتات فلا نتيجة لها غير التدمير.
كنا نود أن يكون سقوط جبران مسوح غير هذا السقوط، فإن من السقوط ما هو مجيد ومنه ما هو حقير!
الزوبعة، بوينس آيرس،
العدد 82، 4/11/1944