الحالة السياسية -الحربية الحاضرة
بعد سقوط فرنسة في أواسط سنة 1940 بسرعة خاطفة كثرت تكهنات البسطاء عن قرب انتهاء الحرب.
وكثيرٌ من هؤلاء ظنوا أنّ المسألة في غاية البساطة وأنهم سيستيقظون في صباح أحد الأيام الباقية من صيف السنة المذكورة ليسمعوا ويقرأوا أنّ القوات الألمانية قد اجتاحت الجزيرة البريطانية,\، وأنّ قواتها الجوية قد محقت الأسطول البريطاني، وأنّ الحكومة البريطانية قد هربت أو طلبت الصلح.
وبديهي أنّ سرعة انتصار القوات الألمانية المدهش في غرب أوروبا وشمالها كانت سبباً كافياً لتبرير كل تكهن من هذا القبيل عند الذين لا يعرفون شيئاً من دخائل الأمور السياسية ــــ الحربية الإنترناسيونية.
مرّت بقية سنة 1940 دون حدوث الهجوم العام المنتظر على الجزيرة البريطانية.
ولكن الجزيرة المذكورة لم تبقَ في مأمن فإن القيادة العليا الألمانية شنت عليها الغارات الجوية من جميع الشواطىء الأوروبية التي صارت في يدها وأبلتها بطوفان من القنابل خرب مدنها وعطل موانئها وهدم معاملها إلا القليل وشلّ حركتها الصناعية مدة طويلة.
وفي الوقت عينه كانت الغواصات الألمانية تقطع الطريق على البواخر الحاملة المؤن والمواد الأولية والآلات والذخائر إلى الجزيرة ففتكت بالمراكب التجارية فتكاً ذريعاً.
ولأول مرة في تاريخ الجزيرة البريطانية أحدق بها خطر عظيم كهذا الخطر الذي خبرته بين خريف 1940 وربيع 1941.
فشعر البريطانيون في أعماق قلوبهم، ولأول مرة في حياة نفوذهم، أنّ ساعة رهيبة تدنو بسرعة وأنه لا بدّ لهم من مواجهتها.
فلم يتنفس البريطانيون الصعداء إلا حين هجمت ألمانية على روسية في صيف 1941.
بين سقوط فرنسة والهجوم على روسية حدثت تطورات حربية وسياسية كثيرة.
فبعد أن قامت إيطالية بهجوم ابتدائي في إفريقيا واستولت على الصومال البريطاني وتقدمت من جهة القيروان وخرقت حدود مصر قام البريطانيون بهجوم واسع كانوا قد أعدوا له عدته فسحقت قواتهم جيش المارشال غرتزياني في ليبيا وجيش الأمير داوسطا في الحبشة واستعادت الصومال البريطاني.
واضطرت ألمانية لنجدة حليفتها في شمال إفريقيا محافظة على الموقع الاستراتيجي في المتوسط فوصلت النجدات إلى طرابلس الغرب وتمكنت قوات المحور من استعادة القيروان وبلوغ الحدود المصرية ثانية.
ومع أنّ النهضة الفاشستية في إيطالية قد رفعت كثيراً معنويات الشعب الإيطالي عامة، والجيش الإيطالي خاصة، فقد برهنت إيطالية في هذه الحرب على أنها إذا كانت قوة دفاعية ذات شأن كبير نظراً لموقعها الجغرافي ومواقع مستعمراتها الإفريقية فإنها ليست قوة هجومية ذات خطر كبير على الجيوش المعدودة من الطراز الأول في تدريبها.
فكما أنّ الفتوحات الإيطالية في إفريقية لم تثبت أمام هجوم القوات البريطانية كذلك الهجوم الإيطالي في نوفمبر/تشرين الثاني 1940 على إغريقية تحوّل إلى شبه نكبة على الجيش الإيطالي.
فتراجع هذا الجيش أمام حركات جيش الجنرال الإغريقي، فافاغس، الذي قام بهجوم معاكس ودخل في أراضي ألبانيا التي انسحب إليه الجيش الطلياني، حتى اضطرت ألمانية للإسراع إلى نجدة حليفتها في هذه الجبهة وترتيب الوضع البلقاني بنفسها.
وبسبب نجاح السياسة البريطانية في صقالبة الجنوب (يوغوسلافية) وانقلاب حكومة تلك البلاد التي قبلت الاتفاق مع ألمانية اضطرت ألمانية لمهاجمة صقلبية الجنوبية وإغريقية في آنٍ واحد في شهر مارس/أذار 1941.
وانتهى هذا الهجوم إلى الاستيلاء على البلادين وجزر الأرخبيل اليوناني وعلى الجزيرة الكبرى كريت، التي تُعدّ مكان قفز نحو قبرص وسورية.
وفي شهر أبريل/نيسان ردّت الدبلوماسية الألمانية للدبلوماسية البريطانية فعلها. فكما ساعدت الحكومة البريطانية على إحداث الانقلاب في صقلبية الجنوب كذلك ساعدت الحكومة الألمانية على إحداث الانقلاب في العراق.
فقام رشيد عالي الكيلاني على حكومة عبد الإله الوصي على عرش العراق.
فهرب عبد الإله إلى البصرة ومنها إلى فلسطين وعبد الإله موالٍ للإنكليز.
وقد حاولت بريطانية أن تدغدغ مطامع الكيلاني فقالت إنها تعتبر حكومته حكومة فعلية أي ناقصة الصفة الحقوقية. وهذا كان تساهلاً لتقريب الكيلاني.
ولكن لم تصل بريطانية إلى ما ترغب فيه فأنزلت قوات في العراق وألحقت بها قوات جديدة.
فحاولت حكومة الكيلاني الوقوف في وجه القوات البريطانية فنشبت الحرب وكثُرت التكهنات عن قرب توجُّه قوات ألمانية لمساعدة الكيلاني.
ولكن الكيلاني لم يكن لألمانية إلا ما كانه الملك الصقلبي الجنوبي، بطرس، لبريطانية. فاحترق الكيلاني بنار الإنكليز كما احترق الملك بطرس بنار الألمان.
بعد أن أخمدت بريطانية ثورة الكيلاني في العراق رأت وجوب إخراج القوات الفرنسية من شمال سورية لأن فرنسة كانت قد أظهرت رغبة في التقرب من الألمان وميلاً إلى موافقتهم.
وقد كانت مقابلة بتان وهتلر في منتوار عملاً كبيراً من هذا القبيل.
ففي السابع من يونيو/حزيران 1941 زحفت القوات البريطانية المرابطة في فلسطين نحو الشمال.
ثم زحفت قوة أخرى من جهة العراق.
فقاومت القوات الفرنسية بقيادة المفوض الفرنسي دنتز وبعد نحو شهر سلّمَ الجنرال دنتز تحت شروط اتفاقية وُقّعت في عكّا في 12 يوليو/تموز واستولت القوات البريطانية على جميع المراكز التي كانت للفرنسيين في شمال سورية. ولكن بريطانية أرادت استرضاء الفرنسيين فأعلنت أنها سوف لا تُلحق شمال سورية بمنطقة نفوذها وأنها تعترف بأسبقية المصالح الفرنسية.
ولذلك جعلت إدارة لبنان والشام تحت سيادة الفرنسيين المتطوعين مع بريطانية. وقبل تسليم القوات الفرنسية أفرج عن معتقلي الحركة السورية القومية الأبطال المحكوم عليهم من المجلس العسكري.
بينما الأمور المتقدم ذكرها تجري في الشرق الأدنى إذا بالأخبار ترد عن حشد قوات ألمانية وروسية على حدود الدولتين.
وفي الثاني والعشرين من يونيو/حزيران 1941 بينما البريطانيون منهمكون في سورية فوجىء الناس بالهجوم الألماني على روسية فدهش جميع الذين كانوا يظنون ويذيعون أنّ ألمانية وإيطالية وروسية قد اقتسمت مناطق النفوذ في النظام الجديد فيما بينها.
الحقيقة أنّ الحرب بين ألمانية وروسية كانت مسألة وقت.
فالاتفاق بين ألمانية وروسية في سنة 1939 على حساب بولونية ودول البلطيق لم يكن سوى اتفاق ضرورة وربح وقت من الفريقين.
فروسية قد قاومت بكل قواها تقدم الفاشستية الإيطالية والاشتراكية القومية الألمانية لأنها لم تشأ أن يوجد في أوروبا نظام اجتماعي ــــ اقتصادي جديد يزاحمها في مطامح بسط النفوذ في أوروبا.
فروسية لم تهمل مسألة الجمعية الصقلبية حتى تمسكت بمسألة جامعة العمال التي يكن مركزها موسكو. وبواسطة مبادىء هذه الجامعة تدخلت روسية في شؤون فرنسة الداخلية وفي شؤون إسبانية، وفي هذه البلاد رمت إلى أخذ الحكومة الجمهورية الاشتراكية تحت حمايتها.
وكانت العداوة بين الشيوعية والفاشستية قد استحكمت، لأن الفاشستية أوجدت اتجاهاً ينفي الشيوعية ويزاحم حركتها على قيادة الجماعات الاقتصادية.
فآزرت إيطالية الجنرال فرنكو وأمدّت ثورته بالعتاد والذخيرة. في حين آزرت روسية حكومة الجمهورية الاشتراكية وأمدّتها بالعتاد والذخيرة. ولعل أول مساعدة وصلت إلى إسبانية كنت مساعدة روسية.
وانضمت إليها فرنسة على زمن حكومة الجبهة الشعبية.
وانضمت ألمانية إلى إيطالية في مساعدة فرنكو.
فكانت الحرب الأهلية الإسبانية حرب نزاع بين حركتي الفاشستية ــــ الاشتراكية القومية والشيوعية ــــ الاشتراكية أو بالأحرى بين النفوذ الروسي ــــ الفرنسي والنفوذ الإيطالي ــــ الألماني. فانتصرت جبهة إيطالية وألمانية على جبهة روسية وفرنسة وبقربهما بريطانية لم تنفك روسية عن المسألة الإسبانية حتى حوّلت عنايتها كلها إلى فرنسة.
وفي هذه الأثناء كانت الاشتراكية القومية الألمانية الجديدة في الحكم قد خطت خطوات واسعة نحو تنفيذ مساق مطامحها في توسيع حدود الامبراطورية الألمانية وضم ما أمكن من الأقطار الجرمانية تحت سلطتها المركزية أو تحت نفوذها لتكون لها اليد العليا في الشؤون الأوروبية وفي النظام السياسي ــــ الاقتصادي الإنترناسيوني.
فما كادت تنتهي مسألة إسبانية حتى قامت ألمانية تطالب بمنطقة السوديت من تشيكوسلوفاكية. فرفضت هذه التخلي عن هذه المنطقة، بناءً على المعاهدات والضمانات الإنترناسيونية، خصوصاً من بريطانية وفرنسة وروسية.
فحرضت روسية حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية.
ولكن فرنسة كانت مشلولة الروح فشعرت بعجزها عن خوض حرب جديدة وشعرت بريطانية بأنها ليست على استعداد.
فكان مؤتمر منخن (ميونيخ) في سبتمبر/أيلول 1938 ضربة على خطط روسية فقامت قيامة صحافتها وسلقت بريطانية وفرنسة بألسنة حداد وأظهرت أنها كانت على أهبة الإسراع لنجدة تشيكوسلوفاكية وأنّ موقف بريطانية وفرنسة كان شبه خيانة لتشيكوسلوفاكية.
ولكن الدبلوماسية البلشفية رأت فيما بعد أنّ السكوت أفضل.
فلما برزت مسألة دانتزغ قبلت التفاهم مع ألمانية على حصة من بولونية وسيادة على لتوانية ولتوانية وأستونيا ونفوذ في فنلندا.
وكان هذا التفاهم ضرورة قضت بها الظروف وكان موافقاً للفريقين.
فألمانية أمنت التصادم مع روسية والمحاربة في جبهتين.
وروسية ربحت قسمً من بولونية وضمت دول البلطيق إلى نظامها السوفياتي وربحت، فوق ذلك، وقتاً كافياً لإكمال جهاز حصونها وزيادة تدريب جيوشها واكتساب الدروس الاستراتيجية والتحريكية والتكتيكية من كل صنف من الحروب التي ستحدث وهي على الحياد ولزيادة معداتها وصنع ما تجد أنها ستفتقر إليه.
وهي خطة فيها مقدار غير يسير من الدهاء.
ومهما لامت بريطانية روسية على عدم اشتراكها في الحرب منذ البدء فيصعب كثيراً الاقتناع بأن وجهة النظر البريطانية هي أفضل من الخطة التي رسمتها روسية لنفسها.
وقد برهنت الحرب التي نشبت بين ألمانية وروسية أنّ هذه الدولة لم تقضِ الوقت في اللهو وأنها في نحو سنتين رفعت مقدرتها الحربية إلى مستوى عالٍ.
وقد اعترف الفوهرر الألماني في الخطاب الذي ألقاه في منخن في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أنّ القيادة الألمانية غلطت في تقدير استعدادات روسية الحربية.
ومهما يكن من أمر الانتصارات الكبيرة التي أحرزتها ألمانية فالظاهر أنّ غلط قيادتها في الحساب كان كبيراً إلى درجة اضطرت معها لوقف القتال والتراجع عن رسطف باب القوقاس وعن موسكو.
ومع أنّ السبب الظاهر الأكبر لهذه الحالة هو زمهرير الشتاء الروسي وثلجه فلا يقلل ذلك من مبلغ غلط القيادة الألمانية في تقديرها. ولكن هذا الغلط يعوّض، نوعاً، بالنظر إلى المستقبل إذ لو تركت ألمانية روسية سنة أخرى انهمكت فهيا بحرب واسعة في جبهة أخرى كالجزيرة البريطانية وإفريقيا والسويس في طريق الهند لكان الأرجح أن يصبح الانتصار عليها صعباً جداً وكذلك اتّقاء هجومها هي على ألمانية في فرصة مناسبة.
وفي إبّان الهجوم الألماني على روسية تنفست بريطانية الصعداء وصار يلاحظ في لهجة رجالها المسؤولين، خصوصاً السيد تشرشل، رئيس الوزارة، عودة إلى الرصانة والشعور بالثقة.
فلم تعد خِطب تشرشل مملوءة بالسباب والقذف على هتلر وموسوليني اللذين كانا دليل اليأس وفقد السيطرة على الموقف، بل صارت عبارات موزونة ملبسة قناع المهابة الذي طالما تعودت الدبلوماسية البريطانية استعماله بنجاح باهر.
وكانت الولايات المتحدة، في هذه الأثناء، قد تقدمت كثيراً نحو الحرب، حتى أنها أصبحت في حالة شبه حربية. فجاءت الحرب الألمانية ــــ الروسية فرصة ثمينة لبريطانية والولايات المتحدة لم تضيعاها.
فجرت في أغسطس/آب الماضي المقابلة الشهيرة في عرض الأطلسي بين رئيس الوزارة البريطانية، السيد تشرشل، ورئيس الولايات المتحدة، السيد روزفلت، التي أسفرت عن النقاط التي تسميها الإذاعة «الديموقراطية» «دستور الأطلسي». ونص التصريح الموقع من الممثلين هو كما يلي:
«التصريح المشترك من رئيس ولايات أميركا المتحدة ومن رئيس الوزارة السيد تشرشل الممثل لجلالته في المملكة الموحدة.
«اللذين رأيا من الموافق، بعد اجتماعهما، نشر مبادىء عامة لسياستي بلاديهما القوميتين اللتين تبنيان عليها آمالهما بمستقبل خيّر للعالم وهي:
1 ــــ «إنّ بلاديهما لا تطمعان في أي تكبير أرضي ولا غيره.
2 ــــ «ولا ترغبان في أي تغيير أرضي لا يكون منطبقاً على الرغبات المصرّح بها من قِبل الشعوب ذات المصلحة.
3 ــــ «وهما تحترمان حقوق جميع الشعوب في اختيار شكل الحكم الذي تحيا في ظله وتودان أن تريا عودة حقوق السيادة والحكومة الذاتية إلى الأقطار التي جرّدت من هذه الحقوق بالقوة.
4 ــــ «مع تقيدهما بالاحترام اللازم لواجباتهما الموجودة، ستحاول الأمّتان تشجيع حصول جميع الدول، الكبيرة أو الصغيرة، الغالبة أو المغلوبة على حق التمتع بالوصول، في شروط متماثلة، إلى الأسواق التجارية والمواد الأولية في العالم التي يقتضيها نجاحها الاقتصادي.
5 ــــ «إنهما ترغبان في الوصول إلى أكمل حالة من التعاون في الميدان الاقتصادي، بقصد تأمين الجميع على شروط أفضل للعمل والتقدم الاقتصادي والأمان الاجتماعي.
6 ــــ «وإنهما ترغبان، بعد سحق الطغيان النازي نهائياً، في إيجاد سلام يمكّن جميع الأمم من أسباب الحياة بأمن ضمن حدودها الخاصة، ويضمن لجميع الناس في جميع الأقطار أنهم يقدرون أن يحيوا حياتهم أحراراً من الخوف والتقتير.
7 ــــ «يجب أن يسمح هذا السلام لجميع الناس بقطع البحار والمحيطات بدون عراقيل.
8 ــــ «وتعتقدان أنه يجب على جميع أمم العالم، لأسباب وضعية وروحية، أن تصل إلى التخلي عن استعمال القوة.
«وبما أنه لا يمكن حفظ أي سلام مقبل ما دامت أسلحة البر والبحر والجو مستعملة من قبل الأمم التي تهدد أو تقدر أن تهدد بالاعتداء خارج حدودها، فإنهما تعتقدان أنه ضروري نزع سلاح هذه الأمم بينما ينشأ ترتيب دائم أوسع من الأمن العام.
«وإنهما تساعدان على تقوي جميع التدابير العملية الأخرى التي من شأنها تخفيف عبء التسليح المثقل عن كواهل الشعوب المحبة للسلام».
(التوقيع): فرانكلن روزفلت ــــ ونستن تشرشل.
وقد نعود إلى معالجة هذا التصريح التقليدي في عدد آخر. فنكتفي الآن بالقول إنّ هذا التصريح يصح فيه القول «إسمع تفرح جرّب تحزن».
فهو تصريح يتضمن وعوداً عرضة لتفسيرات مختلفة.
وإننا نسأل: هل يدخل ضمن نطاق البند السادس حقوق الشعب السوري في الحياة الحرة؟ وهل يسري عليه منطوق البند الثالث في اختيار نوع الحكم الذي يرغب فيه؟ والظاهر أنّ الفقرة الثانية من البند الثامن موجهة بصورة خاصة إلى الأذهان الفرنسية لتشوّقها إلى الانتقاض على سياسة التفاهم مع ألمانية وإلى سحق هذه الدولة وتطبيق وجهة النظر الفرنسية عليها بتجريدها من كل إمكانية للقوة.
والحقيقة أنه ليس في تصريح المحيط الأطلسي ما يسيغ قبوله بصفة دستور لحياة الأمم أو للنظام الإنترناسيوني، إذ لم يكد يجف حبره حتى أعلن تشرتشل أنّ منطوقه لا يطبّق على الهند.
وبينما الهجوم الألماني على روسية يصل إلى آخر إمكانياته قبل دخول فصل الشتاء القاسي العائق عن الحرب الهجومية كانت اليابان تُعدُّ العدة لإنزال ضربة قوية بقوات الولايات المتحدة البحرية.
وفي السابع من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، بينما مندوبها فوق العادة وسفيرها في واشنطن يتابعان المفاوضات مع وزارة خارجية الولايات المتحدة، انقضّت قواتها الجوية على الموانىء الأميركانية الحربية في جزائر هوايــي، وأهمها بيرل هاربر، فأخذت الأسطول الأميركاني الراسي والحامية الأميركانية على حين غرة فأوقعت بالأسطول والحامية خسائر جسيمة.
فكانت بطشة شديدة من بطشات التاريخ عقبتها بطشتها بالمدرعة البريطانية العظيمة «برنس أوف ويلس» والطراد الثقيل «رفلس» في الجانب الشرقي من شبه جزيرة ملكة.
وهاجم الجيش الياباني شبه الجزيرة المذكورة في اتجاه قاعدتها البحرية الشهيرة التي حصَّنتها وزارة بالدوين تحصيناً عدّته اليابان عملاً عدائياً أو غير ودّي نحوها.
وبينما نحن نكتب الفقرات الأخيرة من هذا الاستعراض ورد خبر موثوق بسقوط حصن سنغافورا في السادس عشر من هذا الشهر، فبراير/شباط، وباستيلاء الجيش الياباني على جميع موانىء الجزيرة ومنشآتها وحصونها.
فكان سقوط سنغافورا أعظم ضربة أصابت العزَّة البريطانية كما أصابت ترتيب دفاعها في غرب المحيط الهادىء والشرق الأقصى.
استفادت روسية وبريطانية من وقف الهجوم الألماني أثناء الشتاء، الأولى لتعيد التهجير وتستعيد بعض المواقع وتستعد للمعارك المقبلة، والثانية لتملأ العالم الغربي ومناطق نفوذها بالإذاعة عن الانتصارات الروسية «الباهرة» وانخذال القوات الأمانية.
أما المساجلة في إفريقيا الشمالية بين قوات المحور والقوات البريطانية فلم تتعدّ حتى الآن الصفة المحلية.
دخلت سنة 1942 وسيطرة المحور في أوروبا قد تشددت، على الرغم من جميع الإشاعات عن الثورات في الصرب والإغريق، وجميع حوادث الاغتيال والإرهاب في فرنسة، وعلى الرغم من جميع أخبار الانتصارات الروسية.
وها الربيع الشمالي قد أصبح على الأبواب، ووراء أبوابه مفاجآت لا يمكن تعدادها أو وصفها.
ولكن يحتمل أن تتناول الشرق الأدنى فتصير سورية ميداناً مرة ثانية لهذه الحرب الضروس، وينتظر أن تصل إلى الهند التي تطرق الجيوش اليابانية أبوابها من جهة الشرق.
إنّ موارد الولايات المتحدة المادية عظيمة وكذلك موارد الامبراطورية البريطانية.
ولكن المادة وحدها لا تقدر أن تقرر مصير شيء، وربح حرب كالحرب الحاضرة لا يكون بتصريحات في الأطلسي ولا بالتفاؤل بعظم الثروة وسعة الموارد. ونزع السلاح العصري من أمم، وتسليح أمم أخرى لا يكفي لإيجاد الأمن في العالم.
وإنّ مهمة ألمانية شاقة، والقوة الحربية والنظام العسكري لا يكفيان لإيجاد استقرار عالمي. ولا نتوقع أن تكون المفاجآت من جانب واحد فقط. فلا يعلم أحد ما هي خطة الأميركان.
أما ما يختص بموقف سورية القومية فنقول إنها لن تتعلق ببريق الوعود من أي جانب أتت.
إنّ موقفنا في هذه الحرب لا يتقرر بالوعود الأجنبية بل بالإرادة القومية التي أعلنها الزعيم في أول يونيو/حزيران 1935، وجميع الأحزاب التي تؤلفها في سورية الدول الأجنبية ستضمحل تحت حرارة الحركة السورية القومية كما يضمحل الثلج تحت حرارة الشمس.
إنّ الأحزاب التي تغذيها الإرادات الأجنبية وتعضدها الدعاوات الأجنبية ستنبذها الأمة، وتقضي عليها قوة المبادىء القومية والنظام القومي.
أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،
العدد 38، 15/2/1942