الاحتفال بمولد الزعيم في بيونس آيرس
عندما انتصف شهر فبراير/شباط الماضي استفاق القوميون في هذه المدينة استفاقة واحدة كأن تياراً كهربائياً هزّهم وأدركوا أنه لم يبقَ لحلو أول مارس/آذار سوى أيام قلائل.
فاجتمعوا وألّفوا لجنة منهم تأخذ على عاتقها تهيئة الاحتفال بهذا العيد القومي.
وقرروا، نظراً لحوادث الفوضى التي حدثت على أثر الاحتفال الذي جرى سنة 1940، وشوهت التأثير الجميل الذي حصل في المأدبة الفخمة التي أقيمت على شرف الزعيم، الاقتصار على القوميين في الاحتفال هذه السنة، منعاً لتسرّب بعض العناصر الفاسدة إلى اللجان ولحركاتها الاستغلالية.
ودخل في هذا القرار جعل الاحتفال في عشاء أول مارس/آذار، بدلاً من الليل، لأنه يوم أحد وهو، في الوقت نفسه، اليوم الذي تجري فيه الانتخابات العامة لمجالس الجمهورية الأرجنتينية وكان يُخشى أن تحدث في الليل حوادث شجار بين بعض الأحزاب المتزاحمة.
بعد تأليف اللجنة اجتمعت هذه ووضعت منهاجاً لعملها.
وكان أول ما قامت به أنها توجهت إلى مكتب الزعيم حيث قابلته ونقلت إليه رغبة القوميين وما تقرر في الاجتماع الذي عقدوه خصيصاً لبحث الاحتفال المذكور وسألته قبول المأدبة.
فنزل الزعيم عند رغبة القوميين.
فشكرت اللجنة لمعاليه ثقته وتشجيعه وانصرفت على أن تسعى لإعداد ما يلزم لليوم المنتظر القريب.
وكان من تحدُّث القوميين عن يوم أول مارس/آذار والاحتفال الذي سيجري فيه أنّ خبر المأدبة اتصل بعدد من الأصدقاء والمحبذين الذين أبدوا رغبة في الانضمام إلى المعيّدين والاشتراك في الاحتفال فقُبل طلبهم وكان ذلك مشجعاً لبعض الرفقاء الذين رأوا استئذان اللجنة بتمديد الدعوة إلى بعض الأصدقاء المحبذين فكان لهم ما رغبوا.
ومع أنّ الفصل، في هذا النصف الجنوبي، هو فصل الصيف الذي يهجر فيه المدينة قسم كبير من رجال الجالية وعائلاتهم، فما بلغت الساعة السادسة من يوم الأحد الواقع في أول مارس/آذار، حتى أخذ المحتفلون، من سيدات ورجال، يتقاطرون إلى مكان الاحتفال في القاعة الخاصة بالاحتفالات في «كافيتريا أميركا». ونحو الساعة السابعة (الساعة الصيفية) وصل الزعيم وقرينته في سيارة أحد الرفقاء فاستقبلته لجنة خاصة عند المدخل ولما بلغ البهو نهض الجمهور وتقدم الأدباء والوجوه للسلام عليه وبينهم عدد من السيدات اللواتي يزيّنّ مجتمعات الجالية.
وبعد السلام اتخذ الزعيم مجلساً وأحاط به عدد غير قليل من الحضور يستمعون إلى حديثه. ثم نهض الزعيم والجمع تلبية لدعوة مدير الاحتفال إلى المائدة الواسعة واتخذ كل واحد مركزه المعدّ له عليها.
عندما جاء دور الأنخاب نهض مدير الاحتفال من أعضاء اللجنة فقدم المأدبة باسم الرفقاء والمحبذين الذين أبوا إلا مشاركة القوميين لأنهم يعدّون أنفسهم قوميين مثلهم بالعقيدة وإن كانت ظروف معيّنة حكمت عليهم بالبقاء حتى الآن خارج النظام.
وعرض المتكلم لصفة الاحتفال واقتصاره على القوميين حتى أنّ اللجنة لم تنشر شيئاً في الصحف ولم توجه دعوة عامة إلى المؤسسات وجميع الأوساط في العاصمة والداخلية.
ثم تلا المتكلم نصوص البرقيات العديدة التي وردت إلى الزعيم من فروع الحزب السوري القومي في المكسيك والولايات المتحدة والبرازيل وإفريقيا وجزائر النار ومن أوساط القوميين والمحبذين في الداخلية وهي من رفقاء توكومان، ورفقاء سانتياغو دل أستيرو ورفقاء كوردية ومن السادة عبود سعاده سعاده وأولاده في كوردبة ومن رفقهاء فرقمينه ومن رفقاء ومحبذي سان خان ومن رفقاء تشيلي.
وبعد ذلك أخرج خطاباً أرسله الرفيق جبران مسوح خصيصاً لهذا الاحتفال فتلاه فقوطع بتصفيق حاد والقارىء يجد خطاب الرفيق مسوح في مكانه من هذا العدد.
قدّم المدير، على الأثر، الرفيق إبراهيم أفيوني الذي تلا كلمة جيدة يجد القارىء خلاصتها في مكان آخر.
ثم عاد المدير فتلا قصيدة من نظم الشاعر كامل فضول المعروف بشاعر الميماس الذي منعه من إلقائها بنفسه مانع من أسنانه أو حلقه فقوبلت القصيدة بتصفيق كثير.
على الأثر قدّم المدير الرفيق سليم خبّاز الذي ألقى خطاباً جامعاً تخلل إلقاءه تصفيق شديد. والخطاب موجود في مكان من هذا العدد.
وشرب نخب الزعيم. وبعده وقف مدير الحفلة فألقى خطاباً مجّد فيه مولد الزعيم وأظهر عظمته وشرب نخب الزعيم. وكان ذلك ختام الخطب من جانب المحتفين.
فاتجهت الأنظار إلى الزعيم فنهض فوقف الجمهور كله احتراماً.
فقال إنّ هذا الاحتفال الذي وجّهه القوميون والمحبذون إلى شخصه قد أحيا في نفسه صور المظاهر التي كان يشترك فيها مع القوميين في الوطن، خصوصاً معاونيه في مجلس العمد والمجلس الأعلى، الذين يطلب من جميع الحاضرين مرافقته في الاتجاه بالنفس نحو الوطن وفي تذكّر العمل العظيم الذي قام به أولئك الأركان بثباتهم في مراكزهم التي عيّنها لهم الزعيم ومواجهتهم حالة الحرب وتدابيرها الشديدة وبمقابلتهم المجلس العسكري الفرنسي وأحكامه الظالمة بعزيمة قوية وإيمان راسخ، منقذين على هذه الكيفية شرف الأمة السورية الذي أضاعه المتزعّمون المنافقون الذين ما كادت الجيوش المحتلة تكشر عن أنيابها حتى ألقوا سلاحهم ونسوا إيمانهم وخضعوا للمشيئة الأجنبية، ثم رفع الزعيم كأسه وقال إنه يشرب نخب هؤلاء الأبطال الذين بيّضوا صفحة القومية السورية ورفعوا عار الضيم عنها ودعا الجمهور إلى مشاركته فشرب الجميع نخب أركان الحزب السوري القومي.
وبعد ذلك أشار الزعيم إلى الجمهور بالقعود فقعدوا.
عاد الزعيم إلى الكلام فأتى بلمحة عن شخصيات ثلاثة من أركان الحركة السورية القومية وأعمالهم ضارباً بهم المثل في الإخلاص والتضحية في سبيل الحزب والقضية المقدسة وهم الأمين نعمة ثابت والأمين مأمون أياس والأمين جورج عبد المسيح.
فوصف نشأة الأمين ثابت ودراسته في الجامعة الأميركانية والنعمة التي كانت لعائلته وكيف أنه كان يبذل كل ما كان يمكنه وفق ذلك أحياناً في سبيل القضية، حتى أنه في إحدى محن الحزب رَهَن باع سجادات القصر الذي تملكه عائلته ليسد حاجة مالية مستعجلة.
فذكر شيئاً عن نشأة الأمين أياس ومركز عائلته وتفانيه في سبيل الحركة القومية حتى أنه فضّل مغادرة مسكن أبيه على أن يخضع لضغطه عليه ليعدل عن اندفاعه في خدمة الحزب ولينظر في أمر مستقبله الشخصي.
فانتقل إلى الأمين جورج عبد المسح وأبان عن تضحياته بالمال وأمر مستقبله وبالمال الذي أرسله إليه أقرباؤه في المهجر ليهاجر ملتحقاً بهم وكيف أنه في إبّان محن الحزب كان يطوف في البلاد مشياً على قدميه ليثبّت الأعضاء في الفروع فكان يسير من بيروت إلى زحلة ومن هذه إلى مشغرة وجزين ثم يهبط إلى صيدا وصور ويعود إلى بيروت.
وفي تجواله في بعض المناطق الجبلية نقب نعل حذائه وتمزق وصارت رجلاه تقعان على حجارة الطريق فأصيبتا بجراح دامية.
فلما وصل إلى محجته وقام بمهمته حاول متابعة سيره ولكن الرفقاء هناك اكتشفا حالة رجليه فأمسكوه وأبوا عليه المسير حتى تبرأ جراحه وعمدوا إليه فضمدوا رجليه ووضعوه في الفراش حتى شفي وأوصوا له بحذاء جديد وزوّدوه بأدعيتهم.
وانتقل الزعيم إلى الكلام على الحركة القومية فتناول قول الرفيق جبران مسوح عن طريق الشدائد وقال إنّ شدائد كثيرة اعترضت طريق الحركة السورية القومية وهو أمر طبيعي لأن هذه الحركة تقوم بعمل عظيم شاق وترمي إلى تغيير وجه التاريخ. وأوضح الزعيم حقيقة بعض الصعوبات الداخلية وامتياز الحزب السوري القومي في أنّ حركته قومية عامة، بينما جميع الأحزاب والهيئات والشركات السياسية في سورية اعتمدت على فكرة الملّة أو الطائفة، ولذلك لم تتمكن هذه الهيئات من إحداث حركة أو ثورة عامة، ولا من إيجاد تعاون أكيد واسع بين عناصر كثير من جميع الملل.
تطرّق الزعيم، على الأثر، إلى ما أورده الرفيق سليم خبّاز عن الأعداء داخل الحركة.
فقال إنه لا أعداء للحركة السورية القومية في داخلها وأنه قد يندس، بين حين وآخر، بعض الأعداء في الصفوف القومية ولكنهم لا يلبثون أن يفتضح أمرهم فيرذلون ويطردون ويعودون بأخفافهم من حيث أتوا.
وزاد أنه يوجد عدد كبير ن ضعفاء النفوس يدخلون الحزب السوري القومي فيتفق أن تصيبهم قبل رسوخ الإيمان بعض الزعازع التي تلمّ بالحركات التي من نوع حركة الحزب السوري القومي فيظهر ضعفهم ويتزعزعون ويسقطون. وأردف أنه لا يخلو الأمر من بعض خيانات ولكنها قليلة وإدارة الحزب العليا لا تتوانى في استئصال شأفتها.
مما قاله الزعيم وكان له أحسن وقع هو أنّ الحزب السوري القومي لا يعتمد في إيمانه بنجاح قضيته المقدسة، على أساس الأفراد ورضاهم، بل على العقيدة وحدها.
«إنّ الأشخاص يجيئون ويذهبون ويتبدلون ولكن العقيدة هي الأساس الراسخ، الثابت على الأيام والسنين والعقود والأجيال. وإنّ العقيدة السورية القومية والنظام السوري القومي، اللذين قد أصبحا قبلة أنظار الشعب السوري، لا يمكن ولا يجوز أن توضع قيمتهما في محل قيمة الأفراد.
ولا يمكن ولا يجوز أن يكون الأفراد محكاً لهما، بل يمكن يجب أن يكون العكس، أي أن يكونا هما محكاً للأفراد. فحين الاختيار بين العقيدة والنظام من جهة وفرد أو أفراد من جهة أخرى نحن لا نتردد في التمسك بالعقيدة والنظام وترك الأفراد لمصيرهم.
وفي مثل هذه الظروف نبذت الحركة القومية عدداً من الأفراد لا يبلغون الواحد في الألف أو الألفين من القوميين» (هتاف وتصفيق).
وحمل الزعيم على المأجورين من الدعاوات الأجنبية ذات المطامع الاستعمارية ليشوهوا سمعة الحزب السوري القومي باتهامه بالعمل لمصالح بعض الدول الأجنبية وشبّههم بالمشعوذين الذين يلفتون أنظار الناس إلى عمل أو حركة بينما هم يقومون بلعبتهم الخفية أثناء انشغال الناس بما يغرونهم بتتبعه.
فقال إنّ هؤلاء المأجورين المتمرين في فن الخداع أخذوا يرمون الحزب السوري القومي بالتّهم الواقعين هم تحتها ليحوّلوا أنظار الناس عنهم ويخفوا حقيقتهم الأثيمة وراء ستار الغيرة الزائفة بالطعن في الحركة القومية التي فضحتهم وشعوذاتهم.
وبعد أن شرح الزعيم نفاق أصحاب العروبة الدينية والمتاجرين بها وأصحاب دعوة «الاستقلال اللبناني» وأوضح التصادم الداخلي بسبب هذه الدعاوات الفاسدة أظهر كيف تجعل الحركة السورية القومية أبناء الأمة السورية متكاتفين ومتجهين اتجاهاً واحداً لمقابلة العدو الخارجي كيف أنّ الأحزاب الملّية تجعلهم متقابلين بعضهم ضد بعض بينما الأجانب يطعنون في جوانبهم.
قوطع الزعيم مراراً بالتصفيق الشديد. وختم خطابه برفع كأسه نخب حياة الحركة السورية القومية وتقدمها ومستقبل الأمة السورية الحرّة وسيادتها. فنهض الجمهور وشارك الزعيم فكان مظهراً مؤثراً جداً.
أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،
العدد 39 ــــ 40، 1/3/1942